بين التربية والقانون

الدكتور / علي القريشي

صفحة جزء
- ثالثا: التبادلية:

التبادلية تعني قيام التربية بدور القانون وممارسة بعض وظائفه، وقيام القانون بدور التربية وممارسة بعض وظائفها.

أ- الدور القانوني للتربية:

يمكن للتربية أن تؤدي الدور، الذي يؤديه القانون، وهذا ما يمكن توضيحه من خلال النقاط الآتية:

1- فرض هيبة القانون وحماية قواعده وأحكامه:

إن أقصى ما يمكن أن تفعله التربية غير الدينية (العلمانية) في مجال الالتزام بالقانون هو أن تزرع الخشية من تجاوز أحكامه، أو تنمي الوعي بقيمته النفعية، أو توجد عادة الخضوع لمنطقه الإلزامي، ومن ثم فالقانون الذي يستند إلى مثل هذه التربية لا يحظى بالضرورة بالالتزام القوي والمستمر، وبوسع الكثير التهرب من أحـكامـه أو التحـايل عليه أو خـرق لوائحـه وتجـاوز مقتضيـاته، أو الالتفاف- وبمختلف الوسائل بما فيها الوسائل القانونية- على مقرراته، على خلاف ما إذا كانت التربية مرتبطة عضويا بالقانون، كما في الحالة [ ص: 42 ] الإسلامية، حيث تستند التربية والقانون إلى إيمان واحد، فتحث بذلك على احترام القانون وتحرص على تطبيقه وتوصي بعدم اختراق قواعده أو مخالفة نواهيه، باعتبار أن ذلك أحد أبواب طاعة الشرعية واحترام مقرراتها، كما هو أحد أوجه الالتزام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإذا كانت النصيحة هي الوسيلة التربوية، التي ينبغي اتباعها عند الحث على القيام بعمل يتطلبه القانون، فإن الضبط التربوي قد يكون من الوسائل، التي لابد منها في حالة منع القيام بعمل يخالف القانون، إضافة إلى وجوب التطوع بإخبار السلطات العامة لتحقيق المنع المذكور، اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) >[1] .

إن التوجيهات التـربوية الإسـلامية وهي تؤكد قيمة الطاعة لأولي الأمر: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (النساء:59) وتدعو إلى المشاركة مع السلطات للحفاظ على الأمن إنما تكرس واجب الخضوع إلى القانون واحترام التعليمات، فتؤدي بذلك دورا يشابه دور القانون في فرض أحكامه ومقرراته. [ ص: 43 ]

وضمن هذا السياق التربوي تشكل طاعة قوانين المرور وقواعد السير وإجراءات السفر وتنظيمات الإسكان والتسعيرة على المواد والسلع وغيرها طاعة لله ورسوله.

وبهذا تمارس التربية دورا في حماية قواعد القانون وأحكامه وتعليماته، وهو ما تعجز عنه الكثير من التربويات الوضعية، التي لا تملك القدرة التامة على إقناع الناس، حيث لا يرتبط في ظلها القانون بجوهر ما يؤمن به الناس من معتقدات وأحكام، وبخاصة إذا ما كان الحكم الصادر غير شرعي، أو لا يملك من أصدره التفويض.

من هنا، وفي ظل غياب التفاعل بين الدين والقانون نرى أكثر من ظواهر عدم الاكتراث بالقانون، والتحايل على أحكامه، وابتكار مختلف الوسائل للتهرب من قبضته، فيما يظل المجتمع، الذي يتربى أفراده على النظر إلى القانون بوصفه مجسدا لأحكام الشريعة، التي يؤمنون بها أقرب إلى احترام ذلك القانون وصيانته حتى في الحالات، التي تتعارض فيه أحكامه مع مصالحهم الشخصية ( وتواصوا بالحق ) (العصر:3)، و"قل الحق ولو على نفسك".

2- الضبط الاجتماعي:

الضبط الاجتماعي هو محاولة السيطرة على سلوكيات الأفراد على النحو، الذي يجعلهم في حالة من التكيف مع البيئة والتوافق مع الجماعة وما تؤمن به من قواعد سلوكية وما يسودها من نظم وأعراف. وقد اتفق معظم علماء الاجتماع والتربية على أن التربية والقانون هما من أهم وسائل الضبط [ ص: 44 ] الاجتماعي. وإذا كان الضبط أحد وظائف القانون الإسلامي، فإن التربية الإسلامية تمارس هي الأخرى هذه الوظيفة، بل قد تسبق القانون في ممارستها وضمن الغايات، التي يسعى إليها القانون نفسه.

وإذا كان الضبط آلية رمزية تحدث-برأي لوملي "Lumely"- ضغطا نفسيا من شأنه توفير الامتثال إلى المعايير والنظم، ومن ثم تحقيق السيطرة على نزعات الانحراف من غير ما عقاب فيزيقي >[2] ، فإن التربية الإسلامية وهي تمارس هذه الوظيفة انطلاقا من استثارة قيم التقوى والالتزام الأخلاقي، فإنها تقوم بالدور الضابط نفسه الذي يمارسه القانون لمنع التجاوز أو فعل الانحراف.

إن المرتكز الغيبي، الذي تقوم عليه التربية الإسلامية ( من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ) (يس:11) سيكون بمثابة القانون الداخلي، الذي يحكم السلوك ويروض الأفعال والمواقف بما ينسجم مع مقتضيات القانون الخارجي، وبما يمنع الناس ويكفهم عن اللجوء إلى ارتكاب الجرائم أو الخروج على النظام أو القوانين المرعية.

إذن، فالتربية الإسلامية بأبعادها العقيدية والروحية والأخلاقية تتبادل مع القانون الإسلامي مهمة الضبط الاجتماعي فتكون بمثابة القانون الداخلي الضابط حتى في الحالات، التي يغيب فيها القانون الخارجي، وبالنتيجة فإنها تمارس دور القانون. [ ص: 45 ]

لهذا، لو حدث وأن غاب القانون في ظل بعض الظروف الاستثنائية مثل الكوارث الكبرى، التي يهتز خلالها النظام العام، أو مثل توقف الشبكة الكهربائية المركزية عن العمل، فإن الضابط الديني الداخلي، الذي تكونه التربية في سلوك المؤمن هو ما يحول دون بروز النزعات الشريرة، التي يتاح لها التحرك تحت أستار الظلام الشامل وغياب الرقيب، وبذلك تشكل التربية المسبقة في هذه الحالة وأمثالها خير ضابط يحول دون التجاوز.

3- العقاب التربوي:

على الرغم من أن أكثر العلماء المحدثين يرفضون العقاب كوسيلة تربوية، إلا أن بعضا منهم يقر بأهمية استخدامه لمعالجة بعض الحالات السلوكية غير المرغـوبة، مع اشتراط أن يتم ذلك في إطار ينتج لمن يتلقاه فهم الأسباب الموجبة لإيقاعه.

والـتـربية الإسـلامية لا تنكر أهميـة العقـاب في مواجهـة السلوك الممنوع أو السيء سـواء كان العقـاب معنـويا كاللوم أو التوبيـخ أو التشهير أو العزل أو المقاطعة، أو بدنيا كالضرب أو العمل الإضافي، أو ماديا كالغرامات المالية أو الحرمان من بعض الحقوق. فمثل هذه الجزاءات قد تسهم في تعديل السلوك، سواء تم إيقاعها من قبل الأسرة تجاه أطفالها، أو من المدرسة تجاه طلابها، أو من الجماعة تجاه أعضائها، أو من السلطة تجاه رعاياها.

والتربية الإسلامية في إيقاعها العقاب إنما تمارس وظيفة تناظر الوظيفة القانونية، ففي القانون الجنائي يعرف التأديب بوصفه حقا يمنح بمقتضى [ ص: 46 ] الشريعة والعرف للوالدين أو من في حكمهما كالوصي، ولمن تثبت له الولاية على الصغير عند فقدان الأب والجد والأم والعم، وهو ممنوح كذلك للمعلم ورب العمل في مواجهـة الصغـار من الأبناء أو القصر أو التلاميذ أو الصبيان لما للأولين عليهم من الحق والسلطة في تعليمهم وتربيتهم وتهذيبهم شرط عدم إسـاءة استعمـال هذه السلطة أو الخروج بها عن الغاية التربوية، التي أبيحت من أجلها >[3] .

بل أن العقاب يمكن إباحته للزوج تجاه الزوجة، وهو ما نصت عليه المادة (29) من قانون سابق للأحوال الشخصية في مصر، جاء فيها: إن من حق الزوج تأديب الزوجة تأديبا خفيفا عن كل معصية لم يرد في شأنها حد مقرر. وفصل رجال القانون المصريون المحدثون نقلا عن فقهاء الشريعة ما ورد من قيود على هـذه العـقـوبـة، وقالـوا بإمكانـيـة اللـجوء إلى وسـائـل: الـوعـظ، والهـجـر في المضاجع، والضرب غير المبرح، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والتي ينبغي أن لا تستخدم إيذاء وانتقاما، وإنما لغرض التأديب وحسب >[4] .

وبهذا يتضـح الـدور القـانـوني، الذي يمكن للتربية الإسـلامـيـة أن تمارسـه في ظل النظام الإسلامي.

ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى بعض المطالب السـلوكية في الإسـلام، التي يمتزج فيها العقاب بالتربية: [ ص: 47 ]

- التوبة: أساسها التربوي وبعدها العقابي:

من الملاحظ في ظل القوانين الوضعية أن يتم إسقاط بعض العقوبات "بالتقادم"، أي عند مرور مدة طويلة على ارتكاب الفعل المعاقب عليه، وهذا مالا تأخذ به الشريعة الإسلامية، ولكن يمكن إسقاط العقوبة عند إعلان التوبة، التي يتقرر بموجبها العفو.

والتوبة تعني مبادرة الخاطئ أو المذنب إلى تطهير نفسه وإراحة ضميره بإعلان ندمه، والتزامه بالرجـوع إلى الحق، وبعدم العودة إلى الخطيئة أو الإثم، أو التعهد بإعادة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها-إذا كان الذنب متعلقا بحقوق (الغير) أو إنصاف من أوقع عليه الظلم.

والتوبة قد تدفع التائب إلى طلب العقوبة وإيقاعها على نفسه، وهذا يعني أن التـوبـة الحقيقية تعـني حـدوث تغيير داخـلي يؤدي إلى الاعتراف بالذنب أو السعي إلى تصحيح المعتقد أو السلوك. والتوبة تتيحها الشريعة الإسلامية للخطائين، وهي تنطوي بالضرورة على بعد تربوي يتجلى في استيقاظ الضمير وإعلان الندم وإبداء الاستعداد لتحمل العواقب برضا وتسليم، وبهذا تستعار وظيفة القانون في إيقاع العقاب.

ولعل في قصة ماعز رضي الله عنه المشهورة في التاريخ الإسلامي أنموذجا لذلك، حيث اعترف الخاطئ بذنبه وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبه بإيقاع العقاب على نفسه، انعكاسا لما كان يسـتشعره من تغيير داخلي ينطوي على الندم والسعي إلى الإصـلاح. وبهذا تتضمن التوبة عقابا ذاتـيـا، وتـؤدي الـدور نـفسـه، الذي يمارسه القانون. [ ص: 48 ]

- الكفارات: المضمون التربوي والطابع الجزائي:

يمكن التحدث عن العقاب التربوي من خلال مبدأ الكفارات المقرر شرعا والذي يعد في حقيقته مجموعة جزاءات يوقعها الأفراد على أنفسهم بأنفسهم مقابل بعض ما اقترفوه من أخطاء أو مخالفات أو تقصير. والكفارات إذ تعني الجزاء فإنها تعني التطهر مما يرتـكبه الفرد من أخـطـاء أو تجـاوزات أو تقـصـير في الأمور، التي لم يضع لها القانون عقابا. وهذا يعني أن للكفارات قانونها الذاتي، الذي يتجلى بمبادرة المقصر إلى إيقاعها عمليا على نفسه، فتمثل بذلك شكلا من أشكال العقاب، الذي يمارسه القانون.

لقد شخصت الشريعة الإسلامية الكفارات بوصفها جزاءات أو كل تنفيذها إلى إرادة المكلف وبالاعتماد على ضميره التربوي، الذي يوفر المبادرة ويحرك التنفيذ، ولا علاقة للسلطة القضائية أو التنفيذية بأمر الإقرار أو بأمر التنفيذ، ومثالها كفارة القتل الخطأ، والحنث باليمين، والإفطار في شهر رمضان من دون عذر، وغير ذلك بمـا قـد يكون جـزاؤه الصيـام أو إطعـام المساكين أو تحرير رقبة أو غير ذلك.

والحقيقـة أن الكفـارات هـي فعـل منبعـه الـتـربية الدينية والنفس اللوامة ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) (القيامة:2)، والالتزام الداخلي، وهي تمثل قمة الرقي الروحي والأخلاقي بوصفها جزاءات يتم الحكم بها وتنفيذها ذاتيا دون سلطان خارجي، وهي تسـتهدف التطهير وطلب المغفرة وتقويم السـلوك، فتمثل في النهاية صورة رفيعة لمحاسبة الإنسان نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون، [ ص: 49 ] أو حتى من دون أن يواجه بمحاسبة خارجية: ( بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ) (القيامة:14-15).

4- دور التربية في ملء منطقة الفراغ التشريعي:

من المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد غطت مختلف جوانب الحياة وقضاياها الأسرية والاجتماعية والمالية والتجارية والجنائية والسياسية والحربية والدولية وغيرها. وأصدر الفقه بشأن كل ذلك جملة من الأحكام والمقررات وبالدرجات والصور المتعددة. غـير أن ثمة قضايا وممارسات ومفردات سلوكية لم توضع مقابلها نصوص حاكمة، إما لأنها من المسكوت عنه: ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) (المائدة:101)، أو أنها من المستجدات، التي لم يتطرق إليها النص أو الفقـه، كآداب اللياقة المهنية بأشكالها الحديثة أو قوانين المرور، أو لأنها مما ينطوي على حالة من حالات الخفاء كالفواحش، التي لا يتيح خفاؤها إمكانية تحديدها أو إخضاعها لنص قانوني، أو مما انطوى منها على الغموض أو الضبابية بحيث لا يعرف جوازها من عدمه، أو لأنها تقع في مناطـق السلـوك الرمادي، التي لا يعرف أيحـرم التجوال فيها أو لا يحرم، أو أنها تقع في دائرة "الشبهات".

فهذه الحالات جميعا يمكن التعامل معها تحت عنوان: مناطق "الفراغ التشريعي"، التي يترك أمر حسمها إلى أهل الاجتهاد أو أولياء الأمور إذا كانت لها بعـض التجليات الخارجية، أو أن يـتـرك أمرها إلى حـكم الأفراد أنفسـهم إذا كانت تتصل بالسلوك الداخلي ولا ينظمها نص ولا يستوعبها سلطان. [ ص: 50 ]

إن المحاكم اليوم قد تبت أحيانا في قضايا وإشكاليات تنتمي إلى جنس السلوكيات المشار إليها، استنادا إلى مقولة "روح القانون"، أو مبدأ "القانون الطبيعي"، أو قاعدة "العرف" أو نظرية "الآداب العامة"، أو استنادا إلى "سلطة القاضي التقديرية"، إلا أن هذه المرجعيات لا تعدو أن تكون مجرد مدركات عامة لا يحتويها في العادة نص واضح أو تعليمات محددة، الأمر الذي تبرز معه الحاجة إلى التربية الإسلامية، التي بوسعها القيام بدور القانون لحسم جانب من تلك القضايا والإشكاليات، وذلك استنادا إلى ما تعتمده التربية من قيم ومبادئ وما تضعه من معايير وما ترسمه من اتجاهات وما تحيط به ذهن المسلم من وعي بالمقاصد الشرعية.

ومـن المبـادئ الـتـوجيـهـية في هـذا الخـصـوص: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريب ) >[5] ، و ( استفت قلبك ) >[6] ، و"تجنبوا مواطئ الشبهات"، وغيـرها مما يمكن استنباطه من روح الإسلام وقواعده ومقاصده العامة.

ومن الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها، في هذا السياق أن المسلم حين يباح له الزواج بأكثر من واحدة وكان لديه في الوقت نفسه احتمال قوي إذا ما عدد أن يصدر عنه ظلم أو أذى بالغ بالأولى، أو أن لا يعدل: ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) (النساء:3) أو أن يسبب ضررا بالاثنتين نتيجة ضيق ذات اليد أو للشعور بعدم الإيفاء بالواجب الجنسي لاسيما إذا ما كانت الزوجتان في [ ص: 51 ] سن الشباب، فالمستحسن في مثل هذه الأحوال أن لا يعدد، ولا ينحسم الموقف هنا إلا بالاستفتاء الداخلي، الذي قد يمنحه البوصلة، التي تؤشر له على الطريق، الذي يقيه الظلم أو التقصير ( بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ) (القيامه:14-15).

واستنادا إلى مبادئ التحفظ والتحرز والاحتياط ومبدأ: "اللهم اجعلني مظلوما لا ظالما" تؤدي التربية الإسلامية دورا في إلهام المسلم الحل المناسب، الذي قد يأخذ شـكل "التـراضي" أو"التغاضـي" أو"التسـامح" أو"العـفو" أو التنازل أو تجنـب الفعل، الذي يأخـذ صفة "المكروه"، أو حتى "المباح"، إذا ما كان في ذلك ما يدفع عنه بعض الشبهات أو الإشكالات المسيئة.

من جهة أخرى، فإن التربية الإسلامية فيما تعلمه من مبادئ واتجاهات من قبيل: "تجنبوا مواطن الشبهات" و"رحم الله امرأ جب الغيبة عن نفسه"، يمكن أن تسـاعده على حسـم مالا قبل للقـانون بحسمـه. فحين لا يعاقب القانون الإسلامي على الفواحش الخفية كفواحش القلب والعين والخواطر والضمير ونحوها من السلوكيات الباطنة نظرا لأنه لا يملك سلطة في ذلك، فإن التربية تقوم مقامه وتتوكل عنه في هذه الناحية: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) (الأنعام:151).

وبوسعها الحيلولة دون التلاعب الكيفي بأية علاقات أو تعاملات لم ترد في شأنها نصوص تنظيمية ثابتة أو مباشرة، كما في حالات عدم تحديد السعر العادل بين البائع والمشتري، أو عدم تحديد الأجر العادل وميعاد دفعه.. [ ص: 52 ] فالتوجيهات التربوية العامة المتصلة بهذه الأمور ستكون بمثابة القانون المنظم: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) (الشعراء:183)، و ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) >[7] . كذلك في مسألة الإقرار الضريبي أو غيرها من الإقرارات، التي يحددها صاحب الشأن، أو حتى في رسم سلوكيات البيع والشراء، التي لا تخضع لتعليمات معينة: ( رحم الله رجلا سمحا، إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى ) >[8] .

كما يمكن للتربية الإسلامية الصحيحة أن توجد موقفا مضادا لظاهرة الرق، وتدفـع باتجـاه إنـهائه وفقا لفقـه المقاصد واستلهاما من قوله تعالى: ( فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة ) (البلد:11-13)، ومما أورده الشرع من جعل تحرير العبيد أحد الكفارات، فضلا عما يتطلبه الإيمان بقيمة الحرية وتكريم بني الإنسان، وما يفرضه الإخلاص بضرورة إعطاء صورة مثلى للمشروع الإسلامي لاسيما في العصر الحديث.

وحتى في مجال الأخطاء القضائية أو الإدارية يمكن أن تؤدي التربية الإسلامية دور المصوب: ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار ) >[9] . [ ص: 53 ]

وهكذا، يمكن للتربية الإسلامية بقيمها وتعاليمها واتجاهاتها أن تمارس دورا يشابه دور القانون بالنسبة لبعض المسائل المستحدثة أو الخفية أو المسكوت عنها أو المتروك حكمها إلى ضمير ذوي العلاقة.

ب- الدور التربوي للقانون:

يعتقد بعض الفلاسفة القدامى كأفلاطون وأرسطو بالوظيفة التربوية للدولة في ما تشرعه من قوانين وما تضعه من قيود وضوابط. أما دعاة الفكر الليبرالي الحديث ومنهم "جان دارك" فلا تتعدى عندهم مهمة القوانين الوظيفة التنظيمية والإدارية، ولا يدخل ضمن وظائفها إكساب الناس الفضائل المعنوية. وهذا بخلاف المنظور الإسلامي، الذي يعد من وظائف القانون التكييف والتطبيع الاجتماعيين والتعويد على الالتزام بالشرعية وتحقيق الضبط الاجتمـاعي وبناء السـلوك القويـم وصـولا بالإنسـان إلى مراقـي الفضيلة، وبهذا لا تقتصر مهمة القانون على مجرد المحاسبة وإيقاع الجزاء، بل التقويم السلوكي وإعلاء قيمة الحياة: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) (البقرة:179).

لهذا كان من أوجه خصوصية علاقة المسلم بالقانون الإسلامي هو ذلك التفاعل مع أحكامه والالتزام بها، نظرا لما تملكه هذه الأحكام من شرعية دينية تفرض احترامها وإلزاميتها على المؤمنين.

واليوم، قد "بلغت وسائل إظهار الحق عاليا ومراتب المحاكم المؤهلة للمراجعة والاستئناس والنقض مبلغا عجيبا، وتطورت المسألة القضائية بكل [ ص: 54 ] أركانها وأدواتها بإعداد قضاتها وتدريبهم، وتحاسب وتتولى النظر والمناقشة والمرافعة وطلب رفع الحكم للنظر في محكمة أخرى وقاض آخر أو أكثر من قاض، مع ذلك كله نجد الدائرة ما تزال تدور على الضعفاء والفقراء وتحكمها براعة المحامين ولحنهم... وسوف يبقى القصور القضائي مستمرا وعاجزا عن تحقيق العدل إذا غـاب البعـد الإيمـاني والرقابة الذاتية، سواء بالنسبة للقاضي أو الشهود أو المدعين أو القانون" >[10] .

لهذا، كان لحضور البعد الإيماني في الإطار الإسلامي ما يكسب القانون مـيزة فـوق إدارية وفـوق شـكلية تقـوم في سيـاقها جملة من الوظائف التربوية في مقدمتها:

1- التكييف والتطبيع الاجتماعي:

إذا كان من وظائف التربية تهيئة الفرد للانسجام مع شروط الحياة داخل الجماعة والتوافق مع ما ارتضته من قيم وأطر وأعراف فإن فعالية التربية لأداء هذه المهمة ستكون أقوى إذا ما كانت مسنودة بالنصوص القانونية والتعليمات. بل ثمة من يعتقد أن التربية كثيرا ما تضعف إذا لم يدعمها القانون، وقد يناوشها - في ظل غيابه- التضعضع، وبما يؤدي أحيانا إلى تهديد الأمن الاجتماعي >[11] . [ ص: 55 ]

وحـتى الإنسـان المؤمـن قـد ينحرف قليلا أو كثيرا حتى مع وجود التـربية، لذلك فحضـور القانون ضروري لـدعـم استمـرارية السـير على الطريق الصحيح.

صحيح أن "القانون لا يحل محل الحرية الأخلاقية - كما يقول فرانسوا سليه- بل يضاف إليها ، ولابد من الاعتراف بأن ذلك ضروري في أغلب الأحيان، ولكن ذلك لا يحدث إلا عندما تصبح بداهة الواجب عامة على نحو لا يجرؤ معه أمرئ على أن يعلن عن نفسه صراحة بأنه مخالف، وإنما يأتي القانون لحمل الفرد على تحقيق الفعل الأخلاقي في خشية لا تفصل هوة جد سحيقة بين الأقوال والأفعال" >[12] .

والحقيقة أن القوانين قد تكرس حالة التكيف الاجتماعي بتكرار أحكامها، وبتحقيق الألفة الاجتماعية معها، وقد يستقر التأثير السلوكي للقانون لدى المتلقي ويأخذ شكل العادة، وهذا ما نلمسه في حالة التعود عـلى بعض تعليمـات المرور والقـواعـد واللـوائح الخـاصـة بالأمـور التجـارية أو الصناعية أو الصحية أو السكنية أو البيئية أو غيرها، بخاصة حين تنطوي تلك القواعد أو اللوائح على جزاءات مالية أو عقوبات إدارية. ولعل هذا الحال يظهر بنحو أقـوى في ظـل تطبيق قانون العقوبات الإسلامي، الذي قد يقلل - بحكم أبعاده الرادعة- من ارتكاب الجريمة. [ ص: 56 ]

2- الضبط الاجتماعي: الردع والعبرة:

الجزاء في القوانين الوضعية لا ينطوي كثيرا على البعد التربوي، بل هو مجرد زجر لمنع وقوع الجريمة، ولأنه جزاء لا يحمل ما يحمله العقاب الإسلامي من مـعنى الثـواب، فالجـزاء في الإسـلام كمـا ينطـوي عـلى معنى العقاب الزاجر: ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ) (النجم:31)، فإنه ينطوي على معنى الثواب أيضا، وذلك بما يحث عليه من اتباع السلوك الخير والقويم، وما يحذر به من إتيان السلوك المنحرف أو الشرير فتتحقق بذلك أهداف الردع والعبرة معا، ولذا قيل: إن العقوبات الإسلامية كما هي موانع قبل الفعل، فإنها زواجر بعده، أي أن العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على ارتكاب الفعل، وإيقاعها بعده يمنع من العودة إليها >[13] .

ومن هنا نقول: إن الجزاء في الإسلام ضمن ما يرمي إليه هو منع تكرار الفعل المنهي عنه، ودعوة للتقيد بما تأمر به القواعد، وزجر من تحدثه نفسه في مخالفة الأحكام . وبهذه المرامي يتضح ما يثيره القانون الجنائي الإسلامي من "ترهيب" من شأنه أن يحول دون التفكير بالفعل المحرم بخاصة أن العقوبة الإسلامية بطبيعتها تبعث على الإحساس البالغ بالألم، فضلا عما يترتب عليها من فضيحة جراء تنفيذها العلني، كما هو الحال مع حد الزنا ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور:2)، أو مع حد السرقة، الذي ربما يظل أثر القطع يفضح السارق أينما حل. [ ص: 57 ]

وهذا اللون من العقوبات جدير بأن يكبت النزعة الإجرامية من الأساس عند العديد من الناس. فالعـلانية أو الشدة أو الأثر الباقي تمثل خسارة تفوق ما قد يكتسبه الجاني جراء فعله المجرم. وفي هذا ردع نفسي له أثره في منع وقـوع الجـريمة قبل حـدوثها، كما أن المـجرم في ظـل النـظام العقابي الإسلامي لا يمـكنه أن يكون محـلا للإعجاب وهو يتلقى العقـاب، فالعقوبة الإسلامية بما فيها من إذلال إنما تقدم الفاعل أمثولة لا مثالا أو قدوة.

وفي كل الأحوال فإن ما يبدو من قسوة في الحدود الإسلامية لا يعدو أن يكون في حقيقته تلويحا أو تهديدا يؤكد في المقام الأول الردع التربوي والغاية الوقائية أكثر من كونه جزاء انتقاميا، فضلا عما يمثله من تقويم سلوكي لمرحلة ما بعد إيقاع العقاب >[14] .

ولهذا لو راجعنا شروط تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية لرأيناها شروطا صعبة التحقيق، إلى حد كبير >[15] وقلما تبلغ مرحلة التنفيذ، الأمر الذي يؤكد ما تنطوي عليه الحدود من مغزى تربوي وردع عام في المقام الأول.

وفي النهاية، لابد من الإشارة إلى أن التشريع الكفء هو الذي لا يعتمد على مجرد إقامة الجزاء المادي، بل على ما يوفره من اقتناع لدى الأفراد [ ص: 58 ] والجماعات بأهمية تطبيقه وفائدة الالتزام به >[16] ، وبهذا فالردع والعبرة اللتان تتمخضان عن تطبيق القانون في المجتمع الإسلامي إنما تعكسان ما لهذا القانون من دور تربوي بناء.

3- الدور التربوي لرجل القانون:

إذا كانت مهام الشرطة والمحققين والقضاة وغيرهم من موظفي السلطتين التنفيذية والقضائية تتحدد وفقا لما هو مرسوم لها في القوانين واللوائح، فإن السياسة الإسلامية تضيف إلى تلك المهام مهمة تربوية تحتمها ضمنا حساسية العمل القانوني والتنفيذي وسياقاتهما المؤثرة.

فمن مقتضيات وظيفة رجل القانون أن يكون ملتزما بالقواعد القانونية، وأمينا على تطبيق الأحكام والتعليمات المؤتمن على اتباعها، كما يتوجب عليه أن يكون في عمله نزيها ومحايدا، ويعمل على إحلال العدالة وتجسيد مفهوم القدوة في سياق ما يقوم به من وظائف أو مهمات.

وهذا يعني أن بإمكان الشرطي أو المحقق ممارسة التوجيه والإرشاد مع الملاحقين على نحو ما، سواء قبل ارتكابهم الفعل الممنوع أو في أثناء ارتكابهم له أو بعد ذلك، كأن يعمل هؤلاء على الحيلولة دون الشروع بالأعمال الممنوعة أو المجرمة أو يمنعوا اقـتـرافها أو اقـتراف أية مخـالفة أو مفسدة لا يقر بها القانون. وبإمكانهم تقديم النصح أو التحذير لكل من يفكر بالخروج على [ ص: 59 ] الآداب العامة. وبوسع من يباشر التحقيق أن يأخذ بأولوية التسامح أو العفو إذا ماتم إحباط الفعل قبل وقوعه أو في أثناء الشروع به وكانت ثمة فائدة تربوية أو إصلاحية من وراء ذلك التسامح أو العفو.

ومن شروط ممارسة القضاء في الإسلام أن ينظر القاضي إلى جميع المتقاضين بعين المساواة، وليس أمامه إلا أن يحكم بين الناس بالعدل ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)، بصرف النظر عن الصلة أو الموقف الشخصي من أي من طرفي النزاع ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة:8). بل الحري مراعاة الجوانب التربوية والاجتماعية في أحكامه، فهو ليس مجرد مطبق حرفي للقانون، بل أنه بما يملك من سلطة تقديرية في عقوبات التعازير بوسعه الأخذ بالزواجر كاللوم أو التوبيخ أو نحوهما وهو يستبطن المقصد التربوي والغاية الإصلاحية.

كما يمكن أن نتوقع من السلطة التنفيذية في ظل النظام الإسلامي أن تمارس التسويات المفضية إلى حل المشكلات قبل انتقالها إلى ساحات القضاء، وبمقدورها- وفقا لإحساس تربوي اجتماعي- أن تبادر إلى تسليم الخاطئين من الأحداث أو الأطفال المشردين إلى ذويهم بعد إسداء النصح والتوجيه إليهم، والتعاون مع أولياء الأمور في ذلك، من دون الاضطرار إلى إيداعهم الإصلاحيات.

والشرطة بدورها يمكن أن تمد يد العون إلى مدمني المخدرات مثلا للحيلولة دون عودتهم إليها، أو تيسير وضع من أنهى عقوبته وخرج لتوه من السجن عن [ ص: 60 ] طريق مساعدته في فتح "كشك" أو البحث له عن عمل أو نحو ذلك، تشجيعا له على عدم التفكير في العودة إلى الجريمة ودفعه باتجاه الطريق الصحيح.

وفي كل ذلك يؤدي رجـل القـانون دورا تربويا أو إرشـاديا أو إصـلاحيا أو وقائيا وربما إنقاذيا.

كما يمكن في كل الأحوال أن يقدم نفسه بوصفه "قدوة حسنة" حينما يتحلى بالإيمان والعدل والنزاهة والإحسان مع من تشمله سلطته، سواء كان من المذنبين أو المتهمين أو من الجمهور.

والحقيقـة أن كل ذلك يكشـف عن خـطـورة رجـل القـانـون، وأهميـة أن لا يتم ترشيحه أو اختياره لهذه المهنة إلا بعد إعداد يؤهله لأداء واجباته على النحو السليم، وإلا فإن سوء الاختيار وغياب الإعداد الجيد من شأنه أن يترك آثارا سلبية على هذه المهنة ورجالها ويؤدي إلى فساد كبير.

وما ينطبـق على رجـل القـانون ينطبـق على صـاحب كل سلطة قانونية في المجتمع.

4- السجن بوصفه مؤسسة تربوية:

من الشائع القول: إن أكثر السجون في ظل النظم العقابية الحديثة أضحت مدارس لتخريج المجرمين والمنحرفين. وتلك حقيقة مردها عدم الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والتربوية لدى الإدارات والعاملين في تلك السجون، فبعضها مثلا لا يجد بأسا من خلط المحكومين الصغار مع المحكومين الكبار، والمجرمين العاديين مع غيرهم من معتادي الإجرام أو عتاة المجرمين، أو حتى حجز النساء قريبا من الرجال. [ ص: 61 ]

ومن المعطيات السلبية، التي تفرزها السجون إهمال الإدارات لواجباتها المهنية في المراقبة الجادة للسلوكيات، التي تجري داخل تلك الأماكن، وغض الطرف عن الأفعال المخلة بالشرف كتعاطي المخدرات أو ممارسة الشذوذ الجنسي أو غير ذلك من الممارسات المنحرفة، التي تسلب من السجون دورها الإصلاحي، الذي تنص عليه أكثر النظم واللوائح.

وفي إطار النظام الإسلامي لا يلجأ إلى السجن كأداة للعقاب إلا كحالة استثنائية ومحدودة، نظرا لسيادة نظم الحدود والقصاص والتعازير، التي يتم بموجبها تنفيذ العقوبات بنحو فوري في الغالب، ولا يعطى لعقوبات السجن إلا المساحات المحدودة.

ومـع ذلك، فـإنه في ظـل تعقـد شـؤون الحيـاة وتنوع إشكالياتـها، فـإنه مما لاشك فيه أن القضايا، التي يمكن أن يحكم فيها بعقوبة السجن ستتسع كثيرا، الأمر الذي يستدعي أن ينال السجن عناية واهتماما كبيرين، في ظل النظام الإسلامي، سواء من خلال ما يتم وضعه من قواعد ولوائح أو من خلال ما يتم اشتراطه من مواصفات فيمن يتم ترشيحه للعمل في إدارة هذه المؤسسة ومرافقها أو من خلال الأنشطة والفعاليات التي تقام للسجناء في أثناء سجنهم.

لقد تجاوزت وظيفة السجن اليوم حدود وقاية المجتمع من الخارجين على القانون إلى الوظيفة الإيجابية المتمثلة بإعادة تربية المسجونين وتأهيلهم وتخريج أكبر عدد منهم إلى الحياة الاجتماعية على نحو أفضل مما كانوا عليه، سواء من الناحية النفسية أو الأخلاقية أو الثقافية أو المهنية، لهذا يشترك الطبيب [ ص: 62 ] النفساني والاختصاصي الاجتماعي وعالم الدين والمعلم في برامج المؤسسات العقابية، ولم يعد الحراس الأشداء وحدهم من يمثل قوام العمل في هذه المؤسسات. ولعل هذا هو الذي حدا ببعض الدول إلى أن تطلق على سجونها تسمية مؤسسات إعادة التربية أو التأهيل >[17] .

غير أن هذه الوظيفة تظل معيارية، تتباين فلسفتها من بلد إلى آخر، فضلا عن أنها - في كل حال- لا تجد لها ترجمة حقيقية في واقع أكثر سجون العالم، وبخاصة في المجال العربي والإسلامي، حيث الإدارات ينقصها الكثير من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية أو الدينية أو المهنية، فضلا عن كونها غير مؤهلة للقيام بالدور التربوي والإصلاحي المطلوب.

والخلاصة، أن الإسلام ينظر إلى السجن بوصفه مؤسسة من وظائفها: التربية والإصلاح، ويضع لها جملة من الشروط والمقومات، من أهمها:

- وضع نظام للسجن ولوائح وتعليمات تتواءم مع الوظيفة التربوية والإصلاحية.

- اختيار الإدارة والحراس ممن يشعرون بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية، وممن هم مؤهلون لهذه الوظيفة على نحو مهني مسبق.

- إعداد برامج وأنشطـة تربوية وتأهيلية للسجناء تساعدهم على التطهر وتدفعهم نحو الصلاح والاستقامة، وتعدهم في النهاية للخروج إلى الحياة أفرادا صالحين. [ ص: 63 ]

5- المضمون التربوي لعمل المؤسسات العامة:

تتأثر توقعات الأفراد واتجاهاتهم وأنماط تفاعلهم بأخلاقيات عمل المؤسسات العامة في المجتمع وبأساليبها ومناخاتها السلوكية السائدة. وفي إطار النظام الإسلامي، حيث من المفترض أن تحكم هذه المؤسسات مبادئ النزاهة والعدل والمساواة وفلسفة الخدمة العامة، فإنها بهذه المنهجية يمكنها أن تمثل وسيطا مربيا يعلم احترام القانون والثقة بتطبيقاته والالتزام بالأخلاقيات والضوابط وما تقضي به القواعد المرعية، بما يجعلها مؤسسات تكرس السلوك الإداري المستقيم، وتعود العاملين والجمهور معا على التقيد بهذا السلوك وبمقتضياته.

وحـين نشـير إلى ما ينطـوي عليه عمل المؤسـسات من مضـامين تربوية إنما نعني في المقام الأول ما تعكسه ممارسات الإنسان، الذي يديرها. فبالإضافة إلى أهمية ما تنطوي عليه القوانين واللوائح، التي تحكمها يظل الإنسان هو روح المؤسسة والمتحكم باتجاهاتها، فإذا ما فسد فسدت، حتى مع استقامة القواعد والنظم التي تحكمها، ومن ثم فإن إصلاح المؤسسة إذا كان مطلوبا على قاعدة إصلاح القواعد والنظم فإن تجسيد القدوة الصالحة في شخصية القيادات الإدارية أمر مطلوب من باب أولى، ذلك أن "الماكنة الحكومية بما فيها من إداريين وقضاة وشرطة وجباة تؤثر على ثقافة الشعب، إما أن تعود الناس على مبادئ الحق والعدل والنظام والتضحية والخدمة العامة، أو على الغش والكذب والجبن والرشوة" >[18] . [ ص: 64 ]

لهذا، حين يؤكد النظام الإسلامي على شروط التقوى والنزاهة والكفاءة فيمن تسند إليه السلطة، فذلك يعكس مدى اهتمامه بالقيادة القدوة والنابع من إدراكه لقيمة الإشعاع والأثر التربوي، الذي تتركه القيادات على الناس عامة؛ لأنه إذا ما تفشت الرشوة وعشعش الفساد المالي والإداري وانتشرت ظاهرة المحسوبية والمنسوبية وأصبح اختراق الشروط والضوابط عادة جارية، فإن المؤسسة في ظل هذا المناخ ستربي العاملين والمتعاملين على التفكير المنحرف وعدم الصدق وفساد الذمة وسوء العمل والتعامل، وهو ما يأباه الإسلام ويحاربه من دون شك.

وبالإمكان، في إطار النظام الإسلامي، أن نتابع الأبعاد التربوية لسلوكيات السلطات العامة ومؤسساتها من خلال القيم والتعاليم، التي أرستها النصوص وهي تقدم مبادئ مثل "المسؤولية العامة"، و"النزاهة"، و"فصل الوظيفة عن شاغلها"، و"الولاء للواجب"، و"منح الثواب وإيقاع العقاب"، ووجوب الالتزام بالعدالة والمساواة والإنصاف مع الجمهور، ونبذ سلوكيات الرشوة والوساطة غير المشروعة، فضلا عن وجوب السرعة في إنجاز المعاملات وعدم التسـويف والابتـزاز فيها، وتجنـب إيذاء المـراجـعـين وذوي الحـاجـة، فـبـهـذه المبادئ والاشتراطات يتبين لنا مدى الدور التربوي الضمني أو المباشـر، الذي يمكن أن تؤديه المؤسسات الحكومية في ظل النظام الإسلامي. [ ص: 65 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية