ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- سبل المواجهة على مستوى الجهة غير الفقهية:

الجهة غير الفقهية تشمل الجهة الفكرية والسياسية والمدنية والنقابية والثقافية، وكل ما يكون مجال عملها غير المجال الفقهي على صعيد الإفتاء والاجتهاد والتعليم والقضاء والتنظير والإصلاح.

ومن هنا يمكننا أن نتحدث عن الجمعيات الثقافية وجمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية والإعلامية والمنظمات القانونية والإقليمية ومختلف التنظيمات والتكتلات الكثيرة والمتكاثرة.

والمـراد بدور هذه الجهات ( غير الفقهية) في تحقيق معالجة حالة العنف أمران:

- الأمر الأول: وهو أن تقيم هذه الجهات سياساتها وخياراتها على أساس المنظومة الدينية الإسـلامية والثقافة الإنسانية والحضارية الكونية المنتجة والمبدعة والعادلة والسوية والموفقة، والتي تعالج العنف وما في حكمه ومعناه معالجة جذرية وأصلية، توقيا وتحوطا وعلاجا وإصلاحا وجبرا وتعويضا.

- الأمر الثاني: وهو أن تؤسس هذه الجهات علاقاتها مع الجهات الفقهية على أسس تجلب الخير وتنبذ العنف وتمنع الشر والشدة والتحامل والتآمر والجفاء والتباغض.

ومن هذه الأسس: [ ص: 85 ]

- احترام الجهات الفقهية في تخصصها المعرفي وفي أدائها العملي وفي رجالاتها وأعلامها وأفرادها، فلا يجوز للجهات غير الفقهية أن تتدخل في تخصـص الجهـات الفقهيـة، والعكس صحيح. وقد آل أمر هذا التدخل والتجاوز إلى ممارسات خاطئة وأفهام مغلوطة، ترتبت عليها ردود فعـل عنيفة، وألهبـت المشاعر في نفوس المناصرين للفقه، ودفعت بعضهم إلى الوقـوع بقصـد وبغير قصـد في دائرة من دوائر العنف، تنظيرا أو عونا أو سكوتا عنه أو لا مبالاة به...

فليس من المنطقي والموضـوعي (معرفيا ومنهـجيا وواقعيا)، وليس من العدل في القول، أن تنتصب جهات علمية لا علاقة لها بالشأن الفقهي الشرعي، أن تنتصب للإفتاء والتأويل، وربما للتجنيد والتهييج والتحريض لتنال من الجهة الفقهية شيئا ما.

والحق الذي ينبغي أن يصار إليه، أن الأداء الفقهي ينبغي أن يسند إلى أصحابه وجهاته المتخصصة والمتكونة والتي لها الصلاحية المعرفية والمنهجية والرسمية والشعبية التي تؤهلها لمزاولة النشاط الفقهي بكل أبعاده ومتطلباته وفي سائر مجالاته وميادينه.

وهـذا، وكما يقال في الشأن الفقهي، فإنه يقـال في أي شأن معرفي، كالشأن الفلسفي أو الطبي أو الهندسي، إذ لا بد من مراعاة التخصص العلمي والأهلية المعرفية، حتى تقام الأمور بالميزان الصحيح. [ ص: 86 ]

- منع الاستهزاء بأعلام الفقه وعدم الاستخفاف بدورهم ورسالتهم الحضارية العمرانية. وما مصلحة المجتمع في أن يسخر من فقيه أو جماعة من الفقهاء، وأن يتهموا في علمهم وتكوينهم، وأن يبالغ في ذلك إلى درجة رمي هؤلاء بالسذاجة أو العته و (الدروشة - والغباء - والحمق)؟ فهذا لا يزيد الأمر إلا سوءا، ولا يحل المشكلة، بل سيكون هو المشكلة التي يكون من صورها التسويغ للعنف وتأسيسه وتغذيته.

- احترام الجهات غير الفقهية من قبل الجهات الفقهية والإفادة منها والسعي إلى التوافق والتعاون لما فيه الخير العام والخاص. وهذا يتحقق وفق رؤية تتبين في ضوء معطياتها وملابساتها وسياقاتها.

وربما يكون من أسباب قيام ظواهر العنف وتأجج حالات الصراع والقتال، ما يتصل بإقصاء دور الفقه واستبعاد كثير من الفقهاء واتهامهم بالعجز والفشل والتخلف والتراجع، الأمر الذي أدى إلى شيوع الفراغ الفكري وإلى ظهور ردود الأفعال (العنيفة وغيرها)، وإلى بروز أشكال من المواجهة والمصادمة، أو إلى وقوع حالات من التوتر الفكري والتعكر الاجتماعي وانسداد الأفق الإنساني، مما شكل أحد أسباب قيام العنف وأحد مداخله الواضحة والأساسية.

والخـلاصة، أن الجهـات الفقهيـة عـبر التاريخ، وفي الواقع في كثير من مناسباتـها، ظلت مؤسسة راسخة وفاعلة في المجتمع، وجهة مدعومة [ ص: 87 ] من الساسة والعامة، ماديا ومعنويا، وقوة متواصلة ومتآخية مع غيرها من المؤسسات والجهات. وبقيام هذه الجهة تواصل السند المعرفي الشرعي الفقهي وتحققت إحدى حلقات البناء الحضاري العام.

التالي السابق


الخدمات العلمية