الظلم وانعكاساته على الإنسانية (رؤية شرعية)

الأستاذ الدكتور / عثمان محمد غنيم

صفحة جزء
- ازدواجية الدور في مجتمعات الظلم:

يشتمل الهرم الاجتماعي في المجتمعات، التي تسود فيها علاقات التبعية مثل علاقة الظلوم والجهول أو السيد-التابع عددا كبيرا من السادة، الذين يزداد عددهم كلما انتقلنا من رأس الهرم إلى قاعدته، وكذلك الحال بالنسبة لعدد الأتباع، ويختلف الأسياد في رتبهم ودرجاتهم، وذلك باختلاف حجم وأسباب قوتهم وهي التي تحدد رتبهم ومواقعهم في سلم الهرم الاجتماعي، وعادة يقل مستوى ورتبة السيد كلما انتقلنا من رأس الهرم الاجتماعي إلى قاعدته.

تأخذ العلاقة بين السادة بعضهم مع بعض في هذه الشبكة الهرمية نمط العلاقة الرأسية غير المتكافئة، وهذه تقوم على نفس مبدأ علاقة السيد والتابع، فالسيد من الرتبة الخامسة يكون تابعا للسيد من الرتبة الرابعة، والسيد من [ ص: 156 ] الرتبة الرابعة يكون تابعا للسيد من الرتبة الثالثة وهكذا، بمعنى أن السيد يؤدي دورا مزدوجا، حيث يقوم بدور السيد ودور التابع في نفس الوقت، فهو يكون سيدا على من دونه رتبة من الأسياد، وفي الوقت نفسه يكون تابعا للسيد الأعلى منه رتبة في الهرم الاجتماعي: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) (البقرة:165).

من جـانب آخر تأخذ العـلاقة بين الأسياد أو السادة من نفس الرتبة أو المستوى في الشبكة الهرمية نمط العلاقة الأفقية، فالسادة من نفس الرتبة والمستوى تقوم بينهم علاقات منافسة متكافئة وأحيانا صراع لكسب رضا السادة من رتب أعلى، وبالتالي تحقيق مزيد من المنافع.

يمارس السادة المترفون ذوو الرتب العليا في الهرم الاجتماعي غالبا كل أشكال الظلم والفساد مع السادة من درجات ورتب أقل في سبيل المحافظة على مراكزهم الاجتماعية وامتيازاتهم أولا، وتحقيق مزيد من المكاسب لصعود سلم الهرم الاجتماعي إلى مواقع ورتب أعلى ثانيا، ويقلدهم الأتباع أو العبيد بنفس الطريقة والأسلوب، وبالتالي يمارس كل فرد في المجتمع "سسيولوجيا" ثنائيـة، بحيث يمـارس الظـلم والتجبر على من دونه والخنـوع والتذلل لمن فوقه: ( بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا ) (فاطر:40)، وهـذا النمـط من العـلاقات الرأسية يقوم على فكرة أبي حيان التوحيدي: "ما تجبر شخص في من دونه إلا بمقدار ما تصاغر لمن فوقه"، ورحم الله تعالى من قال: [ ص: 157 ]


وما يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا سيبلى بأظلم



ويقول عبد الرحمن الكواكبي: "إن الاستبداد يكون مجتمعا من الأسيرين، الذين يخضعون الناس، فيجعلونهم أسرى يبغضون المستبد، ولا يقوون على محاربته، لذلك يتعادون فيما بينهم، ويظلمون ضعفاءهم ونساءهم، فيصبح كل إنسان مظلوما من جهة، وظالما من جهة أخرى" >[1] ، وقد قيل: "من سلب نعمة غيره، سلب نعمته غيره" >[2] ، وقيل أيضا: "من أعان ظالما على ظلمه سلط الله عليه" >[3] ، وقال ابن المقري في لاميته:


لا يظـلـم الـحر إلا من يطـاوله     ويظلم النذل أدنى منه في الصول
يا ظالما جار فيمـن لا نصير له     إلا المهيـمـن، لا تـغـتـر بالمـهـل
غدا تموت ويقضي الله بينكما     بحكمه الحـق لا بالزيـغ والميـل

[ ص: 158 ]

أدى استشراء الظلم، والدور المزدوج لكل فرد، كظالم تارة ومظلوم تارة أخرى، إلى تشكيل صورة سوداوية عند كثير من الناس في المجتمعات المعاصرة، بحيث تولد لديهم قناعة بأن الناس قد أصبحوا، في هذه المجتمعات، قسمين هما: ظالم ومظلوم، أو قوي وضعيف أو مستضعف، بحيث يكون حال الناس في هـذه المجتمـعـات كما قـال أحـدهم: "بشر بين مظلوم لا ينصر وظالـم لا ينتصر" >[4] ، إنها جاهلية العصر، التي قال فيها زهير بن أبي سلمى في الجاهلية الأولى:


ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه     يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم



التالي السابق


الخدمات العلمية