العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

صفحة جزء
الخاتمة

برز من خلال هذا البحث مدى تعملق مالك بن نبي وفتح الله جولن في ميدان صناعة الحياة، وإيجاد المعادلات ذات الجناحين المتوازنين والقادرين على الإقلاع بالأمة نحو سماء الحضارة، فقد غاصا بمهارة في أعماق الفكر الإسلامي والإنساني، وأجادا تشريح الواقع: بحثا عن العوائق، ووصفا لعوامل النهوض، وتركيبا لمعادلات العروج الحضاري، ثم ارتفعا بهذه القضية الجوهرية من قاع الاهتمامات إلى أعلاها، وارتفعا بدورهما معها، ليزدادا تعملقا، حتى بلغا ذروة سنام الفكر الإسلامي المعاصر!

لقد اهتم البحث بدراسة هذه القضية، من خلال أربعة مباحث:

المبحث الأول: سجل أهم المحطات في حياة هذين العملاقين، وبالذات ما ساهم منها في تشكيل شخصيتيهما الفاعلتين، وأبرز - أي المبحث - الخطوط المشتركة في حياتيهما، رغم جملة الاختلافات الموضوعية والذاتية بينهما، فقد تشابها في محطات عدة، أهمها: دور الأسرة في التربية، دور القرآن في صياغة شخصيتيهما، التزام طريق التوازن منذ الصغر، الترقي الدائم عبر التعلم الذاتي، التحلي بالجدية، التأثر بمجددي عصريهما، الوظيفة الحكومية ومحطة "اللاسلكي"، تشابه خارطة الإنتاج الفكري. [ ص: 229 ]

في المبحث الثاني: حـاول الباحث الغـوص في الإنتـاج الفكري لمالك بن نبي، فرأى إبداعا منقطع النظير في صياغة معادلات الإقلاع الحضاري، ووجد أنها تتركز في ثماني معادلات، من الضروري توازنها لتحقيق الإقلاع المطلوب:

- في قراءة (عوامل السقوط والنهوض): لابد من إدراك التشابك بين العوامل الداخلية والخارجية، وإن كانت العوامل الداخلية هي الأولى في الترتيب والأهم في الفاعلية والأولى بالاهتمام.

- في صياغة (رؤية النهوض): لابد من المعادلة بين الأصالة والمعاصرة، بحيث يحتل كل منهما ما يستحق من الاهتمام والرعاية دون تناقض أو تضاد بينهما.

- في إعداد (وقود النهوض): لابد من الجمع المتناغم بين المنهج المنضبط والمفردات الثرية الفاعـلة، أو بين الكيف والكم، بحيث يتضافرا ولا يتنافرا.

- في تجهـيز (مادة النهـوض): لابد من الجمـع المنسـجم بين الواجبـات والحقوق، بحيث يتعاون الطرفان في تركيب المادة اللازمة لتحقيق النهوض.

- في تربية (جنود النهوض): من الضروري جدا الجمع بين التربية الفكرية والتعبئة الروحية، بين الرشد العقلي والإخلاص القلبي، بين بوصلة الفكر وطاقة المشاعر الروحية. [ ص: 230 ]

- في تجهيز (طائرة النهوض): لابد من الجمع المتوازن بين جناحي الفرد والمجتمع، بحيث تطلق ملكات الفرد المتميز، دون القضاء على استعدادات تآلفه مع المجتمع، ويتم إعداده كوحدة اجتماعية دون مساس بفاعليته الفردية وتميزه الذاتي.

- في بناء (حركة النهوض): لابد من استحضار معادلة الأفكار والأشخاص، بحيث تتكاملا ولا تتآكلا.

- في إقامة (جسم النهوض): من المهم جدا الموائمة بين المضامين والأشكال، بحيث يتعاونا ولا يتباينا.

وفي المبحث الثالث: ولج الباحث إلى الآفاق الرحيبة لفتح الله جولن المفكر والداعية والمصلح الاجتماعي، فوجده كيميائيا نادرا، حيث مزج بين سائر الثنائيات في معامل فكره وتجاربه، فركب المعادلات المرغوبة وكون الموازنات المطلوبة، لتحقيق العروج الحضاري لهذه الأمة، وهي ثمان موازنات:

- الموازنة في صياغة (رؤية العروج) بين الشريعتين القرآنية والفطرية، أي بين أصول القرآن وبين قوانين الحياة وسنن الأكوان.

- الموازنة في رسم (خارطة العروج) بين الثوابت التي ينبغي الانطلاق منها، والاستظلال تحت رايتها، والمحافظة عليها، وبين المتغيرات التي ينبغي تجديدها، وإكسابها أكبر قدر من المرونة والتطور، حتى تستطيع الاستجابة للتحـديات الجـديدة، واستيعاب الاختـلافات والفروق الكثيرة بين الأفراد والمجتمعات. [ ص: 231 ]

- الموازنة في تحـديد (عوامل العروج) بين العوامل الداخلية والخارجية، بحيث يكون العروج ذاتيا، لكنه لا يغفل دور العوامل الخارجية، فيتجنب العوائق، ويقتبس من سائر التجارب كل ما يحقق المقاصد والمصالح، أو ما يدرأ المفاسد والمضار.

- الموازنة في تفعيل (طاقة العروج) بين الانفعالات التي تحتاجها الروح، وبين الفاعليات التي يحتاجها العقل، أو بين المشاعر القلبية والمشاعل العقلية وكذا بين التعبئة الروحية والتربية الجسمية.

- الموازنة في رسم (استراتيجية العروج) بين العيش في الأرض واستشراف السماء، كالجمع بين ماهو كائن وما يجب أن يكون، أو بين الواقع والمثال.

- الموازنة في ارتياد (شعب العروج) بين المسالك الدنيوية والمشاعر الأخروية، والجمع بين حقوق الإنسان وحقوق الله، أو بين العبادات المتعدية (العمل الصالح) والعبادات اللازمة (الإيمان والشعائر الخالصة)، إذ أن الطريق إلى فردوس الآخرة هو إيجاد فردوس الدنيا.

- المـوازنة في تحريك (عجلة الروح) بين الذات والخارج، بحيث يكون الانطلاق دائما من الذات، فإن (صلاح) الذات هو الطريق لـ(إصلاح) الآخرين.

- المـوازنة في توزيع (ضرائب العروج وثماره) بين الأقوياء والضعفاء، بحيث تتحقق قيمة العدل داخل المجتمع المسـلم سواء في [ ص: 232 ] مدخلات النهوض أو في مخرجاته، حتى يتم إطلاق العنان لفاعليات جميع مكونات المجتمع وأفراده.

أما في المبحث الرابع: فقد عقد الباحث عددا من المقاربات والمقارنات بين المفكرين الكبيرين، في مجال العروج الحضاري، والمعادلات التي ركبها كل منهما لتحقيق هذا العروج، وقد تشكلت هذه المقارنات على شكل مثلث، بأضلاعه الثلاثة:

- في الضلع الأول من المقارنة برزت عدد من الرؤى المتشابهة إلى حد يقترب من التطابق بين الرجلين، ولاسيما في سبع نقاط هي: مركزية الإنسان في النهوض الحضاري، التوازن بين عوامل (الغيب) وعوامل (الشهادة)، التفريق الواضح بين الدين والتدين، ذاتية النهوض الحضاري، العناية الفائقة بالفعالية، الجمع بين تشخيص (الداء) وتوصيف (الدواء)، الانطلاق من المحلية إلى العالمية.

- وفي الضلع الثاني من هذا المثلث أسفرت المقارنة عن وجود عدد من الرؤى المتقاربة إلى حد التشابه، وعناوين هذه الرؤى سبعة أيضا وهي: حصان الفكر هو الذي يقود عربة الحضارة، التضافر الوثيق بين الاستعمار والقابلية للاستعمار، الاستفادة من العلوم النافعة والتجارب الناجحة، المزاوجة بين الدنيا والآخرة، الاهتمام بتكوين الحس الجمعي، التشابك بين المعاني والمباني، العناية بسائر قيم النهوض. [ ص: 233 ]

- أما في الضلع الثالث والأخير من مثلث المقارنة، فقد بانت الرؤى المتنوعة عند المفكرين إلى حد التمايز، وقد أدى هذا التنوع إلى إبراز الشخصية المتميزة لكل منهما، وتدور عناوينه حول سبع نقاط كذلك، وهي: العلاقة بين الأفكار والأفعال، مجال تركيز طاقة الإصلاح، العلاقة مع بعض مكونات الآخر، الموقف من التصوف، الموقف من مشكلة المرأة، دائرة الاستدلال والاستدعاء، طبيعة اللغة المستخدمة في الكتابة.

ومهما يكن ما اتفق عليه ابن نبي وجولن وما اختلفا حوله، فقد صارا من كبار فلاسفة الحضارة الإسلامية المعاصرين، وأجادا صياغة معادلات الإقلاع وموازنات العروج التي تحتاجها الأمة لنهـوضها الحضاري المأمول، وهي أشد ما تكون حاجة إليها في هذه الظروف التي انتفضت فيها شعوب عربية عديدة ضد أوجاعها، متدثرة بالعواطف ومتسلحة بالانفعالات التي تجعل أصحابها يعرفون ما لا يريدون أكثر من معرفة ما يريدون، وإن تجسيد هذه الانفعالات في فعاليات بانية للإنسان وصانعة للحياة بحاجة إلى ضبط الثنائيات المتقابلة، بحيث تتآخى ولا تختل، وتتعاون ولا تتباين، وتتكامل ولا تتآكل.

وهذا ما فعله هذان المفكران العظيمان، اللذان امتلكا عقلين موسوعيين، وميزانين دقيقين، مما منحهما قدرة هائلة على التحكم بتلك الثنائيات، بل وصاغا منها معادلات الإقلاع الحضاري المنشود.

وآخر كتابتنا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 234 ]

السابق


الخدمات العلمية