ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- فكرة الصراع:

لا بد من الاعتراف أن اللجوء إلى القوة والعنف والمواجهة والتحارب والإرعاب والإرهاب كان ولا يزال ملازما لمسيرة الحضارة، يضيق ويتسع لكنه لا ينقطع، له فلسفاته ومبرراته وحتى حضاراته التي قامت على إلغاء (الآخر) وعدم الإقرار بحقه في الوجود والحياة، بمسوغات وذرائع وفلسفات مشبعة هي نفسها بالترهيب والترعيب، والشواهد في الواقع أكثر من أن تحصى، حتى وصل الأمر ببعض الفلسفات إلى اعتبار أن الأصل في الحياة هو الحرب والمغالبة بالقوة، وأن فترات السلم لا تخرج عن كونها هدنة مؤقتة لمعاودة الاستعداد لحروب أخرى.

فالحروب والمواجهـات اليوم أصبحـت لا تحتاج إلى كثير من المسوغات، فقد ابتدعت لها مصطـلحات عجيبة وغريبة تسـوغ العدوان من قبيل "الحرب الاستباقية"، أو "الهجـوم الدفـاعي"، أو "الدفـاع الهجـومي" أو "الانتصار لحقوق الإنسان"، أو "لإقرار الحريات"، و"حمـاية الأقليات" أو "لإيجاد الملاذات الإنسانية"، أو "لنشر قيم الحرية والديمقراطية" أو "لمحاربة الإرهاب"... وهكذا، لدرجة أن بعض الفلاسفة رأى في الحروب نعمة لمعالجة مشكلة الزيادة السكانية المطردة التي تشارك في اقتسام وتكريس الفقر في خيرات الأرض، لأن الخيرات تنمو بما يسمى السلسلة العددية البطيئة بينما التزايد السكاني ينمو بما يسمى السلسلة الهندسية ذات الطفرات النوعية. [ ص: 105 ]

ولقد تولد عن هذا كله فلسفات خطيرة تؤمن بفكرة الصراع والمواجهة والهيمنة وإلغاء (الآخر)، وتوجه عجلة الحضارة ورحلة العلم للإنتاج التقني إلى ما يحـقـق لهـا السيـطرة والهيـمنـة وغلبة القـوة، والإنتـاج الأدبي والثقافي لما يرسخ لها فلسفة القوة ويسوغها.

إذن ظـاهرة العنف والمواجـهـة والإرهاب ظاهـرة ممتـدة تاريخيا، تضيق وتتسع، تخبو وتتـقـد، لـكن لا تنقطـع، وليس لها هـويـة أو مـكان وزمـان أو دين، هي ظاهرة رافقت الوجود البشري على الأرض، وهي صناعة بشرية أولا وأخيرا حتى لو مورست باسم القيم الدينية، وجاءت فلسفتها ثمرة للون من التدين المغشوش ولتبرير وتسويغ الاستبداد والتسلط.

ولعل من أخطر دوافع هذه المغالبة الحضارية: الاستكبار، والاغترار بالقوة، وشهوة الهيمنة على (الآخر)، ومحاولة دمغ دين أو حضارة أو أمة بالعنف ووصمها بالإرهاب، حتى يشكل ذلك مسوغا للتدخل في شأنها والسيطرة على مواردها والتحكم بمصيرها؛ لذلك تصر دول الهيمنة والاغترار بالقوة واعتمـاد سياسة التسلط والاستعمار على عدم وضع واعتماد تعريفـات محـددة للعنـف والتـطرف والإرهاب المقصود، الأمر الذي يمكن لها أن تضع هي دون سائر الخلق التفسيرات والمسوغات التي تناسبها وتشكل لها الذريعة.. وليس ذلك فقط، وإنما تحاول أن تفرض نوعا من الإرهاب الفكري لتطارد كل من يحاول أن يبحث الظاهرة، ويحرر مفهومها [ ص: 106 ] وينظر في أسبابها، ويقوم بمقاربة ومقارنة لممارستها ونتائجها، وتتهمه بأنه بذلك العمل الموضوعي يشكل مسوغا وداعما للإرهاب والتطرف، وقد تلحقه بالمتطرفين، وتلاحقه بكل أسلحتها؛ لأنه بتعريفه للإرهاب وبيانه للأسباب المنشئة له ينغص عليها طعامها ويكشف أساليبها الخفية.

لذلك بقيت مفاهيم التطرف والعنف والإرهاب والتعصب عائمة وملتبسة ومختلطة وكيفية، وهي أقرب للأشباح منها للواقع، والذي يتجرأ ويحاول مناقشتـها كأنـه يسـير في حقـل ألـغـام، حيث لا يسـمـح بذلك إلا لعملاء الحضارة المهيمنة المتسلطة نفسها، الذين لا يخرجون عن فقهاء السلطان الظالم أو مثقفي السلطان المستبد.

والذي نحب أن نؤكـده ابتداء أننا نـدين العنف والتـطرف والإرهـاب، إلى آخر هـذه القـائمة من المصطلـحات، من أي جهة جاء، سواء من الأفراد أو الجماعات أو التنظيمات أو الدول، وتحت أي مسـوغ أو سـبب أو مبرر، لكن ذلك لا يمنعنا أبدا من دراسة هذه الظواهر والتفتيش عن أسبابها في محاولة للتحقق من وجودها فعلا ومن ثم كيفية الوصول إلى الحل، ذلك أن الحل الأمني الذي ما يزال معتمدا برهن على فشله وعجزه بل تحول ليصبح سببا وموقدا لإثارة التطرف وصناعته.

فالظواهر المعلنة نفسها بحاجة إلى التحقق من وجودها وحجمها ومن ثم الأسباب الكامنة وراءها، وتحريرها من الالتباس المقصود بمفاهيم الجهاد [ ص: 107 ] بأهدافه المعلنة والدفاع عن النفس والمقاومة للاحتلال ورد العدوان، وما إلى ذلك، وهل هذه الظواهر، حال وجودها فعلا، هي طبيعية في حضارتنا ومجتمعاتنا أم أنها مصنوعة لتشكل ذرائع ومسوغات العدوان والهيمنة علينا، حتى ولو كان بعض أدواتها من بني جلدتنا؟

ونسارع إلى القول: بأنه قد يكون هـذا المناخ من الإرهاب الفكري الذي يحاط به ما يسمى اليوم بالتطرف والإرهاب، ويطارد به كل مفكر وباحـث عن السبـب، وبذل الجهـود للاقـتـصار في النـظر على الآثار، هو بسبب أن السماح بالبحث في الأسباب قد يكشف الفاعل الحقيقي، أو الإرهـابـي الحقيـقي، سـواء كان ذلك على مسـتـوى الدولـة أو الأفـراد أو الجماعات، فإذا بالذي يدعي محاربة الإرهاب أو يعلن الحرب على الإرهاب عالميا نجده متلبسا بالإرهاب ومسببا له، ذلك أن الاقتصار على النظر في نتائج وآثار الإرهاب يؤذن من جانب باستمراره لبقاء أسبابه، ويؤدي من جانب آخر إلى القبض على القتيل وتجهيزه وتكفينه وإبقاء القاتل على قيد الحياة يمارس الاستمرار في عملية القتل، وتستمر في العالم الأحزان والفواجع والإدانة والغشاوات التي تحول دون كشف القاتل... وتغييب السبب الذي لا بد أن يعرف ليبطل العجب.

إن إشاعة جو من الإرهاب الفكري والسياسي، وكيل الاتهامات المتعددة لكل من يحاول البحث في أسباب الإرهاب، واتهامه بأنه يتعمد [ ص: 108 ] إيجاد المسوغات للإرهاب، قد يكون مرده الخوف مما يترتب على ذلك من إسقاط الأقنعة المزيفة، وإبراز الوجه الحقيقي لمن يصنع الإرهاب أو يصطنعه ليكون مسوغا للتدخل في شؤون الآخرين، واختراق سيادات الدول، ومؤسساتها الأمنية، وأنظمتها المالية، ومناهجها التعليمية، والإعلامية، وإعادة تشكيلها وفق سياسته وثقافته باسم محاربة الإرهاب.

إن ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب، على مختلف التسميات، أو أية ظاهرة اجتمـاعية أو إنسانية، إيجـابية كانت أم سلبية، لا يمكن أن تتشكل وتتبلور وتنمو وتمتد ما لم تجد المناخ المناسب والشروط الملائمـة والأسباب المتوفرة والقـابليات والفراغات، أو إن شئت فقل: الفجوات التي تسمح لها بالتشكل، لذلك فإن التعـامـل مع أي ظاهـرة بشـكل سليـم لا يتحقق إلا بالنظر إلى جوانبها من زوايا متعددة ووعيها، والإحاطة بعلمها؛ تلك الإحاطة المقصودة التي تعني دراستها وتحليلها إلى عناصرها الأساسية وأسبابها الرئيسة ومن ثم قراءتها قراءة صحيحة تمكن من فهمها، ووضع الخطـة أو إن شئت فقـل الاستراتيجية لمحاصرتها والحيلولة دون امتدادها في حال خطورتها والبدء بمعالجتها.

ذلك أن الكثير من المتعاملين مع الظواهر الاجتماعية والسياسية والإنسانية عن جهل أو عن قصد - كما أسلفنا - قد يذهبون برؤية مبتسرة إلى ترميم الآثار والنواتج عنها، والتوهم بأن القضاء على الآثار أو كبت [ ص: 109 ] الظاهرة هو قضاء عليها، دون التنبه إلى الأسباب المنشئة التي تشكل المحركات الأساس لها، وأن العلاج الحقيقي يتطلب، بعد دراسة الظاهرة والإحاطة بعلمها، التوجه إلى معالجة الأسباب المنشئة، ضمن خطة مدروسة بتوفير كل ما يتطلبه العلاج من أجل وأدوات ومراحل واختبارات ميدانية للنظر في مدى نجاعة الحلول.

ولا شك أن الظـاهرة، أية ظاهرة، حتى تتشكل وتتبلور وتبدأ بالظهـور، يساهم بتـكوينها مجمـوعة أسباب وعوامل ودوافع ومداخلات متداخلة، لذلك فإن الإحاطة بعلم الظاهرة وتحليلها إلى عناصرها الأولى وأسباب نشوئها وامتلاك القدرة على إبصار الحلول والعلاجات المناسبة والأبعاد المتراكبة لها لا يتحقق في النظر إليها من بعد واحد أو تخصص واحد، وإنما يتطلب توفر مجموعة تخصصات علمية ومعرفية تكون بمثابة الحواس المتعددة، تتضافر جميعا لتشكيل العقل الجمعي القادر على إبصـار وإنتاج الحل النضيج، لذلك فليست المشكلة في تقديرنا هي في الاقتصار على معالجة الظاهرة بمحاصرة آثارها أو بترميم آثارها مع الإبقاء على الأسباب المنشئة لها، أو الاقتصـار على النظر إليها من خـلال بعد واحد، أو تخصص واحد، أو عقل واحد؛ فلكل ظاهرة أهل حلها وعقدها، كما يقال. [ ص: 110 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية