العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

صفحة جزء
المقدمة

الحمد لله الذي أخرج خير أمة للناس من بين أركمة التخلف في أودية التيه والضلال، والصلاة والسلام على من كانت بعثته إيذانا بانبعاث هذه الأمة إلى سماء المجد، وكانت هدايته معراجا لتحقيق هذا الانبعاث المتجدد في كل زمان ومكان.

أما بعد:

فإن أمة المسلمين تمر في هذه الحقبة بمنعطف تاريخي كبير، حيث تحاول صناعة مستقبلها بكل ما أوتيت من قوة، حيث تنتفض ضد أوضاعها الفاسدة المهترئة، وترتفع أصواتها منادية بالحرية والعدالة والكرامة والعيش الرغيد، وتدفع في سبيل ذلك أغلى ما تملك.

في هذه الأوقات الحرجة تشتد الحاجة إلى الأفكار السديدة والمناهج الرشيـدة، من أجل أن لا تتحـول تلك (الأصوات) إلى (أسواط)، وحتى لا تكتفي الجموع الهادرة بـإطلاق (الانفعالات) وتعطيل (الفاعليات)، وحتى لا تكتشف هذه الجموع أن فجرها الذي هللت له وكبرت قد صار فجرا كاذبا، تعقبه ظلمات حالكة وفتن مدلهمة، مما يؤدي إلى توسيع دوائر الإحباط وتعميق مساحات القنوط والسلبية. [ ص: 31 ]

إن أمتنـا في أمس الحـاجة إلى (الأفكار) التي تعيد صياغة (الأشخـاص) وتفعيل (الأشياء)، بطريقة بناءة تعتصر الجهود وتختصر الأوقات والتكاليف.

والواقع يقـول: إن أمتنـا غنية بمفـكرين عظام يمتلكون قناديل الهـداية، وبلاسـم العـافية بل وإكسير الحياة الحرة الكريمـة لهذه الأمة، ما امتـلكت إرادة السير في دربهم، وأجادت تحويل أفكارهم إلى معارج للرقي الحضاري.

ويأتي في مقدمتهم رجلان عظيمان، الأول: مفكر عربي امتلك مقدرة كبيرة على هندسة الأفكار وإضاءة مجاهل الحياة بطريقة فاعلة، وهو المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي ينتمي إلى بلد عظيم أجاد صناعة (الشهادة) إلى حد الإبهار، لكنه لم يحسن حتى الآن صناعة (الشهود) الحضاري، حاله في ذلك حال بقية البلدان العربية في هذا العصر.

أما الآخر: فهو مفـكر وداعية ومصـلح تركي، حباه الله بقدرات هائلة في التفكير والوعظ والدعوة والبناء، وأهم منها امتلاكه للكيمياء الفكرية، التي نجح بواسطتها في إبداع موازنات العروج الحضاري الذي تنشده هذه الأمة، وهو الشيخ محمد فتح الله جولن، الذي بدأ نضاله الحضاري في الأناضول.

إذن، سنناقش هذه القضية المهمة جدا في هذا الظرف التاريخي، من خلال الخطوات الآتية: [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية