العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

صفحة جزء
خامسا: الاهتمام بتكوين الحس الجمعي:

اهتم الرجلان اهتماما فائقا بقضية الفردية التي تفشل كل محاولات التوحد والائتلاف بين المسلمين، وتؤدي إلى إشاعة روح التمزق والتشظي، ودعيا إلى إعادة صياغة الفرد، بحيث يتحول إلى شخص وهو الوحدة الاجتماعية، لأنه يحمل في تكوينه استعدادات التآلف والتعاون مع الآخرين، بحيث يتحول إلى خلية في جسم الأمة.

لقد عالج كل واحد منهما هذه القضية بطريقته الخاصة، وتميز مالك بالاستفادة من نظريات علم الاجتماع في تحويل الأفراد إلى أشخاص، ففي تعريفه للمجتمع يجعل الأفكار مسؤولة عن تحويل الأفراد إلى أشخاص، فالمجتمع عنده: "ليس عددا من الأفراد، وإنما هو شيء خاص، هو بنيان وليس تكديسا من الأفراد، بنيان فيه أشياء مقدسة متفق عليها. فقبل أن تتجمع الأفراد تكون هناك فكرة عامة هي التي تؤلف بين أفراد المجتمع" >[1] . [ ص: 212 ]

واهتم مالك بتحقيق التوازن بين الفرد والمجتمع في دراسته لكثير من الموضوعات ذات الصلة بهما، ومن ذلك تحليله لموقف الإسلام من الديمقراطية، فقد اعتبر أن الإسلام "جمع موفق بين مزايا الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية" >[2] . ومن خلال تحليله العميق للعلاقة بين الديمقراطية والإسـلام، يتضـح تأكيده على أن الإسـلام يجمع بين محـاسن الفردية التي تقوم عـليها الليـبرالية، ومحاسن الجمعية التي تقوم عليها الاشتراكية >[3] .

وبتحقيق هذا التوازن الذي يسعى إليه، تستعيد الأمة فاعليتها، ويسمي مالك ذلك التوازن بـ"المعادلة الاجتماعية" >[4] .

وعالج مالك قضية العلاقة بين الأفكار والأفراد، وما يسبب انسحاب الأفكار من تقدم للأفراد، مما يؤدي إلى تضخم الأشخاص ويعمق ظاهرة التمزق والتشرذم داخل المجتمع الإسلامي.

وحذر من عواقب الشخصانية على كافـة الصعد - كما ذكـرنا في المبحث الثاني -، وقد أبرز هذه العواقب والآثار المدمرة حتى في تحليله للأحداث السياسية التي مرت بها الجزائر في فترات متعددة. [ ص: 213 ]

أما فتح الله جولن فقد عالج كل هذه القضايا، ولكن من زاوية الثقافة الإسلامية بشكل خالص، بشقيها الروحي والمادي. وبقراءة تراثه في هذا المجال يكتشف القارئ أنه يمتلك ما يمكن وصفه بـ"فقه الائتلاف" >[5] .

ويتميز باستثمار الجوانب الروحانية في تحقيق الائتلاف وتكوين الحس الجمعي، مثل قوله: "لو اجتمع ثلاثة أنفار معا بإخلاص قلب وصفاء نية لخدمة الدين فلابد أن روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون معهم وتباركهم" >[6] .

الجدير بالذكر في هذا المقام أنهما عالجا ظاهرة الاستبداد من زاوية الفردية، سواء بالنسبة للحاكم الذي تضخم كفرد أو المجتمع - المفترض - الذي أوجد بتفككه قابلية للحاكم لكي يستبد، لكنهما لم يتوسعا في معالجة هذه الظاهرة وبالذات من الجوانب السياسية.

التالي السابق


الخدمات العلمية