ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- الفكر الأزيم:

والأخطر من ذلك ما أنبتته تربة العنف والمواجهات من أمراء مؤمنين جددا، تجرأوا على أحـكام الشريعة بلا علم ولا فقه، أخذوا البيعة لأنفسهم (بيعة الإمامة العظمى) دون أن يمتلكوا أية مقومات أو مسـؤوليات توازي متطلبات البيعة، فأعطوا لأنفسهم الحق في إعلان الحرب والجهاد، واستباحة المحرم من الدماء والأموال والأعراض، والحكم على المجتمعـات بالكفر والجاهـلية والردة، فسوغ لهم ذلك إتلاف الممتلكات العامة، وقتل النساء والأطفال؛ لأن الخصوم يتترسون فيهم، وبدأ العبث في الأحكام وإسقاطها على غير محالها.

نقـول: لقـد جـاء مـن خـلال الفـكر المتأزم، أو "الأزيـم"، وأجـواء المواجهـة فقـهاء لا علم لهم، منهم الطالب، ومنهم العامل، ومنهـم صـاحب الحرفة، ومنهم ومنهم ممن لا علاقة لهم بالفقه والشرع، وكل بضاعته انتسابه إلى تنظيم إسلامي، ولم يتطلب ذلك أكثر من لباس معين وشكل مميز. [ ص: 152 ]

أمراء جماعـات تمارس العنف والقـتل والغدر، وتتهم كل من يرى غـير رأيهـا بالممـالأة والنفـاق، وقد يركب الموجة ويستغل الشعـارات الإسـلامية ويستـخدمها في تحريك الأمة من لا فقـه له ولا دين، بل قد يكون عدوا مدسوسا من قبل (الآخر) لصناعة هذه الصور المشوهة لإجهاض القيم الإسلامية وفقد الثقة بها.

إن إسقاط القيم الإسلامية على غير محالها، والعبث فيها على أيدي بعض الجهلة والمدسوسين من قليلي العلم والفقه، أو محاولة تدجين القيم الإسلامية والأحكام الشرعية لصالح السلطات الطاغية الغاشمة المستبدة، هو نوع من محاربة القيم والنيل منها، على أيدي أبنائها، أكثر مما ينال منها أعداؤها، وليس مستبعدا في محاولات الاختراق هذه أن يساهم الأعداء بصناعة هذه الصور المشوهة، لأن ذلك يشكل السلاح الأمضى في محاربة القيم الإسلامية، ركيزة حضارة الأمة ومعقد أملها، ورجاء خلاصها، على طريقة المثل القائل: "اقطعوا الشجرة بفرع منها".

إن عـدم إدانة هـذه الاجتهادات والمواجهات وصور العنف، لسبب أو لآخر، بذريعة أن ذلك يمكن أن يصب في مصلحة أعداء الدين والوطن، ويؤدي إلى خلخلة الصفوف، قد كلفنا الكثير من الدماء والأموال، وأدى إلى انعدام الثقة بالقيم الإسلامية، ووصمها بالانحياز حتى عند بعض المتعاطفين معها. [ ص: 153 ]

ولعلنا نقول: بأن الأعداء استطاعوا أن يحققوا مآربهم فينا، وأن مثل هذه الصور المشوهة عن قيم الدين، التي تمارس من قبل بعض الجهلة من أبنائه أو من بعض الرموز وأصحاب المسوح الدينية المسوغين للطغيان، هي أخطر في الحساب النهائي على الإسلام والمسلمين من أعدائه؛ لأنها ممارسات لا يرضى بها عقل ولا دين، والأخـطر من ذلك مواطـأة شيوخ الجماهير الحاشدة أو زعامات الشوارع.

إن التضليل الديني والثقافي يتعاظم ويشتد خطره أكثر فأكثر عندما يتحول عدد ممن يحملون سمات الدين إلى سدنة للاستبداد السياسي ومسـوغين لفعـله، وبذلك يلتحم الجبت الديني والطاغوت السياسي.. بينما يذهب عدد آخر من أصحاب الرسوم الدينية إلى جماعات التطرف والإرعاب والمواجهة، بالحق وبالباطل، فالتحم الجبت مرة ثانية بالطاغوت ذي اللون الجماهيري، ويستمر الباطل ينازل الباطل، ويعم فكر الأزمة ثقافة المجتمع، ويبدأ التآكل والانحلال واللجوء إلى (الآخر) ليحقق الأمن والسلام، وعند هذه الدورة الحضارية يصل الحال إلى اسـتدعاء الاسـتعمار لحفظ الأمن؛ وليس ذلك فقط وإنما هو اليوم استعمار مشروع مدفوع الأجر، ولله الأمر. [ ص: 154 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية