حاجة الدعاة لعلمي المقاصد وفقه الواقع

الأستاذ الدكتور / أحمد فؤاد عيساوي

صفحة جزء
المبحث الأول

علم المقاصد وفقه الواقع

قيمة دعوية مركزية في هذا الدين

يعد علم المقاصد من بين العلوم الجليلة في المنظومة التشريعية الإسلامية المتسقة، وهو من بين العلوم الأساسية، التي يجب أن يحذقها الداعية ويتمهر فيها















>[1] ؛ لأنها تضمن له الطريق الآمن والمنهج الراجح والصائب للنجاح في [ ص: 66 ] عملية فهم واختيار ما يجب أن يعرفه جمهور المدعوين، كما توفر له قدرا معتبرا من نورانية النظر والرؤية والتوجه الاتصالي باتجاه أصناف الجمهور المدعو، وتضمن له امتلاك آليات الفرز المعرفي والمنهجي الكفيل بنجاح عملية الاتصال الدعوي الآمنة تجاه جمهور المدعوين المختلفين والمتنوعين.

فهو علم أحكام الشريعة الخاصة بحفظ الضروريات والحاجيات والتحسـينيات >[2] ، ذات الصـلة الوطيدة بحيـاة المكلفين، الذين يطلب منهم - على وجه الوجوب والإلزام - أن يعرفوا ضوابط الشريعة الإسلامية الغراء، كي يتمكنوا من العيش وفق قواعد وضوابط الشريعة، وبناء مدنية مهتدية، ونيل رضى ربهم.

كما أنه علم يفيد العديد من المعاني والفهوم، فالمقصد هو العلة، وهو السر، وهو الحكمة المتوخاة من عمليات التحليل والتعمق في مقاصد الأحكام الشرعية. فالعلة سبب تشريعه، والمقصد معرفة مصلحته من مفسدته على المكلفين، والحكمة اكتشاف المقصود من تشريعه >[3] .

والتيسير والتخفيف ورفع الحرج آليات مقاصدية في إيصال وتبليغ حقائق الدين وأحكامه لجمهور المستقبلين للخطاب الدعوي، مصداقا لقول الله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة: 185) ، [ ص: 67 ] ولقوله تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (النساء: 28) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" >[4] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" >[5] ... وغيرها.

وسنقدم لمحات موجزة تأصيلية في هذا العلم، لنؤسس من خلالها لأمرين أساسين، هما: ما يجب أن يستوعبه ويتمهره ويحذقه الداعية لنجاح عمله الدعوي في جذب المدعوين نحو رسالة الإسلام التي يدعو إليها، وثانيهما: معرفة واكتشاف أهمية وعلاقة معرفة ظروف وواقع المدعوين؛ لأن ".. علم المقاصد هو الرابط الجامع الذي يحفظ الفرعيات من الشتات والعقل من الذرية والتجزيء المبعثر، الذي حول الفقه إلى ملفقات متنافرة بعيدة عن مركزية المقاصد الكلية، التي تضبط التشريع، وتؤلف بين أحكامه، فالمقاصد هي الخيط الناظم الذي يسـلك تفاريـق حبات الأحكام في منظومة كلية منسجمة ودقيقة، مما يسهل على الفقيه عملية الاستنباط التي تقع في ذلك الإطار وتجري في فلكه.." >[6] .

[ ص: 68 ] فعلم المقاصد هو العلم الذي يعرف به المقصد من التشريع في حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات للكليات الكبرى (الدين، العقل، النفس، النسل، المال، الوحدة، الحرية، العدل، الحقوق الاجتماعية، المقاصد الآلية كـ: التيسير والتخفيف ورفع الحرج) ؛ لأن ".. الأحكام الشرعية ليست ركاما مشتتا ومشوها من الطلبات المجردة والمعزولة عن بعضها، بل هي نظام مترابط بشبكة علاقات متماسكة ومتناسقة، وكل عزل للحكم عن إطاره العام أو الخاص هو تقطيع لصلته بشبكة علاقات المقاصد، الذي يفضي إلى موته وعدم تأثيره الإيجابي في المكلفين، أي: يتحول إلى فكرة ميتة لها مفعول سلبي" >[7] .

كما أنه هو: العلم الذي يكسب المتمهر فيه من الدعاة القدرة والمهارة الشـرعية الصحيحة على إنزال النصوص وفق محلها المعني والمقصـود، وهو الذي نعنيه بفقه الواقع، بحيث يتيسر للداعية تعليل الكثير من الأحكام الشرعية؛ لأن علم المقاصد هو: العلم بالغايات الكبرى والقيم الكلية السامية للدين، التي تفضي بصاحبها -إن قدمت له على وجهها الأكمل من قبل الدعاة- إلى صناعة الضمير الحي في الذات الإنسانية السوية، وذلك وفق منهج الله ومراده من تعاليمه وأحكامه التي فرضها وسنها على عباده، أما الفقه فهو: تلك القوانين، التي يتم بها تحقيق تلك الغايات المقاصدية الكبرى، وهو من شأن علم فقه الواقع ومحل التنزيل.

[ ص: 69 ] ولأن الدين الإسلامي دين عالمي فقد حوى القرآن أكثر من مائة آية كلها تدعو وتنعت هذا الدين بصفة العالمية، والغريب في الأمر أن تلك الآيات كلها مكية، عدا آيتين فهما مدنيتان، وهي قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (الأحزاب:40) ، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران:144) >[8] .

ولا يمكن أن نحقق عالمية الرسـالة إلا بتفعيل علم المقاصد وفقه أبعاد وواقع ومحل التنزيل؛ لأن ترك علم المقاصـد وإدارة الظهر له يؤدي إلى اختلاط في دقائق العقل، وارتباك في دخائل النفس، وفساد في الواقع والسـلوك، ومن ثم اختلال في الموازنات، واضطراب فيما سنقدم عليه أو نحجم عن الخوض فيه أو تقديمه، ومنه يختل مضمون الرسالة الدعوية لدى القائم بالعمل الدعوي، ويفقد عنصر التسديد والدقة.

وهو ما نسعى إلى توضيحه في هذا المطلب لنتبين مقصد حفظ الضروريات وانعكاساته على واقع الجمهور المدعو والمكلف. ونتبين من بعده في المطلب الثاني أهمية فقه الواقع كقيمة دعوية مركزية في هذا الدين وفي نجاح العمل الدعوي.

[ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية