نحو قراءة نصية في بلاغة القرآن والحديث

الأستاذ الدكتور / عبد الرحمن بو درع

صفحة جزء
7- حسن النسق:

ومن مظاهر الانسجام أيضا حسن النسق:

وهو أن يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها واستقل معناها بلفظها؛ ومن أجمل ما ذكره أهل البلاغة والتفسير وعلوم القرآن في [ ص: 67 ] الآية الرابعة والأربعون من سـورة هود ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ) ، وما تحدث عنه ابن معصوم المدني في باب "حسن النسق" >[1] حيث بين تنسيق الصفات وهو ذكر كلمات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها، واستقل معناها بلفظها، وأكبر شاهد على ذلك فاتحة الكتاب، وقد بين الإمام البقاعي وجه الانسجام والتماسك في نص أم الكتاب، بقوله: "وكانت سورة الفاتحة أما للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله: ( اهدنا ) شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين ما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية ( إياك نعبد وإياك نستعين ) >[2] .

ونعود إلى آية ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) (هود:44)، لنلحظ أن جمل الآية معطوف بعضها على بعض بواو النسق، على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء [ ص: 68 ] عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة من الإطلاق من سجنها، ثم انقطاع ماء السماء المتوقف عليه تمام ذلك من دفع أذاه بعد الخروج ومنع إخلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقطاع المادتين الذي هو متأخر عنه قطعا، ثم قضاء الأمر الذي هو هلاك من قدر هلاكه ونجاة من سبق نجاته، وأخر عما قبله؛ لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم موقوف على ما تقدم، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف وحصول الأمن من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين لإفادة أن الغرق وإن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه >[3] . [ ص: 69 ]

ومنه قوله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) (النحل:90)، وعظ في ذلك بألطف موعظة، وذكر بألطف تذكرة، واستـوعب جميع أقسـام المعـروف والمنكر، وأتى بالطباق اللفـظي والمعنـوي، وحسن النسـق وحسن البيان والإيجاز، وائتلاف اللفظ مع معناه.

ومنه: ( أخرج منها ماءها ومرعاها ) (النازعات:31)، وهي آية محتوية على حاجات الحيوانات كافة، وهذا ما يسمى بالكلمة الجامعة أو جوامع الكلم، ومن ذلك قوله تعالى: ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) (الأنعام:151)، إلى آخر الثلاث الآيات الجامعة لجميع الأوامر والنواهى، ومصالح الدنيا والآخرة، وقوله: ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) (القصص:7)، يشتمل على أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين >[4] . [ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية