الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

الأستاذ / عبد العال بوخلخال

صفحة جزء
ثانيا: الآليات:

بعد أن تحدثنا عن القيم المشكلة للنظرية السياسية في العنصر السابق، يأتي الآن الحديث عن الآليات التي من خلالها تتحقق تلك القيم في دنيا الواقع، وهي أيضا ينبغي أن تفهم انطلاقا من دورانها حول مركز النظرية (كرامة الإنسان)، وهذه الآليات هي:

1- السيادة للشرع:

فالشريعـة هـي المرجعيـة العليا، التي يستمد منها المسـلم ضوابط حركته في الحياة، وهي مصدر تشريعاته ومعيار تصرفاته.

وليس في هذا حجر، لا على عقله واجتهاده، ولا على حريته، فمن أدرك طبيعـة الشريعـة الإسـلامية، سيجد أنـها ثبتت -كما أشرنا من قبل- الأصـول والقـواعـد الكلية، وتركت مجالا واسعا للعقل أن يجتهد، متفاعلا مع واقعه.

وهذه من المسائل التي تكاد تكون -بل هي كذلك- من المسلمات، ولكن التشويش الذي تثيره الدعاية العلمانية - بجهل أو بمكر- يضطر العلماء في العديد من المواضع إلى بيان الواضحات!! [ ص: 143 ]

فالشـريعـة إذن تضـع أمـام الناس أصولا كلية هي بحكم التجربة والخبرة التاريخية الضامن لأن تبقى حياة الإنسان، فردا ومجتمعا، دائرة حول الكرامة الإنسانية.

2- الأمة هي مصدر السلطة:

وهذه آلية أخرى، تتعزز بها قيم النظرية الإسلامية، حين تجعل مفهوم الخلافة أساسا صفة لكل إنسان قبل أن يكون مظهرا للحكم السياسي الضيق، ثم هذه الأمة التي قوامها أفراد، كل واحد منهم يتميز بالكرامة الإنسانية المدعومة بالحرية والعدل والمساواة، هي من تختار من يحكمها - من حيث المبدأ- ولا يهم بعد ذلك طريقة الاختيار، أو الطريقة التي تمنح بها الأمة هذه السلطة للحاكم كي يقودها.

3- الـشـورى:

وتأتي الشورى كآلية أخرى من آليات تعزيز القيم السالفة الذكر، وهي تعبير عن تقدير واحترام للإنسان باعتباره كائنا عاقلا، بإمكانه أن يفكر، ويعطي الرأي السديد، وأن يشارك في الشأن السياسي.

هكذا نرى الشـأن السـياسي في الإسـلام، من خلال نظرية جوهرها أو روحها السعي للحفاظ على كرامة الإنسان من خلال تكامل القيم والآليات. قيم أساسها (الحرية، والعدل، والمساواة)، تترجمها في الواقع (سيادة الشرع، وكون الأمة هي مصدر السلطة، والشورى) >[1] . [ ص: 144 ]

وقبل أن نغادر هذا المبحث، نرجع كما وعدنا في بدايته، للإشكال الذي قـد تثـيره فكرة مرـكزية الإنسـان في النظرية السياسية الإسلامية، مع دعاة فكرة الحاكمية.

وفكرة الحاكمية، كما هو معلوم لدى المهتمين بالفكر الإسلامي، برزت في الأدبيات الإسلامية المعاصرة كمسألة سياسية مع الإمام المودودي >[2] ، ولاحقا في كتابات سيد قطب، رحمهما الله.

وهي فكرة عرضت في البداية، بصياغة يغـلب عليهـا كثير من التـوتر، ثـم زادتها الدعاية العلمانية والتفسيرات الخاطئة لبعض الجماعات التباسا.

ولكن القراءة الهادئة، والمستوعبة للسياقات (المعرفية والاجتماعية) التي طرحت فيها النظرية، سواء عند المودودي أو قطب، تمكن الباحث من الإنصاف، وتعينه على النقد البناء.

وما يهمنا هنا، هو أن نزيل الإشكال الذي قد يتوهمه البعض، بين مفهوم الحاكمية ومفهوم مركزية الإنسان في النظرية الإسلامية.

يقول المودودي، رحمه الله، تحت عنوان: (النظرية السياسية في الإسلام، ومبدؤها الأساسي): "هذه العقيدة هي روح ذلك النظام الذي أسس بنيانه الأنبياء، عليهم السلام، ومناط أمره وقطبه الذي تدور رحاه حوله، وهذا هو [ ص: 145 ] الأساس الذي ارتكزت عليه دعامة النظرية السياسية في الإسلام، أن تنزع جميع سلطات (powers) الأمر والنهي والتشريع من أيدي البشر، منفردين ومجتمعين، ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر فيطيعوه، أو يسن لهم قانونا فينقادوا له ويتبعوه، فإن ذلك أمر لله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره، كما قال هو في كتابه: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ) (يوسف:40)، ( يقولون هل لنا من الأمر من شيء ) (آل عمران:154)..." >[3] .

ويخلص بعد هذا إلى أن للدولة الإسلامية ثلاث خصائص:

1- ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة الإسلامية نصيب من الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هو الله.

2- ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع.

3- أن الـدولـة الإسـلامية لا يؤسـس بنيانـها إلا على شرع الله، وهي لا تستحق الطاعة إلا من حيث أنها تحكم بما أنزل الله >[4] .

هذا ملخص نظرية الحاكمية، وهي كما تبدو تجعل (حاكمية الله) هي مركز النظرية السياسية في الإسلام، مما يجعل القول بأي مركز آخر تناقضا مع حاكمية الله تعالى المطلقة والتي هي محل إجماع بين المسلمين. [ ص: 146 ]

الحق أن نظرية الحاكمية، إذا ما قرئت في سياقها التاريخي، ستفهم باعتبارها ردة فعل على ما راج في المجتمع الإسلامي من طرف النخبة المتغربة حين تبنت الخيار العلماني، بنظرته المغالية في استبعاد الدين لحساب التمركز حول الإنسان، كما سبق أن بينا في حديثنا عن القيم الغربية.

وما يبدو في النظرية من غلو، لم يكن سوى رد على ذلكم الغلو العلماني، الذي أراد أن يطابق بين التجربة الغربية في صراع المشروع التنويري مع الكنيسة، وبين المشروع النهضوي العربي والإسلامي مع الإسلام.

ونحن هنا نؤكد، أننا إذا خففنا من اللهجة الحدية، التي ميزت خطاب دعاة الحاكمية، لن نجد بين نظرتنا في اعتبار الإنسان مركز النظرية السياسية، وبين القول بحاكمية الله تعالى أي تناقض أو صدام، ذلك أننا نتحدث هنا عن الإنسان كما يحدده التصور القرآني، الإنسان الخليفة، المحقق للخلافة من خلال العبادة والعمارة.. فهو إنسان مرتبط بخالقه غير منفصل عنه.

والله - سبحانه - الحاكم هو الذي منح الإنسان الكرامة، وشرع من القيم والآليات، ما يحفظ تلك الكرامة ويعززها.

إن الإشكال لا يبرز إلا إذا جعلنا الإنسان في مركز النظرية، ثم قطعنا هذا الإنسان عن خالقه، وجعلناه -كما هو في التجربة الديمقراطية الغربية- مقياس كل شيء!! وهذا ما سيتضح أكثر في المبحث الموالي. [ ص: 147 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية