قراءة في فكر مالك بن نبي

الأستاذ / عبد الوهاب بوخلخال

صفحة جزء
أولا: إنسان ما بعد الموحدين: سمات وخصائص:

أ- هجرة الحضارة وشروط القراءة التاريخية:

إذا آمنا - مثلما آمن بن نبي - بأن الإنسان هو جوهر التغيير، وتلك حقيقة قرآنية يرتفع بها البيان الرباني إلى درجة السنة الـحاكمة لسير الإنسان فردا ومجتمعا وحضارة، حـين يقـول سبحانه: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)... أقول إذا آمنا بهذه الحقيقة/السنة، فإننا نكون ملزمين بضرورة الحديث عن هذا الإنسان المسلم الذي نأمل من خلاله أن يحدث التغيير أو على الأقل مقاومة التهديد الذي تفرضه العولمة بمنطقها الاستعلائي.

فبن نبي حين تحدث عن ظاهرة الاستعمار، حرص على أن يربط هذه الجزئية بأصل المشكلة، وهي كون الاستعمار فرعا من الانحطاط الحضاري [ ص: 102 ] الذي أصيبت به الأمة، فلا يمكن الحديث عن التخلص منه بمعزل عن التفكير في بعث حضاري جديد، وهو ما لا سبيل إليه إلا بإنسان جديد، والإنسان الجديد إنما تتحدد سماته وخصائصه بتجاوز إنسان الانحطاط والعودة إلى الإنسان المسلم في أصالته الأولى... فكان من المنطقي، وانسجاما مع منطق هذه الأطروحة، أن يبدأ بن نبي أولا بالحديث عن (إنسان الانحطاط) والذي أسماه (إنسان ما بعد الموحدين) ، وهي تسمية ارتبطت بالتحقيب الذي قرأ من خلاله بن نبي التاريخ الإسلامي، مستعملا في ذلك مفهوما إجرائيا اصطلح على تسميته (هجرة الحضارة) ، إذ يرى أن أي مجتمع عندما يفقد شروط التحضر "أي عندما تكف الرياح التي منحته الدفعة الأولى عن تحريكه، تكون نهاية (دورة) وهجرة (حضارة) إلى بقعة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة، طبقا لتركيب عضوي تاريخي جديد... وفي البقعة المهجورة يفقد العلم معناه كله، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم، وإرادته للعمل عندها يفقد الهمة وقوة (الإيمان)" (ص31).

فنحن في المنطقـة المهجـورة حضـاريا، أمام حالة (سكون) تختل فيها العلاقة بين شروط الحركة الحضارية، وتتفكك فيها الروابط التي كانت تجمع بين (الروح) و (العقل) و (الإرادة)، وهي العناصر التي تمثل (عوامل دفع) وفي الوقت ذاته (عوامل تنظيم) لكل حركة تاريخية تكون نتيجتها بناء حضارة جديدة. [ ص: 103 ]

وهذه من الأفكار التي عاد بن نبي لتطويرها فيما بعد في كتابه (ميلاد مجتمع) ، حيث ربط بين كل طور من أطوار الحضارة، وبين (عامل الدفع/التنظيم) فيه، فانتهى به التحليل إلى أن الحضارة - من هذه الزاوية - تمر بمراحل ثلاث هي: مرحلة (الروح) ومرحلة (العقل) ومرحلة (الغريزة)، ولكل مرحلة منها سماتها وخصائصها المميزة، فوجد أن "الحالة الكاملة فيها [وهي المرحلة الأولى] تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح) ومتصلة بالاعتبارات ذات الطابع الميتافيزيقي، والمرحلة التالية هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل) خاصة، ومتجهة نحو المشكلات المادية، أما المرحلة الثالثة، فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، ويصبح النشاط المشترك مستحيلا، ضاربا بأطنابه في أغوار الفوضى والاضطراب" >[1] .

فربطا بما سبق تكون ظاهرة (هجرة الحضارة) متطابقة مع مرحلة (تحكم الغريزة) في السلوك، حيث تخمد الروح ويتعطل العقل في مجتمع ما.

وقراءة التاريخ الإسلامي - كما يلح بن نبي - تقتضي من الدارس أن يتوسل برؤية يتجاوز في مداها ما يمكن عده ضمن (السببية التاريخية) وهي التي تنحو إلى تفسير الظواهر بأسبابها القريبة. [ ص: 104 ]

فالتاريخ الإنسـاني (الاجتمـاعي) أعقد من أن يفسر بأسباب قريبة أو بعوامل أحادية معزولة، فسقوط حضارة ما وارتفاع حضارة أخرى، أمر يصبح معه التاريخ "ضربا من الميتافيزيقا، إذ أن مجاله يمتد إلى ما وراء السببية التاريخية، كي يلم بالظواهر في غايتها"(ص25)، فدوما هناك "خلف الأسبـاب القريبة أسباب بعيدة تخلع على تفسـير التاريخ طابعا ميتافيزيقيا أو كونيا" (ص26).

وهذه الملاحظة تقودنا إلى نتيجة مهمة، تعد ضرورة منهجية لكل قراءة تاريخية واعية لمسار أية حضارة، يؤكدها بن نبي بقوله: "والواقع أن لنا هنا جانبين: الجـانب الميتافيزيقي أو الكوني، وهو جانب ذو هدف عام وذو غـاية، والجـانب (التاريخي) الاجتمـاعي، وهـو مرتبط بسلسلة من الأسباب.

والحضارة من هذا الجانب الأخير، تتمثل أمامنا كأنها مجموعة عددية تتتابع في وحدات متشابهة، ولكنها غير متماثلة، وهكذا تتجلى لأفهامنا حقيقة جوهرية في التاريخ هي (دورة الحضارة) وكل دورة محددة بشروط نفسية زمنية خاصة لمجتمع معين فهي (حضارة بهذه الشروط)، ثم إنها تهاجر وتنتقل بقيمها إلى بقعة أخرى، وهكذا تستمر في هجرة لانهاية لها، تستحيل شيئا آخر، لتعد كل استحالة تركيبا خاصا للإنسان والتراب والوقت" (ص27). [ ص: 105 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية