مقاصد القضاء في الإسلام (التنظيم القضائي) [الجزء الأول]

الدكتور / حاتم بوسمة

صفحة جزء
تمهيد

الحمد لله، الذي راعى مصالح العباد وسائر المخلوقات في جميع الأمكنة والأوقات، ودرأ عنهم المفاسد والمضار ومختلف المهلكات، نحمده أن غرس بذور الصلاح والإصلاح في الأمة والأفراد، ونشكره جل جلاله وعز جاره على ما منح من قدرات فكرية تساهم في تبسيط النهج القويم وتهدي إلى صراط الله المستقيم قصد بلوغ رضاه، إنه هو العزيز العليم.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل منصب القضاء من أشرف المناصب، وأعد لمن عدل فيه جليل المواهب وشريف المراتب، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الصالح المصلح المصباح المضيء بنور الله في حنادس الظلام، أرسله ربه لوضع الشريعة الغراء ورفع مباني الملة البيضاء، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه الذين أظهروا الدين وقضوا بالحق المبين.

وبعد:

فإن البحث في "مقاصد القضاء في التشريع الإسلامي"، يستلزم حتما جهدا ووقتا، فالموضـوع متشعـب الجوانب متعدد المصادر غني المادة، ومن ثم فإن جهدي هنا يقف عند حد استظهار الأسس الفـكرية والروحية التي يقوم عليها القضـاء، ودراسـة علله التشريعية وما تضمنته من حكم [ ص: 23 ] ومصالح، وإلقاء بعض الضوء على جملة من أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه، وأقضية الصحابة، رضوان الله عليهم، ومن بعدهم من أئمة العدل، ليس باعتبارها أقضية عملية تأسيسية، بل باعتبارها حقا تتضمن علل التشريع، وهي إلى ذلك ترجمة عملية لمقاصد الشريعة، وذلك بغية بلورة منظومة تشريعية قضائية مقاصدية.

والقضاء عامة من أهم وظائف الدولة، وهو في الإسلام من أهم الولايات التي تنهض عليها الأمة في سياسة الدنيا وحراسة الدين، ولعل شدة تعلقه بالحياة العملية، جعله منشأ اهتمام الفقهاء ومحط أنظارهم.

ويرتبط النظام القضائي بالجماعة البشرية ومستواها المدني والحضاري، فطبيعة المجتمع وهي فطرة الإنسان تحول دون عزلة الفرد عن الجماعة، وتوجد نوعا من العلاقات الاجتماعية، إيجابية وسلبية، تتعقد كلما تعقدت الحياة بتطور المدنية، فيزداد من ثم تشابك مصالح الأفراد وتعارضها بما يفضي إلى التصادم والخصومات والمنازعات، وتحتاج إلى من ينظر في هذه الخصومات ويفصل بين المتنازعين كيلا يعيش الناس فوضى >[1] .

وحول هـذه الفكرة "المدنية المتمدنة" يقول الجاحظ: "إن الناس يتظالمون فيما بينهم بالشـره والحرص المركب في أخـلاقهم فلذلك احتاجوا إلى الحكام" >[2] . [ ص: 24 ]

وفي عصر البعثة وإلى عهد غير بعيد منه، تكاملت المبادئ العامة لنظام القضاء في الإسلام، واستقر بنيانه، فكانت أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه، وأقضية صحابته، رضوان الله عليهم، سنة متبعة ومنارات هداية تتكشف في ضوئها القضايا.

وقد تضافرت الأدلة من النصوص على اعتباره وعلى وجوب إقامته، إذ به دفع الظلم ونصرة المظلوم ومنع الظالم من الاعتداء على الأمن والحرمات، وبه تحقق الأهداف العليا لصيانة المجتمع، فأي تقصير في هذا المجال لا بد آيل إلى زعزعة أمن الناس واستقرارهم، واختـلال نظام الأمة ووهنها واختلاف كلمتها، لتفشي أسباب النـزاعات والخصومات بينها، قال الله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251)، وقال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج:40).

وقد أدى الاهتمام المتزايد به إلى جدل طويل حول الوسيلة المثلى لسلامته، فنشأ عن ذلك عدة قواعد تؤكد استقلاله وتضمن نزاهته لتتحقق غاية الشريعة منه وهي إقامة العدل، ولكن أي عدل تسعى الشريعة إلى تحقيقه؟ هل من غايات الشريعة وأهدافها الوقوف عند حد إقامة العدل؟ أليس في إقامة العدل مفاسد من غايات الشريعة الأساسية درؤها؟ ألا تؤدي إقامة العدل أحيانا إلى انخرام الروابط الأسرية وتفتيت أواصر المجتمع؟ كيف نوازن بين [ ص: 25 ] قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد؟ هل يمكن أن نتجاوز قاعدة الحكم بـ"العدل" إلى العمل بـ"الإحسان" مصداقا لقول الله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90)؟ ألا يتعارض هذا القول مع وجوب الاقتصار على العدل وعدم تجاوزه بأي حال بصريح قوله تعالى: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)؟ كيف تساهم دراسة مقاصد الشريعة وعلل الأحكام في تجديد الأنظار الفقهية بما يوائم بين الثوابت الحضارية ومتغيرات العصر الراهن؟

وما دعاني لاختيار هذا الموضوع أمور منها:

1- لما قامت الشريعة الإسلامية على تحقيق المصالح وجلبها لما فيها من منافع، وداعية إلى تعطيل المفاسد ودرئها لما فيها من مضار، ونظرا لتجدد المصـالح وتنوعها وتعددها وتطورها من زمن إلى آخر، جاءت الضرورة للبحث فيها.

2- لما كانت بحوث فقهاء الإسلام في هذا المجال مندرجة في المطولات من العلوم الشرعية، وكان الإطلاع عليها من الأمور العسيرة فضلا عن دراستها وفهمها، بسبب تبعثر موادها في مصنفات عديدة وتعلقها بمسائل أصولية وفقهية، كانت الحاجة داعية إلى إفرادها ببحث مستقل يتتبع جزئياتها بغية نظمها في عقد شرعي مقاصدي قضائي.

3- لما كانت أغـلب المصنفات والبحـوث والدراسـات على أهميتها لم تتناول بالدرس إلا فقه القضاء شرعا أو قانونا أو جمعا بينهما، وأهملت [ ص: 26 ] البحث في غايات التشريع وأهدافه، جاء هذا الكتاب ليكشف بالذات عن هذا الجانب المغيب، وليبرز لنا علاقة الناحيتين الدينية والأخلاقية بالناحية القانونية من الدراسات الشرعية، وهذا يقودنا إلى معرفة الأسس الروحية السامية لأحكام القضاء الإسلامي، ومن ثم مقاصد الشريعة من أحكام القضاء والشهادات أو أسرار التشريع الإسلامي.

والذي تنبغي الإشارة إليه، أن هذا الموضوع ليس بدعا من القول، فخلال عصور عديدة ومع مزيد تعقد الحياة الاجتمـاعية وتداخـل علاقات الأفراد بما يفضي إلى التصادم والخصومات، وما تقتضيه من أحكام وقوانين تبين الحقوق والواجبات، وقضاء يفصل بالعدل والحق في المنازعات، بدأت تبرز بوادر بحوث ودراسات، تعددت فيها المناهج والمذاهب والنظريات.

وقد تعمق أصحابها في درس مقاصد التشريع وغاياته، ولاحظوا في بحوثهم النظرية ومن خلال خبراتهم العملية، أن القوانين عموما ليست مجرد أطر فنية أو قوالب نصية، بل هي صياغة لعلل وأهداف ومقاصد، تقوم هذه القوانين على أساسها وتسعى لتحقيقها.

وممن عني بذلك من الغرب نذكر: "أوستن" و"دايساي" من الإنجليز، و"ايهرنغ" و"سافيني" من الألمان، و"روبييه" و"ريبير" و"جوسران" من الفرنسيين، ومن العرب "عبد الرزاق السنهوري" من مصر، و"شكري قرداحي" و"بشارة الطباع" من لبنان.

ومن قبل كان لعلماء المسلمين وفقهائهم عناية خاصة بعلل الأحكام الشرعية ومقاصدها. قام بذلك بوجه خاص إلى جانب أئمة المذاهب عدد كبير [ ص: 27 ] من علماء الأصول يضيق عن ذكرهم الحصر أشهرهم: إمام الحرمين الجويني، وأبو حامد الغزالي، والعز بن عبد السلام، وسيف الدين الآمدي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والشهاب القرافي، وابن نجيم الحنفي، وابن رشد الحفيد، وأبو إسحاق الشاطبي.

ثم قام من بعدهم محمد الطاهر ابن عاشور، واقتفى أثره في ذلك جملة من الباحثين المعاصرين في محاولة لرأب الصدع ووصل ما انقطع، ومن هنا كانت الحاجة ماسة لأمثال هذه البحوث والدراسات، إظهارا لهذا المخزون التشريعي والموروث الفقهي، ومحاولة لإبرازه في حلة جديدة، سهلة المنال قريبة الفهم لمن يعنى بفلسفة التشريع والدراسات الفقهية المقارنة.

وأما المنهج الذي اتبعته في هذا البحث فلم أخرج فيه عما حدده الغزالي في "شفاء الغليل" والشاطبي في "الموافقات" من أن المنهج العلمي الذي ينبغي أن يلتزم في الاجتهاد التشريعي، هو المنهج الاستقرائي التحليلي الغائي لا التقريري، بنـاء على أن أحـكام التشـريع الإسـلامي وقواعده ومبادئه غائية، بمعنى أنها شرعت وسائل تستهدف غايات معينة هي مصالح المكلفين، نفاذا إلى الفلسفة التشريعية أو المنطق التشريعي العام الذي ينطوي على الحكمة التشريعية أو المقصد العام الذي توخاه الشارع من كل منها.

لذا كان لزاما على الباحث في الفقه الإسلامي أن يولي جهده العلمي استجلاء هذا المنطق التشريعي العام بدءا من جزئياته ثم قواعده ومبادئه، لأنه روح التشريع ونفس الشرع. [ ص: 28 ]

ومعلوم أن مجرد سرد الحـكم مقرونا بدليله وبيان وجه الاستـدلال به، لا يرقى بالباحث إلى الأفق المنطقي الذي يمكن العقل من تمثل روح التشريع، والنفاذ إلى الحقائق الكبرى التي هي بينات الإقناع، هذا فضلا عما يفرضه المنهج الأصولي في الاجتهاد التشريعي، من أن يكون للظروف المتغيرة والوقائع المتجددة اعتبار ووزن في الاستدلال كلما اقتضى الأمر ذلك، تحريا للعدل في الحكم وتحصيلا للمصلحة المعتبرة شرعا.

التالي السابق


الخدمات العلمية