الظلم وانعكاساته على الإنسانية (رؤية شرعية)

الأستاذ الدكتور / عثمان محمد غنيم

صفحة جزء
- ثنائية الإنسان والبيئة:

خلق الله سبحانه وتعالى الأرض بما فيها من نعم وخيرات، وسخرها لخدمة الإنسان، لكي يستعين بها على عمارة الأرض وعبادة الله تعالى وإقامة شرعه فيها، وقد حددت الشريعة أبعاد وطبيعة علاقة الإنسان مع البيئة بكل مكوناتها، وذلك للحيلولة دون الاعتداء عليها وتدميرها، ووضع في سبيل ذلك تعاليم وقواعد واضحة لا لبس فيها، فالاعتقاد السائد بأن وجود الموارد في الطبيعة غير محدود هو عين الظلم، وهدر الموارد واستنزافها والإسراف في استخدامها ظلم، وافتعال وخلق المشكلات البيئية ظلم، وأي صورة من صور الإضرار بالبيئة ظلم.

فمن منظور الشرع الحنيف، إن الموارد في الطبيعة محدودة: ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) (القمر:49)، لذلك لابد من المحافظة عليها واستغلالها برشد وعقلانية، بعيدا عن الإسراف والهدر: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31)، وفي الحديث: ( طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية ) >[1] .

كذلك يـجـب اسـتـغـلال الموارد وفق أسس العدل والمساواة: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) (طه:81)، [ ص: 177 ] وفـي الحديث الشريف: ( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له ) >[2] .

والآيات والأحاديث، التي تحض على ضرورة الابتعاد عن الظلم في التعامل مع البيئة كثيرة ويصعب حصرها، فالمحافظة على البيئة مسؤولية الجميع، أفـرادا وجمـاعـات ودولا، لكن وممـا يؤسـف لـه، إن الإنسان وبابتعاده عن دين الله، طغى وبغـى في تعاملـه مع البيئـة، فانتشر الظلم البيئي - إذا جاز لنا هذا التعبـير- في عالمنا المعـاصر، بصورة لا تقل في خطورتها عن الظلم السياسي أو الظلم الاجتماعي.

فالإنسان اليوم يمارس من خلال استغلاله للبيئة وتعامله مع الأنظمة البيئية، كل أشكال التبذير والإسراف والهدر والاستنزاف، وبالتالي فهو متهم بتدميرها، كل هذا نتيجة الأنانية تارة والجهل وقلة الوعي تارة أخرى والاستغلال والطغيان تارة ثالثة، وقد نجم عن ذلك كثير من المشكلات البيئية التي أصبحت تهدد الحياة على الأرض، وتتسبب في خسائر مادية ومعنوية هائلة للبشرية جمعاء، وهذا ما يعبر عنه "باري كومونر" في كتابه "الدوامة" عندما يقول: "انقذوا الإنسان من الموت المؤكد، ساهموا في مكافحة التلوث، إن مدنية قبائل البوشمن في أفريقيا الوسطى الجافة والتي تسعى للتزود بكميات [ ص: 178 ] ضئيلة من المياه في حفر تبعد مئات الكيلو مترات عن مكان إقامتها، هي أرقى- على بدائيتها- من مدنية الإنسان المعاصر في البيئة المرفهة الأمريكية" >[3] .

ويذكرنا هذا التوصيف بمقولة الفيلسوف الألماني "غوته" في معرض حديثه عن عجز البشرية في تحقيق تقدم حقيقي، فيقول: "لقد صار الإنسان أكثر ذكاء ووعيا، لكنه لم يصبح أكثر سعادة، أو أنبل خلقا" >[4] .

ويقول الدكتور رشدي فكار: إننا معاشر المسلمين "لن نستطيع أن نقدم للعالم طائرات أسرع، ولا طرقا أنعم، ولا سيارات أجود، ولا صناعات أفضل، ولكن بإمكان الإسلام أن يقول: سأعطيكم إنسانا أكثر توازنا واعتدالا، أكثر برا وإحسانا، إنسانا يرتبط بمبادئه، يهاب ويخشى خالقه، إنسانا يحترم الإنسان، ويعمل لإسعاده، لا الارتقاء بناطحات السحاب، واستنزاف الخيرات، في إطار من التحايل والمكر والدهاء والكيد" >[5] .

إن جهود التنمية المبذولة في كثير من دول العالم - التي تقوم على أشكال من التخطيط الجزئي وقصير المدى، بهدف تحقيق أقصى حد من المكاسب [ ص: 179 ] والمنافع- السبب الرئيس في الظلم البيئي القائم في عصرنا، الأمر الذي يجعل هذه التنمية عاجزة عن المحافظة على التوازن الطبيعي بسبب استنزافها المتسارع لمعظـم المـوارد.. إن الكثير من أنمـاط التنمية السائدة والمطبقة هي أنماط ظالمـة؛ لأنـها تعمل على تدهور البيئة وتستنزف الموارد الطبيعية، التي تقوم عليها تلك التنمية، وذلك بسبب التصميم غير الرشيد لبرامجها، وهذه الحقيقة ليست قاصرة على دولة دون أخرى، بل تشمل الدول الصناعية والدول النامية على السواء >[6] .

ولعل أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء الظلم البيئي أيضا يتمثل في غياب العمل الإنساني المشترك في مواجهة الأخطار، "صحيح أن الأرض واحدة لكن العالم ليس كذلك" >[7] ، فكل مجتمع وكل دولة تسعى لتحقيق الرفاهية لسكانها بغض النظر عن آثار ذلك على الدول والمجتمعات الأخرى، وقلة من السكان تستهلك كميات هائلة من الموارد وتعيش حالة من الرفاهية والبذخ، في الوقت الذي تعاني فيه كثرة من الجوع وظروف حياة مهينة للكرامة الإنسانية، وسيبقى عدم قدرتنا على فهم مصالحنا المشتركة كبشر، وغياب العمل الإنساني المشترك نتيجة رئيسية للظلم وللغياب النسبي للعدالة الاجتماعية والاقتصادية بين الشعوب وداخلها >[8] . [ ص: 180 ] وإذا ما استمر النمو الاقتصادي العالمي الحالي على نفس الوتيرة دون أخذ الآثار البيئية بعين الاعتبار، فإن ذلك سيؤدي دون أدنى شك إلى نتائج بيئية كارثية، فخلال القرن العشرين ارتفع النمو الاقتصادي العالمي من 3,2 تريليون دولار عام 1900م إلى 39 تريليون دولار 1998م، وتجاوز النمو الاقتصادي الذي حصل خلال الأعوام عام 1995 - 1998م مجموع النمو الاقتصادي للبشرية جمعاء منذ عشرة آلاف سنة >[9] ، وقد نجم عن هذا النمو الاقتصادي ظلم بيئي ومشكلات بيئية عديدة وخطيرة:

- فهناك 33000 نوع من الأجناس النباتية من بين 242000 جنسا أصبحت مهددة بالفناء.

- يهدد الفناء 11% من الأجناس الحيوانية، التي يصل مجموعها إلى 9600 نوع.

- ارتفعت نسبة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو من 280 جزءا في المليون منذ بداية عهد التصنيع إلى 363 جزءا في المليون عام 1998م.

- أدخل النشاط الصناعي في القرن العشرين ملايين الأطنان من الرصاص والزنك والنحاس في البيئة، وقد تجاوزت الإطلاقات الصناعية من الرصاص مستواها الطبيعي بسبعة وعشرين مرة.

- فقد العالم خلال الفترة 1980- 1995م نحو 200 مليون هكتار من الغابات >[10] . [ ص: 181 ]

تتطلب عملية المحافظة على البيئة والحد من الظلم البيئي والحيلولة دون هدر الموارد واستنزافها شرطين رئيسين هما >[11] :

الشرط الأول: إنساني أخلاقي: حيث لا يجوز إفسـاد البيئة وتدميرها؛ لأن ذلك يتنافى مع أبسط القيم الإنسانية ومع عمارة الأرض.

الشرط الثاني: اقتصادي: يقوم على أن كل ما تحويه البيئة من موارد تشكل رأس المال الطبيعي، الذي هو أحد عناصر العملية الإنتاجية، ولا يجوز أن يستهلك الإنسان في النشاط الاقتصادي رأس ماله الحقيقي، وإلا فإن تجارته على المدى القصير والمتوسـط ستكون تجارة خاسرة، وسيصل في لحظة ما إلى حالة من الإفلاس البيئي، وهذا إن دل فإنه يدل على غياب رؤية واضحة للكون ولعناصره وللعلاقات المتبادلة بين هذه العناصر والتي تعكس النواميس الأزلية، التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيه.

إن استنزاف رأس المال الطبيعي، بمعنى عدم المحافظة على البيئة وعلى مواردها وعناصرها، سيؤدي إلى شح مدخلات العملية الإنتاجية من الموارد بأنواعها المختلفة، وهـذا يعني سيـادة ندرة المـوارد، وارتفـاع أسعـارهـا، ومن ثم ارتفاع أسعار البضائع والسلع، وبالتالي يقل الإنتاج وتتراجع دخول الدول والأفراد، وفي ظل مستويات دخول متدنية لن يتمكن الأفراد من إشباع حـاجـاتـهم الأسـاسية من البضائع والسلع، وبالذات الضرورية كالغذاء، وبالتالي فإن الجوع في العالم ليس ناجما عن نقص في موارد الغذاء، وإنما عن [ ص: 182 ] عـدم قـدرة الأفـراد عـلى شـرائـه بسبب الاستغلال والظلم الاقتصادي، الذي يؤدي إلى تدني دخولهم >[12] .

وعليه، فإن المشـكلـة تـكمن أسـاسا ليـس فـي زيـادة إنتاج الطعام، وإنما في الحصول عليه من جانب الفقراء ومحدودي الدخل، وإذا كان الفقراء فـي كفاحهم للحصول على قوت يومهم مجبرين على استنزاف الموارد الطبيعية، فإن ذلك سـيـعـمـل عـلـى مـزيـد مـن فـقـرهـم، ممـا يعقد حيـاتـهم ويجعلها أكثر صعوبة >[13] .

وللحد من الظلم البيئي، فإنه لا بد من التعامل مع البيئة ومع عملية النمو الاقتصادي على أنهما عمليات متكاملة وليست متناقضة، ولا بد من خلق مجتمع أقل ميلا للنزعة المادية، وبالتالي فإذا كان النمو الاقتصادي يمكن أن يحدث تلقائيا وبلا تنمية، فإن التنمية أيضا يمكن أن تحصل بغير نمو وذلك من خلال التركيز على نوعية التغيير وليس على جانبه الكمي >[14] .

كذلك فإنه من الضروري أن تركز إجراءات الحفاظ البيئي على إعادة تعريـف اللعبة الاقتصـادية بحيث ينتقل العالـم من وضع يقوم على ظلم البيئة وتدميرها إلى وضع يقوم على المحافظة على البيئة وصيانتها، وأيضا من وضع يتمتع فيه الأقوياء بالامتيازات والحماية إلى وضع يجسد الفرص المتكافئة [ ص: 183 ] والعـادلة لجميـع السكان >[15] . وهـذا بدوره يعني أن هذه الإجراءات تسعى إلى تغيـير مضمـون النمـو ليـكون أقـل استـنزافا وهـدرا للموارد وأكثر عـدلا في توزيع آثاره >[16] .

إن الظلم البيئي، وما ارتبط به من مشكلات بيئية، ليس ناجما عن نقص في الموارد أو عجز في مخزون رأس المال الطبيعي لكوكب الأرض، بقدر ما هو محصلة لغياب الضوابط الأخلاقية والإنسانية في مجال سياسات وأساليب التنمية المطبقة، فهذه السياسات يغلب عليها بشكل عام طابع الأنانية، ويوجهها الاستغلال، وتتصارع فيها المصالح تحت ستار الشعارات والمبادئ، التي لا وجود لها في أغلب الأحيان على أرض الواقع، إنها سياسات وأساليب يسيطر فيها القوي على الضعيف، وتستنزف فيها الطبيعة تحت شعار تحقيق الرفاهية وزيادة النمو الاقتصادي، ويجوع فيها الكثير من أجل رفاهية القليل، الأمر الذي يقود إلى مزيد من الظلم والفساد والإفساد.

"أي قيمة يمكن أن تبقى محترمة مرعية في عالم يحافظ على نظام يقوم على التبذير السفيه من جانب بعض طوائف مجتمعه، في حين يزداد الفقراء فقرا... في عالم نرى فيه جهود العلماء والمخترعين موجهة إلى تدمير حياة الإنسان بدلا من تمكينه من البناء؟" >[17] . [ ص: 184 ]

إن المشكلة "لا تقتصر على الاستنزاف المستمر والمنظم للموارد الطبيعية فحسب، بل تكمن أيضا في تأثير المناخ النفسي، الذي يعشيه المجتمع المعاصر والذي يعاني فيه الإنسان من الإحساس بالانقطاع عن الطبيعة الأم وخوفه من الأخطار، التي تكمن في أحشائها، والشعور بالاغتراب الروحي في عالم فقد رغبته في الدفاع عن نفسه" >[18] .

إن التنمية المطلوبة هي تلك "التي تنبع جذورها من الذاتية التاريخية لكل شعب، القائمة على العدالة، المنفتحة على التعاون والتي لا تكتسب دلالاتها الحقيقية على التقدم إلا إذا كانت تدور حول محور جوهري هو الكرامة الإنسانية" >[19] ، وبالتالي، فإن المعيار الحقيقي والجديد للرقي في عصرنا يتمثل في القيم الأخلاقية، التي يجب أن تتوافر في الإنسان بصفته إنسانا.

إن الأوضاع البيئية المأساوية، التي وصل إليها عالمنا المعاصر قد دفعت إلى الإقرار بضرورة التغيير من أجل الإصلاح، ولكي يتم تطبيق رؤية الإصلاح بنجاح فإنه لابد أن يشتمل التغيير قيم السكان واتجاهاتهم وعاداتهم وتقاليدهم في المجتمع الإنساني ككل >[20] ، وهذا يعني أن أزمة القيم، التي يعيشها العالم وغياب الضوابط الإنسانية والأخلاقية للسلوك الفردي والجماعي والمجتمعي والدولي هي أحد الأسباب الرئيسة، التي أدت إلى هذه المأساة. [ ص: 185 ]

لا شك أن "الخطر العظيم الذي نواجهه اليوم لا يكمن فقط في تلوث البيئة التدريجي، وإنما أيضا في تلوث عقل الإنسان، لقد فقدت الحياة جاذبيتها؛ لأنه لم يعد هناك شيء غير عادي يلفت النظر بقوة، لم تعد هناك أسرار، وهكذا وصلنا إلى درب من الضجر ... الضجر في عالم فقد فيه الفرد ذاتيته، وتحول الناس فيه إلى جماهير من القطعان" >[21] .

ولأن جذور المحافظة على البيئة، والنجاح في تطبيقها يكمن في قيم السكان وأخلاقياتهم وثقافتهم في كل من الدول المتقدمة والنامية على السواء، لذلك فإن قهر التخلف في دول العالم النامي يجب أن لا يحدث من خلال تتبع هذه الدول لنفس الخطى، التي سار بها العالم الصناعي المتقدم، لأن ذلك سيؤدي إلى تكرار الأخطاء نفسها، التي أدت إلى الوضع الحالي من الاستهلاك غير العقلاني في الدول الصناعية والذي أدى بدوره إلى تسريع تدهور البيئة الاجتماعية والمادية فيها، إن هذه الأخطاء هي نتيجة حتمية لنسق غير إنساني من القيم مدمر في أغلبيته >[22] . [ ص: 186 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية