المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- غواية لا تقاوم:

الهجرة التي يستدعيها سياق الانبهار من نوعين:

هجرة معنوية وفكرية، وهي هجرة العقول والنفوس للسكن في هياكل (الآخر) وكل بناءاته وخراباته الفكرية، وهذه لها تأثير غاية في الخطورة خصوصا حين يجد المرء نفسه متحيزا في مصالح غيره مدافعا عن خريطة غير خريطته، "كائن مستلب" بكلمة مختصرة.

وهجرة مـادية، وهي هجـرة الارتحـال من مسقـط الرأس وموطن الـذكريات إلى مـوطن الاغتراب، بحثا عن أرض الأحلام، وحينئذ يقع السقوط.

وقبل السقوط كانت غواية الضفة الأخرى، "الفردوس الموعود"، ذلكم الحلم الجميل الذي يدغدغ منامات قطاع كبير من شبابنا اليائس في واقع مترد على سائر المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،.. حلم بسيارة ومسكن فاخر ورصيد بنكي يضمن استقرارا في هذه الحياة... حلم يمتزج فيه الإحساس بالغربة بصورة العودة للوطن، عودة "الظفر" و"الانتصار" و"الولادة من جديد" لكن بمواصفات "مادية" على الخصوص لا بد أن تكون مختلفة >[1] . [ ص: 37 ]

طبعا، في واقع تنعكس فيه الفوارق بين المدن والجهات، وتنعدم فيه "العدالة التوزيعية" >[2] ترتفع معدلات الغواية الغربية، فتجد المهاجرين إلى ضفة أوروبا أكثر ما ينطلقون من المدن الفقيرة والمناطق المهمشة >[3] .

في هذه المناطق التي تكاد تنعدم فيها فرص الشغل وظروف الحياة الكريمة بسبب السياسات التنموية المتحيزة لصالح المدن الكبرى والداخلية، تجد تناميا لموجات الهجرة في صفوف الشباب في اتجاه "الألدورادو" >[4] ، وهي هجرة تذكرنا بـ"موسم الهجرة إلى الشمال" "للطيب صالح"، يرتفع الطلب عليها في كل صيف عند عودة الجيل الأول السابق من الشباب المهاجر في الإجازات والعطل لزيارة أهله في ظروف يغلب عليها [ ص: 38 ] "المفاخرة" و"المظهرية" التي تلعب بعقول من لم يتيسر له بعد سبيل للضفة الشمالية.

الغواية هنا هي مجموع ما تمارسه الهجرة من آليات هيمنية وإغرائية بصورها المادية والرمزية على خارطة العقول اليائسة وصفحة النفوس القلقة، فتعمل على تفتيت ما بقي صامدا من أعمدتها، وهي أعمدة الهوية، فتستحيل هوية ضعيفة وخاوية لا تملك الصمود ولا المقاومة فتوشك أن تقع فريسة للاستلاب والاختراق.

غواية "الغرب" كانت بداية قصـة المغامرة لدى زمرة كبيرة من شبابنا بمستقبله نظير معانقته لأرض المهـجر التي جمعت كل المحاسن في مخيلته، حتى باتت تسكن كل كيانه وتملك عليه كل حركاته وسكناته، وباتت كل تطلعاته مرتهنة بفرصة للعبور إلى هناك بأي وسيلة كانت، شرعية أو غير شرعية.

غواية وإغراء لا تكاد تخطئه العين حين تواجه المهاجرين فتقرأ في عيونهم بريقا يختزل الصورة العجائبية، التي يحملها كل واحد عن الضفة الأخرى، مزيج من الرغبة المحمومة في التخلص من الواقع والارتماء الحر في أحضان الفردوس الأوربي.

وطبعا بعد الوصـول تبدأ حكاية أخرى مؤلمة بما تخلفه جروح الاغتراب ويبـدأ معـها ضيـاع الأجزاء وتفـكك الأركان وتلاشي الذات وذوبانها. [ ص: 39 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية