بين التربية والقانون

الدكتور / علي القريشي

صفحة جزء
6- تكوين سياسة جنائية فاعلة:

تهتم السياسة الجنائية في الغرب بالتصدي للجريمة ومنعها عبر برامج متعددة كأسلوب مراقبة الجيران "Neighborhood watch" أو نشر موقفي الجريمة "Crime Stoppers" أو غيرها من البرامج التطـوعية >[1] . وهذه الأسـاليب وإن كانت ضرورية ومفيدة إلا أن المواجهة الأصلية للجرائم لا يمكن تكوينها من دون تربية اجتماعية واعية ومتينة. فالتأسيس التربوي على الصعيد الاجتماعي من شأنه أن يدعم السياسة الجنائية ويساعدها على تحقيق أهدافها في الأمن العام.

ثـم إن برامج توعية الأطفال ضد السلوك المنحرف لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من اهتمام السياسات الأمنية مقابل اهتمامها بمنع ذلك السلوك والتصدي له وكشفه >[2] .

والحقيقة أن المنهج التربوي الوقائي في السياسات الجنائية الغربية لا يعتمد إلا بشكل عرضي، لهذا نجد أن الصفة الجرمية ترفع في ظل هذه السياسات عن عدد من الأفعال كحمل الأسلحة النارية وشرب الخمر والدعارة والجنسية المثلية، حتى إن الزواج المثلي نال اعترافا في بعض النظم الغربية، إضافة إلى التساهل مع تعـاطي بعـض أنواع من المخـدرات ممـا توصف بالأقل خطورة (كالماريجوانا). ولا شك في أن كل ذلك يمثل- من وجهة النظر الإنسانية- انهزاما تشريعيا، فضلا عن كونه يمثل تراجعا في الجانبين الأخلاقي والاجتماعي >[3] . [ ص: 200 ]

ولا ننسى أن نشـير إلى أن القوانين الوضعية عموما تبيح الزنا ما دام يتم عن رضا ودون إكراه أو اغتصاب أو تغرير، مثلما يباح لعب القمار ضمن بعض الضـوابط، بخلاف القانون الإسـلامي، الذي يمنع كل هذه السـلوكيات، التي تتصادم أصلا مع القيم الأخلاقية. وفي هذا يقول المسـتشرق "كولستون" في كتابه "نقاط التجاذب والخلاف في الفقه الإسلامي":

"تختلف نظرة المجتمع الغربي إلى العلاقات بين القانون والأخلاق عن نظرة الشريعة الإسلامية، فإذا أخذنا جريمة الزنا مثلا وجدنا الشـريعة تطابق تقريبا بين القوانين الخلقية من الناحية الجنسـية وبين العقـاب القـانوني عليها، فتجعل أي علاقة جنسـية جريمة ما لم تكن بين زوجين، بينما القانون الغربي لا يجعل من العلاقة الجنسية خارج نطاق الزوجية جريمة، إلا إذا كانت هناك ظروف مشددة كعدم الرضا أو صغر السن أو علاقة الدم أو التصرفات غير الطبيعية كالخطف والشذوذ والقسوة" >[4] .

والحقيقة أن العقوبات الإسلامية تندرج في إطار فلسفة جنائية تقوم على مبدأ حماية القيم والمقاصد الإسلامية الكبرى المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهي قيم أخلاقية وقانونية في آن واحد >[5] .

لهذا، فالترابط بين التربية والقانون من جهة، وبينهما وبين القيم والأهداف، التي توجههما من جهة ثانية، سينتج موقفا سلوكيا في المجتمع [ ص: 201 ] أفضل بكثير مما لو كان القانون مسـتقلا بقيمه وأهدافه عن التربية، حيث تسهل في الحالة الأولى عملية تجفيف المنابع النفسية والسلوكية الباعثة على الجريمة أو الانحـراف، فيمـا يصعب ذلك في ظـل الحـالة الثانية.

ففي الغرب حين لا توجد تربية تثقف على أن الله قد قسم الأرزاق وابتلى الفقير بفقره والغني بغناه، فإن الفقير الغربي سوف لا يصبر على فقره وهو يرى الأغـنـيـاء يتنـعمون بما تحت أيـديـهم من مـال، ومن ثم فإن جـنـح أو تجاوز فسيجد لديه المبرر لذلك السلوك، لاسيما أن الخطيئة في التربية المسيحية يمكن محوها بالاعتراف، ناهيك عن حالة من لا يؤمن أصلا بالدين.

أما حين تثقف التربية- كما هي التربية الإسـلامية- على فكرة الابتلاء في حالة الفقر أو في حالة الغنى، فإن من شأنها أن تولد لدى الفقير المسلم نزعة القناعة، الأمر الذي من شأنه أن يطفئ مشاعر رد الفعل، ويحول دون تحولها إلى أعمال سلبية كالسرقة أو التسليب أو نحو ذلك.

وإذا كان هذا المنهج يؤدي إلى ترشيد السلوك بما ينسجم مع القانون، فإن القانون الإسلامي نفسه يشكل رادعا قويا في مواجهة الجريمة المذكورة، وتتكامل وظيفته مع وظيفة التربية بحيث إنه بمجرد تخيل الشخص لجسامة العقوبة (القطع) وهـي تفـوق ما قد يتأتى عن السـرقة من لذة أو مكسب أو حتى حاجة، فإن ذلك سيجعله يحسب قبل الإقدام عليها ألف حساب، ناهيك عن تخويف الآخـرين وردع مـن تسـول له نفسـه الاقتـداء بالسـراق أو التعدي على أموال الناس. [ ص: 202 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية