حاجة الدعاة لعلمي المقاصد وفقه الواقع

الأستاذ الدكتور / أحمد فؤاد عيساوي

صفحة جزء
المقـدمة

لقد صار من الضـروري والآكـد في مجالات ومضـامين وميادين صـناعة الخطاب الديني عموما والدعوي خصوصا الحاجة الماسة والأساسية لعلمي المقاصد وفقه الواقع، فهما علمان رئيسان لا يمكن الاستغناء عنهما البتة أثناء عملية إعداد وتكوين وتأهيل وتثقيف وتربية دعاة المسـتقبل، بل هما: ركنان أساسان من أركان عملية التكوين والإعداد الفكري والمعرفي والمنهجي والقيمي والأخلاقي والتربوي الديني للدعاة وللقائمين على تشكيل وصياغة الخطاب الدعوي أيضا، بالإضافة إلى جملة من الأركان الرئيسة الأخرى المرتبطة بنجاح العملية وتسـديدها والتي سنشير إليها أو سنتعرض لبعضها لاحقا.

فلا يمكن أن يسدد هذا الخطاب الديني الدعوي أهدافه الخاصة والعامة والمتعددة بدقة، أو أن يصيب مراميه المنشودة والمسطرة له بفاعلية أو أن يحقق بعض أو جل أو كل غاياته الكبرى بتفوق ونجاح إذا كان القائمون على إعداده وتهيئته وتدوينه ورسمه وتوجيهه غير متمكنين منه علميا ومعرفيا، وغير متحكمين في كيفيات مورانه السنني آليا واتصاليا، وغير متسامين روحيا ووجدانيا مع عروجه القيمي وتموضعاته وإشباعاته واستخداماته الحياتية الواقعية منهجيا وآليا، وغير مدركين وواعين لكل أدبياته ومكوناته وأصوله [ ص: 5 ] وفروعه وتفاصيله: النظرية والعملية والتطبيقية، النفسية والانفعالية والشعورية، والواقعية الاجتماعية، والمادية والمعنوية والأدبية، والقيمية والأخلاقية والوجدانية والروحية والزمنية والبيئية والطبيعية؛ ذلك أن الاستواء الرزين، والتفقه العميق، والتمكن المتين، والتحكم الدقيق في غالبية مكوناته ومجرياته هو مطية النجاح والتوفيق والسداد.

يضاف إلى ذلك أن التكوين المعرفي والعلمي الجيد، والإعداد الأدبي والتعاملي الممنهج والمنضبط والدقيق والمباشر، والتحضير المرجعي والبنائي المسبق والمدروس والمخطط، الجامع لكل تفاصيل ومكونات وأبعاد ومناهج وآليات وكيفيات التفاعل الناجح والناجع والمؤثر في جمهور المدعوين، هو: السبيل الوحيد لتحقيق الفائدة المرجوة من هذا الخطاب الديني الدعوي، المؤسس على تراكم وتفاعل جملة من العلوم والمعارف والمناهج والخبرات، وعلى رأسها آليات وضوابط فقه علمي المقاصد وفقه الواقع، وفقه محل التنزيل، كركنين أساسين ورئيسين لصناعة خطاب ديني ودعوي ناجح، وصياغة -بفضل إحكامه- فرد وجماعة ومجتمع وكيان راشد.

وانطلاقا من رحم المكتبة الإسلامية العريقة والغنية بالتجارب والتراكم والخبرات والمعارف والعلوم، التي أثرت -عبر الزمن الدعوي الفاعل- الفهوم وأضاءت البصائر والرؤى، وحشدت سيول القراءات والأقوال وخلاصات العقول والنقول على آي القرآن الكريم وعلى القواعد الذهبية الضابطة للحياة السوية والمبثوثة في مصادر السنة النبوية المطهرة، وتأسيسا من رحم ما جادت [ ص: 6 ] به قرائح ومعارج وقلوب وعقول السلف والخلف الصالح من مخلصي ومرشدي وقادة الأمة الإسلامية، صار من الآكد إدراك ومعرفة وفقه أهمية علمي المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل في اصطفاء وترشيح هذا الخطاب الديني والدعوي الأكثر صفاء ونقاء وسلامة وسلاسة وتسديدا.

واعتبارا من هذا التشخيص والمقاربة التعريفية المبتسرة، وانطلاقا من هذه الرؤية القاعدية الجلية، وتأسيسا على أرضية هذه الأهمية والمكانة الكبرى لذينك العلمين، فإننا سنسعى في هذا البحث الموجز إلى محاولة ومقاربة إظهار قيمة ومكانة وأهمية التمكن المعرفي والمنهجي والنظري والتجربي الواقعي من علمي المقاصد وفقه الواقع، وآفاقية نجاحه وتسديده.

وعليه، تدور تفاصيل هذه الدراسة الدعوية الوصفية التحليلية الاستنتاجية النظرية التطبيقية حول دور وأثر علم المقاصد وفقه الواقع في نجاح العمل الدعوي الإسلامي، وأثره البالغ في جذب جمهور المدعوين الحقيقيين والمتميزين بلين وتؤدة إلى سماحة ويسر ورفق وسعادة الإسلام، ودفع بقية الجمهور الدعوي المستقبل من فئات المدعوين المرتقبين والمنتظرين والمحايدين والمنحازين والمشككين والمناوئين للاهتمام به والإحساس برسائله ومضامينه المتميزة.

كما تسعى هذه الدراسة لإبراز قيمة فهم أهمية وأثر ودور علم المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل من خلال ممارسة الداعية للعمل الدعوي، وأثره الفعال [ ص: 7 ] في نجاح وانتشار الإسلام بين جمهور المدعوين بمختلف أصنافهم وفئاتهم، تأسيا بكتاب الله، واقتداء بسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وعمل السلف والخلف الصالح من الأمة، ما يجعل علم المقاصد أرحب من تصـنيفات "أبو إسحاق الشاطبي، ت 790هـ" ومدرسته وتقسيماتها: (ضروريات، حاجيات، تحسينيات، وقواعد موازنات) ومن جاء من بعده، كـ "عبد الرحمن بن خلدون، ت 808هـ" و"جـلال الدين السـيوطي، ت 911هـ" في بعض إشـاراتهما المقاصـدية، وكـ "محمد الطاهر بن عاشور، ت 1393هـ/1973م"، في كتابه القيم "مقاصد الشريعة الإسلامية" و"علال الفاسي، ت 1394هـ/1974م"، وكتابه القيم "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"، فهي باب ومدخل من أبواب ومداخل الاجتهاد المقاصدي في مجال عملية الاتصال الدعوي >[1] .

- أسباب اختيار موضوع الدراسة:

يعود اختيار هذا الموضوع الديني والدعوي الحيوي لعدة اعتبارات، ذاتية وموضوعية وواقعية، فالذاتية والواقعية تنطلق من محاولة استكمال ما بدأناه من دراسة البناء الدعوي والإحاطة بكافة أركانه. والموضوعية تنطلق من حيث كون العمل الدعوي بحاجة ماسة إلى حكمة ومنهج ومقاصد القرآن الكريم والسنة [ ص: 8 ] النبوية المطهرة وضبطهما الإلهي الدقيق لعملية تعيين محل نزول النص (فقه التنزيل) في أقل دائرة ممكنة من الانحراف أو الخطأ، ليصل إلى جمهور المدعوين وفق مقتضيات ومقاصد وأهداف نزوله للناس عموما ولجمهور المدعوين الحقيقيين على وجه الخصوص، ولجمهور المدعوين المنتظرين على وجه العموم. ما يجعل علم فقه الواقع - بالإضافة إلى ركن علم المقاصد- ركنا أساسا في نجاح العملية الدعوية، مستأنسين بتحليل عناصر وأركان العملية الدعوية الاتصالية ورموزها المختلفة، ولمعطيات دورة التغذية المرتجعة

>[2] ، بين النماذج الدعوية المدروسة، وذلك من خلال وضع الخطة المناسبة.

[ ص: 9 ] - إشكالية الدراسة:

تنطلق إشكالية هذه الدراسة الاتصالية والشرعية من تساؤل مركزي مفاده: هل العمل والخطاب الدعوي القائم اليوم عملا وخطابا دينيا ناجحا وموفقا في غياب علمي المقاصد وفقه الواقع والتنزيل؟

فإن كانت الإجابة بـ: (نعم) ، فلسنا بحاجة إلى أن نجري العقل والمنهج في البحث والتحليل عن قيمة ومكانة ودور وأهمية وأثر هذين العلمين في نجاح العمل الدعوي والخطاب الديني.

وإن كانت الإجابة على الفرضية الكبرى بـ: (لا) ، كانت التساؤلات الفرعية التالية:

1 - لماذا فشل هذا العمل والخطاب الدعوي إذن؟ ألهذا السبب أم لغيره؟

2 - وهل يمكن أن يكون نجاحه لأسباب أخرى غيرها؟

3 - وما أهمية ودور وقيمة علمي المقاصد وفقه الواقع والتنزيل في نجاح وسداد العملية والخطاب؟

4 - وكيف يمكن لهذين العلمين الارتقاء بهذه العملية وهذا الخطاب إلى وضعية السداد والتوفيق والنجاح؟

[ ص: 10 ] 5 - وما دور هذين العلمين في نجاح أركان العملية الدعوية: (العمل الدعوي، الداعية، المدعوين، الوسيلة الدعوية) كقيمة مركزية في هذا الدين؟

وانطلاقا من هذه التساؤلات المركزية عن أهمية ودور هذين العلمين نقدم الخطة التالية:

- خطة الدراسة:

1- الفصل الأول: (المدخل والإشكالية والتعريفات اللغوية والاصطلاحية: حاجة، الدعاة، الضرورية، علم المقاصد، علم فقه الواقع، نجاح، العمل الدعوي).

2- الفصل الثاني: قيمة علم المقاصد وفقه الواقع وأثرهما في نجاح العمل الدعوي، ويتكون من المباحث الآتية:

- المبحث الأول: علم المقاصد وفقه الواقع قيمة مركزية دعوية في هذا الدين.

- المبحث الثاني: علم المقاصد وفقه الواقع قيمة مركزية دعوية لنجاح العمل الدعوي.

- المبحث الثالث: علم المقاصد وفقه الواقع قيمة مركزية دعوية لنجاح الداعية.

- المبحث الرابع: علم المقاصد وفقه الواقع قيمة مركزية دعوية مؤثرة في أصناف وفئات المدعوين: (حقيقيين، مستقبلين، مرتقبين، متشككين، مناوئين..).

[ ص: 11 ] 3- الفصل الثالث التطبيقي: أنموذج تطبيقي من حوار النملة ونبي الله سليمان، عليه السلام.

وفيه عرض لنموذج الحوار القرآني الذي دار بين نبي الله سليمان، عليه السلام، والنملة، نظرا لما يجسده من أبعاد نجاح العملية الدعوية المصونة بضابط فقه الواقع والمقصد والتنزيل على المحل.

- الخاتمة: النتائج والتوصيات:

وفي الخاتمة نقرر ما وصلنا إليه من حقائق وما توصلنا إليه من نتائج مهمة، ونترسم ما نراه جديرا ونافعا من توصيات.

- مناهج البحث ونظرياته والدراسات السابقة:

مستعينا - بعون الله تعالى وتوفيقه- ومستخدما كافة المناهج العلمية البحثية المتاحة لتحليل الموضوع المدروس، وسأبين في الفصل المدخلي الأول، التعريفات الأساسية للبحث، فضلا عن إبراز قيمة الإشكالية عبر جملة من التساؤلات المركزية، وسأعالج في الفصل الثاني والذي هو صلب الموضوع أثر ودور وأهمية ممارسة قيمة علم المقاصد وفقه الواقع في نجاح الدعوة والداعية وجذب المدعوين، وأهمية معرفة وفقه خبايا الواقع وانعكاساتها على العمل الدعوي ونجاحه، ملتزما التزاما صارما بتقنيات البحث العلمي الأكاديمي في: الإحالة والتهميش والتوثيق والنقل والاقتباس والتضمين وتخريج الآيات والأحاديث النبوية وغيرها من النصوص والأقوال والآثار والأخبار والأحداث [ ص: 12 ] التاريخية، وذلك بإحالتها إلى مصادرها الأساس والرئيسة، مكتفيا بذكر بيانات الكتاب كاملة لأول مرة، ثم أقتصر على ذكر المصدر وصاحبه فقط في المرات القادمة، ولم أعمد إلى ترجمة الصحابة الأئمة الأعلام حتى لا أثقل الهوامش بتلك الترجمة، ونظرا لما توفره شبكات البحث من تراجم عنهم.

أما فيما له علاقة بالدراسات السابقة أو المشابهة، فلم أرد أن أخصص لها حيزا في المقدمة، كونها سترد في متن أو هوامش الدراسة، ولاسيما أن المكتبة الإسلامية عامرة وزاخرة بشتى أصناف الدراسات الدعوية.

وفيما له علاقة بنظرية البحث المعتمدة، والتعريف التشخيصي والإجرائي لمفهوم العملية الدعوية، فقد استندت إلى نظرية الدراسات الاتصالية الحديثة والمعاصرة، التي تعتبر العملية الدعوية عملية اتصال متميزة ومعقدة بالآخرين على اختلاف فئاتهم وأصنافهم ومستوياتهم وأنواعهم: (الداعية، الدعوة، المدعوين، التقنيات والأساليب، الوسائل، الأثر، ردة الفعل والاستجابة المطلوبة).

- الصعوبات والعراقيل:

تكاد تكون الصعوبات والعراقيل المانعة لإنجاز هذا البحث معدومة، نظرا لوقوع البحث في مجال الإحاطة والسيطرة من جهة، وفي مجال استكمال دراسة بقية حلقات العملية الدعوية وفق منهج ونظرية الدراسات الاتصالية المعاصرة، عدا صعوبة واحدة تمثلت في كثرة الأمثلة والشواهد والأدلة الشرعية في الباب الواحد، وصعوبة الانتقاء والتوفيق بينها، وترك [ ص: 13 ] بعضها لحساب الاختصار.

- الأمنية والرجاء:

سائلين الله العلي القدير سؤال عبد مخبت ضارع أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يتغمد بالرحمات كل من كان سببا في تأسيس وإنشاء واستمرار وبقاء هذه السلسة الغراء "كتاب الأمة" من الأحياء والمتغمدين برحمة الله، وراجين من الله العلي القدير أن ينتفع به الدعاة المخلصون الغيورين على الإسلام والمسلمين، في زمن تكالبت فيه الخطابات الضالة والوثنية كلها على الإسلام ودعاته الصادقين المخلصين.

إنه سميع قريب مجيب الدعاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[ ص: 14 ]

التالي


الخدمات العلمية