الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

الأستاذ / عبد العال بوخلخال

صفحة جزء
- ما دور القيم؟

ويمكن أن نزيد المسـألة وضوحـا، بأن نجمل الدور الذي تقـوم به القيم في حضارة ما... فزيادة على ما سبق، نقول:

أ- منظومة القيم هي التي تحدد الـ (نحن)، ومن ثمة يتحدد (الآخر)، فهكذا كان دائما دور القيم، ولكنه في عصرنا أصبح أكثر أهمية في تحديد هويتنا، (وفرزها) عن بقية الهويات، وذلك بسبب حالة التنميط المادي [ ص: 69 ] (استخدام الوسائل ذاتها) التي يمر بها العالم الآن... فالتكنولوجيا سهلت حصول الناس على الأشياء ذاتها؛ وسهولـة التواصـل جعـلت الناس يقـتربون من الناحية الشكلية (مظاهر اللباس وأنماط السلوك الاقتصادي) كما لم يقتربوا من قبل... حتى لتكاد بعض البيئات تفقد تميزها الحقيقي!!

وحدها القيم، توقظ الناس من أوهامهم، وترجعهم إلى أصولهم، وتريهم أن التشابه الشكلي المظهري لا يمكنه أن يمحو الفواصل بين ما ندركه باعتباره (نحن) وما ندركه باعتباره (الآخر).

فقد كانت القيم، ولا تزال وستبقى، ما بقي الإنسان على وجه هذه الأرض، هي المحدد الحقيقي للهوية، بل هي القاعدة التي يرتكز عليها شعب ما، كي يحصن ذاته من الذوبان في الآخر، وفي مقاومة كل محاولات التذويب، العنيفة منها والناعمة.. وهذا ما يجد مصداقه في كل عمليات مقاومة الاستعمار القديم، أو في عمليات التصدي لمحاولات العولمة المعاصرة.

ب- منظومة القيم تأتي في المقـام الثاني، لتشـكل المعيار، الـذي في ضوئه يتحرك الإنسان في التاريخ، فما دام الإنسان - كما أسلفنا - هو جوهر الحضارة، وبانيها، وهو المحدد لاتجاهها ومصيرها، ولا يكون له ذلك ما لم يكن له معيار يقيس من خلاله ما عليه فعله أو ما مدى صحة ما تم فعله... فالقيم هنا ميزان وبوصلة: ميزان يقيس ويزن به السلوك، وبوصلة يحدد بها الاتجاه.

ج- منظـومـة القـيـم هـي القـاعـدة، الـتي ترتـكز عليها الحضارات في تحديد العلاقات مع بعضها بعضا، سواء كانت هذه العلاقات منطلقة من فلسفة التساند والتعاون أو من فلسفة التضاد والتصادم. [ ص: 70 ]

فكلا المسلكين، وإن كانا متناقضين، فإن كل واحد منهما هو في الحقيقة ثمرة للوعي بمنظومة القيم الذاتية، المميزة لحضارة ما عن أخرى.

فقد يكون هذا الوعي على أساس التنافي أو الاستعلاء، فيولد فكرة الصدام والصراع... وقد يكون على أساس النظر إلى المشترك الإنساني، فيولد فكرة التساند والتعاون.

فالقيم في الحالتين هي الدافع.

د- منظومة القيم، هي ما يعطي لحضارة ما، في عصر ما، ما يمكن أن نطلق عليه روح تلك الحضارة أو ذلك العصر .. تلك الروح هي الخيط الجامع بين مظاهر الحضارة في مختلف ميادينها، وإن بدت عند الوهلة الأولى وعند أصحاب النظرة السطحية أشتاتا لا جامع بينها... فهي ـ القيم ـ تؤدي الوظيفة ذاتها التي يشبهها بعض الفلاسفة بما يسمونه (سر التاريخ) أو (روح التاريخ) والذي بمقتضاه يفسرون عصرا ما أو حضارة ما بنظرة كلية تمكنهم من كشف الروابط بين مختلف أنشطة الإنسان في ذلك العصر... >[1]

هـ- منظومة القيم هي الرابط بين مكونات حضارة ما .. وأعني بالمكونات هنا، المكونات البشرية، وإن اختلفت أعراقهم وأجناسهم ولغاتهم... فهي تعطيهم هويتهم الجامعة، التي تذوب فيها هوياتهم الخاصة. [ ص: 71 ]

فـنـحـن عنـدمـا نـقـول: حـضارة إسلامـيـة، أو حـضـارة غـربـية أو صينية أو هندية... تقفز أمامنا صورة واحدة لكل حضارة، نشير إليها بتحديد القيم، التي تميزها، ولا نكاد نفكر للوهلة الأولى في التمايزات الإثنية أو اللغوية وحتى الدينية والمذهبية، التي تصنع الفروق بين مكونات الحضارة الواحدة... فلننظر مثلا إلى الامتداد الجغرافي الذي يضم (الحضارة الإسلامية)، هكذا بالمفرد... فإننا نتعامل معه باعتباره امتدادا طبيعيا متجانسا، يغلب لون (القيم الإسلامية) على التباينات اللونية المشكلة له، فنقول (حضارة إسلامية) دون أن نفكر في (العرب والأمازيغ والأتراك والفرس والأفارقة والآسيويين) وجذورهم التاريخية والثقافية؛ لأننا ننظر هنا بمنظار القيم الجامعة... وقل مثل ذلك عن الحضارة الغربية، بفرعيها (الأوروبي والأمريكي)... فنحن من منظار القيم نتعامل معها، باعتبـارها كيانا واحدا متجانسا، ولكنها بمنظار التقسيم الإثني أو الجغرافي أو التاريخي، كيانات بينها من التباينات ما بينها.

التالي السابق


الخدمات العلمية