المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- الإنسان العربي وسؤال التاريخ:

وإذا كان وضع المهاجر العربي مع الجغرافيا على ما ذكرناه، فإن وضعه مع التاريخ لا يقل حرجا إذ هناك مفارقة تعترض المتأمل في علاقة الإنسان العربي المهاجر بسؤال التاريخ باعتباره مكونا من مكونات الهوية ينبغي رعايته والمحافظة عليه في مجموعه، هذه المفارقة ينـزل فيها الواجب التاريخي على الجيل الجديد خصوصا منـزلة الثقل أو لنقل العبء؛ وذلك لأن الجيل الشبـابي الجـديد المهـاجر يعيشون للمستقبل أكثر من عيشهم للماضي أو الحاضر، يقول الدكتور عزة حجازي: "لما كان الشباب لم يعيشوا الماضي، فليس عندهم ما يجعلهم يحنون إليه أو يعتزون فيه، وبما أن الحـاضر ليس من صنعهم ولا يشاركون في إدارته، فليس فيه ما يدفعهم إلى التمسـك فيه، فضـلا عن الدفاع عنه. أما المستقبل فإنه بهـم ولهم، رضوا أم أبوا، وهو مفتوح غير متعين، ومن ثم فهو مجال خصيب لأحلامهم وآمالهم وطموحاتهم... إنهم قادرون على أن يصنعوا فيه المستحيل" >[1] .

إن هذه الرؤية رغم تفاؤلها بمستقبلية الجيل الجديد وتسجيلها للمفارقة من زاوية خاصة إلا أنها أغفلت شرطا أساسيا في تصور هذا الجيل الفريد [ ص: 48 ] وهو ارتباطـاته النفسية والروحية والثقـافية بذاكرته الجمـاعية والقومية، التي تشكل جزءا من كينونته. وبدونها يكون أشبه بلقيط مهما تقدمت معـرفته وإدراكه لخريطـة مستقبلـه، ثم إن مستقبلـه يتهدده التزلزل إن لم يحسن قراءة تاريخه جيدا. إذ هو في الجوهر لا يكاد ينفك عنه وإن حاول إلا أن يكون كائنا مقطوعا مفصولا عن أصول انحدر منها يتغذى عليها وعلى خبراتـها وتراكماتـها حتى لا يعيد الأخطاء. فالتاريخ علاوة على كونه ركنا من أركان الهوية هو مدرسة يتجلى فيها ذكاء مناورة أخطاء التاريخ، وفيها يمتاز الكائن البشري عن الحيوانات إذ لا تاريخ لها تستلهمه على الأصح.

في الغرب يندهش الإنسان حين يواجه جهلا مطبقا يتفاوت لدى الجاليات العربية المهاجرة، وخصوصا الأجيال التي ولدت هناك، عن تاريخ أمتهم ومجتمعاتهم، هناك ما يشبه معاداة الذاكرة والتاريخ لدى أجيال الهجرة، بسبب طبيعة الثقافة الغربية والمناخ التعليمي الذي قطعهم عن أصولهم.

في دراسة أجريت على كتب التاريخ المدرسية الفرنسية للصف الخامس (الصف الأول الإعدادي) في سنة 2000م والتي يدرسها مع الفرنسيين جزء من المهاجرين العرب والمسلمين، تبين من خلالها أن الصورة السلبية للإسلام وللمسلمين والعرب تتمثل فيما تقدمه من مفاهيم خاطئة عن الثقافة العربية والخلافة والوحي وصورة النبي صلى الله عليه وسلم والشريعة وتعدد الزوجات وميراث البنت والولد.. وفي هذه الكتب المدرسية بالذات يتم ربط الجهاد بالتطرف [ ص: 49 ] والإرهاب واعتبار الإسلام دينا لا تتفق مبادئه وتعاليمه وقيمه مع مبادئ وتعاليم وقيم الحضارات الكبرى وتعني بها الحضارة الغربية >[2] .

يتساءل المتتبع كيف لأجيال أبناء المغتربين الذين يطالعون هذا النمط من المعلومات الشائهة عن أوطانهم وعن تاريخ آبائهم وأجدادهم أن يكون لهم وعي سليم وصورة مكتملة وناضجة عن جزء من هويتهم، إنها شحنات من التضليل الذي يزيد من معاناة هذا الجيل في سبيل إطلاعه على أصوله وتاريخه الحقيقي >[3] .

إن طبيعة الاندماج الذي تقتضيه الهوية المزدوجة أو المفتوحة لهذا الجيل المغترب لا تفترض في تصورنا انغلاقا أو دعوة للتصلب تجاه (الآخر) وثقافته، بقدر ما تستدعي ضربا من التوازن الذي يحفظ له حقه في معرفة أصوله وتاريخه ولغته على حقيقتها لا كما تصنعها الدعاية الإعلامية والبرامج المدرسية الموجهة بالنفس الاستشراقي الحاقد، والتي تغذيها السياسات اليمينية المتطرفة تجاه الأجانب.

نقول هـذا ونحن نستحـضر أن الإنسان المسلم على وجه الخصوص لا ينبغي أن يحمل رؤية شوفينية عن تاريخه بقدر ما يتسلح بالرؤية المعرفية [ ص: 50 ] الواقعية والعلمية التي تجعل من ماضيه سجلا للدراسة والاعتبار بأبيضه وأسوده، كما يستضمر مبدأ الالتزام بالتغيير نحو الأحسن، ليس تغيير الأصول ولكن تغيير الملامح التي تنهض بنا وتتناسب مع كل مرحلة، وتلك هي رسالة المؤمن حيث كان، سواء في وطنه أو خارجه، ومن هنا تكمن أهمية التاريخ، وتكمن الوصفة المطلوبة لهوية عربية إسلامية عريقة وتطلعية في نفس الآن، قادرة على أن تكون هي هي في أثناء عملية التواصل والتفاعل والتكامل مع الآخرين، كما أنها قادرة على الأخذ والعطاء من دون حدود وعلى النمو والتطور والتقدم العلمي ومواكبة الحضارة وكل ما هو جديد دون أن تفقد الأصالة والرسوخ في أرض الفاعلية.

إن هوية المهاجرين في علاقتها بالتاريخ القومي لأمتنا شيء ثابت وليست شيئا جامدا، فهي خلاصة تاريخ من التجارب الثقافية والحضارية، وتعتبر أمرا قابلا للتعديل والتكيف والتفاعل مع الهويات الأخرى شريطة أن يتم ذلك باختيار واع ضمن معادلة متكافئة ولحاجة ضرورية للأمة >[4] .

ولا ينبغي في نظرنا أن يهيمن التاريخ الذي ندعو لرعايته ضمن مشمولات الهوية على مسـار الهوية ذاته فيشدها إلى الخلف ويمنعها من التطلع إلى بلوغ المواقع المتقدمة بما يؤهلها لأن تكون دائما في حالة تجدد وتطور واستمرارية. [ ص: 51 ]

ينبهنا "جاك بيرك" إلى أهمية التاريخ في حياة الأمة بقوله: "إن الهوية لا تنفصل عن التاريخ. ولكن لكي نحافظ على الهوية عبر تتابع الأطوار التاريخية لا بد من وجود ثوابت بدونها سيكون الأمر تغييرا في الكينونة" >[5] . وإذا تغيرت الكينونة تغيرت الملامح الأساسية التي تحفظ بقاء الهوية وبالتالي بقاء النوع الثقافي.

إننا اليوم في مسيس الحاجة لأن نطالب من أجل الحفاظ على نوعنا الثقافي في المهجر بإعادة النظر في برامج التاريخ العام، التي تقدم لناشئتنا من المهاجرين، بحيث يقوم على كتابتها مختصون عرب ومسلمون برؤية تحمل الإنصاف لا التجني وبلغة علمية بعيدة عن البيان المريض، الذي يتفنن في رسم صورة بعيدة عن الواقع، كما ينبغي أن نركز في برامج التاريخ هذه على الكفايات الاستنتاجية للدروس والعبر توخيا لجعل التاريخ درسا حيا في وجدان شبابنا المهاجر يستلهمونه ليظل الاتصال بالجذور متقدا وحيا، ويستمدون منه القوة لبناء المستقبل لهذه الأمة ولهذا الدين. [ ص: 52 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية