ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- تعريف مختار للعنف:

العنف هو كل سلوك عدائي واقع على (الذات) أو على (الغير)، سواء أكان قولا أم فعلا، وسواء أكان صادرا من فرد أم من جماعة، وسواء كان [ ص: 13 ] مبررا بدين أو عرق أو مذهب أو نازلة إنسانية أو حياتية أم كان غير مبرر وغير مفسر

>[1] .

ويراد بالسـلوك الاعتدائي السـلوك الذي فيه اعتداء وتعـد وبغي على حـق (الذات) أو حق (الغير).

ويتصور العنف على (الذات) بإيقاعها في ما يؤدي إلى تعنيفها وإعناتها فـكريا أو تطبيقيا، كأن تقع في تطرف الفكر أو تطرف السلوك مما يلحق بها الأذى والضرر، بمجافاة الفطرة وبتفويت المصالح وبالإخلال بالتوازن [ ص: 14 ] والاعتدال والوسطية، وباستحقاق التأديب النفسي والعقاب البدني والمالي والوظيفي بسبب الإضرار بـ(الغير) جسديا أو نفسيا أو ماليا.

أما العنـف الواقـع على (الغـير) فـيراد به الاعتداء على (الآخر) الإنسـاني أو البيئي، كالاعتداء على الأنفس والأطراف والأعضاء، والاعتداء على العمران والبيئة والمنشئات والمؤسسات العملية والاجتماعية والصحية وغيرها...

وعبارة (القول والفعل) الواردة في تعريف العنف يراد بها ما يصطلح عليـه بالعـنـف القـولي (أو العنـف اللفـظـي)، والعـنـف الفعـلـي (أو العنف العملي).

والعنف القولي هو كل عنف محله النطق والتلفظ. وأشكاله كثيرة، منها: السب والشتم والثلب والتحريض والدعاية المغرضة والتكفير والتفسيق والتخوين والتعيير...

أما العنف الفعلي فمحله اليد وما في معناها وحكمها، أو محله فعل الإنسان وتصرفه العملي. وأشكاله كثيرة، ومنها: القتل وقطع العضو وتبديد المال وهدم البناية وإتلاف المزروعات والمغروسات وخطف الطائرات، وتلويث البيئة وكل ما يؤدي إلى ترويع الآمنين وقتل المدنيين وتخريب المحيط وإفساد العمران. [ ص: 15 ]

ومصادر العنف هي الجهة التي يصدر منها العنف، سواء بفعله وممارسته، أو تبريره وتسويغه، أو التحريض عليه والتخطيط له والتستر على أصحـابه وأطـرافه. وهذه المصادر قد تكون متمثلة في فرد، كما هو الحال في الاعتداء الفردي بالسرقة والقتل والاغتصاب والضرب والافتراء، وقد تكون متمثـلة في جمـاعـة، كما هو الحال في الاعتداء الصادر من جماعة فكرية أو مذهبية أو عرقية تجاه أفراد أو جماعات أخرى مخالفة ومعارضة ومنازعة للجماعة التي صدر منها العنف.

وقد تكون جهة العنف كذلك دولة ما أو منظمة عالمية أو إقليمية، وهذا يتصور بالخصوص في الاحتلال الأجنبي أو العنف الداخلي.

وأسباب العنف كثيرة، منهـا: الأسباب الدينية (السماوية أو الوضعية الأرضية)، والأسباب العرقيـة والمذهبية والطائفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية بوجه عام.

والمهـم من تعـدد هـذه الأسبـاب أن العنـف لا دين له ولا وطن له ولا جنس له، فهو ظاهرة إنسانية >[2] ، أو حالة نفسية واجتماعية تفرزها ظروف مختلفة وتظهر في بيئات وحضارات متعددة المعتقدات والأديان والقيم والأعراف الأخلاقية والإنسانية. [ ص: 16 ]

وهـذا واضـح وجـلي في التاريخ قـديمـا، وفي الواقع حـديثا.

وعليه فإن حالة العنف هي حالة معقدة ومتراكبة، تتعدد أسبابهـا، وتختلف ظروفها، وتتشعب عناصرها ومكوناتها، وتتشابك معطياتـها النفسية والاجتمـاعية والحضـارية، وتتداخل صورها ومظاهرها، وتتنوع مشكلاتـها ومعضـلاتـها ومنعرجـاتـها، وتتسـارع آثارهـا في الانتشار إذا لم تقم المعالجة الحقيقية لها.

ومن ثم، فإن المعالجة لحالة العنف ينبغي أن تطرح بنفس مستويات وأحـوال طبيعة الحالة العنفية، من حيث التعقد والتراكب والتشابك والتداخل والتفرع، ومن حيث استـدعاء المعالجـة الجذرية والحقيقية والعميقة، بمعالجة الأسباب والمداخل والمنطلقات وبعدم الاقتصار على الآثار والنتائج والمآلات، ومن حيـث انطواء هذه المعالجة على جميع الأدوية النفسيـة والاجتمـاعية والاقتصـادية والسيـاسيـة والثقافيـة والعلميـة، هذا فضلا على انطواء هذه المعالجة على التدابير والسياسات الوقائية والاحتيـاطية التي تتحسب للعنف قبل وقوعه وحلوله وتتحوط له قبل اشتعـال نيرانه واشتداد لهيبه، أي أن تكون هذه المعالجة حضارية شاملة لكل العناصـر والمـكونات الإنسانية والثقافية والأمنية والعمرانية حتى يتحقـق الأمـن ويسود السلم ويتجذر الوفاق البناء والتعايش المثمر والتحضر المبدع. [ ص: 17 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية