حاجة الدعاة لعلمي المقاصد وفقه الواقع

الأستاذ الدكتور / أحمد فؤاد عيساوي

صفحة جزء
المطلب الثالث

علم المقاصد وفقه الواقع

قيمة مركزية مؤثرة في أصناف وفئات المدعوين

(حقيقيين.. مستقبلين.. مرتقبين.. متشككين.. مناوئين)



- أولا: أنواع المدعوين وخطاباتهم:

لكل صنف من أصناف المدعوين المذكورين آنفا مكوناته وخصائصه ومعالمه ومميزاته، التربوية والثقافية والنفسية والعقلية والوجدانية والسلوكية والأخلاقية والتواصلية والأدبية واللغوية، وبحسب تلك المكونات يتلقى ويتناغم ويتفاعل مع أي خطاب دعوي أو غيره يرد عليه.. وأي خلل أو سوء تقدير لدى الداعية أو الجهة المتخصصة في إعداد وصياغة وتوجيه الخطاب الدعوي، سيؤدي حتما إلى حالة تنافر وتضاد بينهما، فلا جمهور دعوي يتقبل ويتأثر، ولا خطاب ينفذ ويؤثر، وذلك بسبب سوء تقدير وحساب تأثير تلك المكونات في جمهور المدعوين، ولن يتأتى للداعية القدرة على السيطرة والتأثير ما لم يحذق واقع وحقيقة المحل والمخاطبين وواقعهم وظروفهم، ومقاصدهم المرجوة من التواجد تحت تأثير رشات وزخات الخطاب الدعوي.

وسنتبين كل صنف من تلك الأصناف وتفاعله وتناغمه مع الخطاب الدعوي، وسنجد أن جمهور المدعوين يستمع وينصت لخطاب دون خطاب، [ ص: 171 ] فهذا يسمعه ويمر دون تأثير، وذاك يستمع إليه، بله ينصت إليه بروحانية وتقديس، ويتفاعل معه ويتأثر به دون سواه، نظرا لحرص الهيئة الدعوية على وضع كل الحسابات في عملية إعداد وتوجيه الخطاب، وبالتالي ينجح هذا الخطاب مع هذا الصنف من المدعوين دون غيره، ويفشل ذاك الخطاب مع أولئك لفقدانه الإحاطة المطلوبة، علميا ومنهجيا ونفسيا وواقعيا وبيئيا ومحليا.

- ثانيا: أهمية علم المقاصد وفقه الواقع في التعرف على أحوال المدعوين:

يجب على الداعية أن يراعي - منطلقا من القاعدة نفسها مقاصد وواقع ومحل تنزيل- وهو يخاطب المدعوين الحفاظ على أسرارهم وستورهم، فمن رغب أن يحسن الإصغاء إليه فليتخلل المدعوين بالنصيحة السرية، التي قعدها سيدنا نوح، عليه السلام، لما قال: ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا (نوح:9) ، فإن صنفا من المدعوين إن نصحتهم جهارا أخذتهم العزة بالإثم، ثاني عطفه عن الاسـتماع أو الامتثـال، بل ليكاد يذهب بعيدا ليضل عن سبيل الله >[1] .

ولا حرج على الداعية أن يلقي خطابه على المدعوين جهارا إن تصامم المدعوون عن قبولها في سر أو خلوة؛ لأن عرض الخطاب الجهري أصدم لنفوسهم وأشد وقعا، ولقدرته على فضحهم وتبكيتهم وتحذيرهم من سوء العاقبة، ومن الحكمة الجمع بين الخطابين، السري والجهري، كما فعل نبي الله [ ص: 172 ] نوح عليه السلام عندما جمع بينهما، فحكى الله على لسانه قائلا: قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا (نوح:5) إلى قوله: ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا (نوح:8-9) >[2] ، لحكمة وجدانية ونفسية وتربوية وأخلاقية، وخشية ما قد يقع في نفسية المدعو من لبس وغموض وشك، فتطفئ الدعوة الجهرية جذوة الهموم النفسية، وهو من جوهر الرحمة بأنفس ومشاعر المدعوين، الذين ستضطرم قلوبهم وأعماقهم بمثل تلك التأججات النفسية، التي حرص الإسلام عليها في خطابه القرآني والنبوي.

فقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ بالأيسر جدا، فاليسير، فالميسر، فالعزيمة، وبالمألوف والمعروف قبل الغريب المستهجن، وبالمعقول والمفهوم قبل غيره، حتى إذا تآلفت العقول والأرواح واستكانت النفوس وطلبت المزيـد، انتقل صلى الله عليه وسلم لما بعده.

وعلى هذه القـاعدة المحكمة أسس رسـول الإسلام صلى الله عليه وسلم سائر خطابه ومنهجه العقدي والتعبدي والأخلاقي، فالصلاة قبل حادثتي الإسراء والمعراج [ ص: 173 ] كانت ركعتين في الفجر والمغرب، ثم صـارت على الوجه المعروف، وكان يسمح فيها الكلام ثم نهي عنه فيها وعد من مبطلاتها، وكذلك فرض الصيام والزكاة، والنهي عن الربا والخمر.. فعن أم المؤمنين السـيدة عائشـة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: ".. إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا" >[3] .

والمدعوون هم الجهة، التي يتوجه الداعية إليها برسـالته ومضامينه الدعوية، وقد تكون هذه الجهة المدعوة فردا، أو جماعة، أو مجتمعا، أو أمة، أو الإنسانية جمعاء.

وجمهور المدعوين عوالم متباينة، من حيث السن والجنس والتنشئة الاجـتماعيـة والتربـوية، ومن حيث المسـتوى الثقـافي والاقتصـادي والاجتماعي والتربوي والأخلاقي والديني، وعلى الرغم من كونهم يشكلون عوالم متمايزة فيما بينهم ، فإنهم أيضا يتنوعون ويتوزعون إلى فئات متجانسة وشرائح متعددة.

[ ص: 174 ] وقد حفلت دعوات الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، التي درسناها >[4] بتسليط الضوء والاهتمام الجاد بجمهور المدعوين، من حيث سنهم وجنسهم وعقيدتهم، ومستوى حياتهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي والأخلاقي.. كما وجدنا ذلك من خلال منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوي، الاهتمام بنوعية المدعوين، فكريا وعقديا ونفسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وجغرافيا.

وقد شهد العالم اليوم قيام جهات متخصصة ولجان ومعاهد تهتم بجمهور المدعوين، وتدرسهم في جميع مجالات حياتهم، ثم تقوم بتقديم خلاصات دراساتها إلى الجهات التبشيرية المعنية بهم، حتى صار معرفة جمهور المدعوين علما ينير طريق الدعاة، ويبصرهم بحقيقة الجمهور المستقبل لرسائلهم ومضامينهم الدعوية، ولم يعد عملا متروكا للمفاجآت، أو لتدخل الأقدار، أنجح أم لم ينجح؟

ولذا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مختلف فئات الناس، وعلى رأسها الإنسانية جمعاء، فيما يوضحه قول الله تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (الأعراف: 158).

[ ص: 175 ] كما توجه إلى فئة المؤمنين لوحدهم، فيما يبينه قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (التوبة:119) وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (الحج:77) ،

كما توجه إلى قومه وعشيرته الأقربين فيما يوضحه قوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحـل:36) ،

كما توجـه إلى فئـة ديـنية معينة كتوجهه إلى بني إسـرائيل فيما يبينه قولـه تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم (البقرة:47) ،

كما توجـه من قبله أنبياء الله تعالى إلى أقوامهم، فيما يبينه قوله تعالى: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (الأحقاف:31-32).

ومن هنا وبعد أن بينا أنواع وخصائص المدعوين، وأهمية معرفتهم عن كثب بهدف توجيه الخطاب الخاص بهم والمناسب لهم، فإننا سننتقل لتبيين حالات وكيفيات التعامل مع تلك الأصناف المدعوة.

- ثالثا: كيفيات التعامل مع أصناف المدعوين:

لكل صنف من أصناف المدعوين حال وواقع وظرف خاص بهم، يحتاج لخطاب دعوي مناسب لهم، يحدده ويضبطه مدى فهم الداعية لهم، كما يتقرر ويقتصر توجيهه لهم بمدى إلمامه بوظيفته الاستثنائية، التي تحتاج لمعارف ثرية في [ ص: 176 ] علمي المقاصد وفقه الواقع والتنزيل، وسنسعى هنا لتبيين كيفيات التعامل مع كل صنف على حدة.

1 - المدعوون الحقيقيون >[5] :

يعد المدعوون الحقيقيون أفضل وأحسن صنف يتعامل معه الدعاة من عهد نبي الله آدم، عليه الصلاة والسلام، إلى اليوم، ويعتبر هذا الصنف خميرة وسواد الأمة، ويحتاج إلى خطاب مباشر وواضح ومختصر، نظرا لتهيؤ نفسيته وسلامة سريرته ونقاء فطرته، واستعداده لقبول الرسالة الإسلامية من أفواه وأعمال وتوجيهات الدعاة.

وقد حفل التراث الإسلامي الدعوي بأفانين الخطاب المفعم بالقيم والقواعد المقاصدية ومشتقاتها ومعارف علم فقه الواقع والمحل حيال هذا الصنف وغيره، كوصيته صلى الله عليه وسلم في قوله لأبي هريرة رضي الله عنه .. يقول أبو هريرة: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" >[6] .

[ ص: 177 ] وكوصيته صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني: "إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف" >[7] .

ولذا حرصت السنة النبوية المطهرة على وحدة وتماسك هذا الصنف المتميز من المدعوين بكل ما أوتيت من بلاغ، وعدت وحدة الجماعة المسـلمة مقصدا كليا من مقاصد الشريعة الإسلامية، فقد تشدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الحفاظ على تضامن هذه الفئة.

ومما ينسحب على هذه الفئة ما جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:

لما قدم رسـول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءتـه جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وتؤمـنا، فأوثـق لهم فأسـلموا.. قال فبعثـنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة، وأمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة، فأغرنا عليهم وكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا: إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام.. فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فنخبره، وقال قوم: لا، بل نقيم هاهنا.. وقلت أنا في أناس معي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها.. فانطلقنا إلى العير، وكان الفيء إذ [ ص: 178 ] ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير، وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام غضبانا محمر الوجه فقال:

"أذهبتم من عندي جميعا وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة.. لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش" فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه فكان أول أمير أمر في الإسلام >[8] .

ومثل هذا السلوك الدعوي النبوي كثير مع جمهور الصحابة، رضي الله عنهم، ولاسـيما إن كانوا من جمهور المدعوين الحقيقيين، الذين يقع عليهم عماد الدين وقومته، كوصـيته، عليه الصلاة والسلام، للمهاجرين ولعامة المسلمين بالأنصار، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" >[9] .. فضلا عن ما له علاقة بوحدة الجماعة المسلمة، إذ هي أصل قيام شوكة الدين وشريعته، فقد جاء عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى [ ص: 179 ] اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" >[10] .

ومن هنا ينطلق الداعية في توجهه الدعوي مع جمهور المدعوين الحقيقيين لاسـتكمال البناء، وترميم ما اختل، ومواصلة الطريق نحو الله، ولن يتأتى له كل ذلك إلا إذا وعى منهج الدعوة مع هذا الصـنف المتميز من المدعوين، حتى لا يضع الناس جميعا في سلة واحدة.

2 - المدعوون المستقبلون >[11] :

يعد صنف المدعوين المستقبلين للرسالة الإسلامية أحد الأصناف السهلة والصعبة معا بالنسبة للدعاة، فبحسب إحكام اختيار حامل الخطاب ومراعاة مضمونه وسائر متعلقاته وأسباب نجاحه، وفهمه وتدبره لمقاصد الشريعة، تكون النتيجة تبعا له، فإن أحكمت هذه المعطيات كانت النتيجة إيجابية وفلاحا على الدعوة والمدعوين، وإن وقع خلل مقصـود أو غير متوقع أو مفاجئ أو غير مدروس ومحسوب كانت النتيجة عكسية على الدعوة والمدعوين معا.

[ ص: 180 ] لذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخير من بين الجمع الغفير من صحابته، رضي الله عنهم، من عرفوا بالحكمة والرزانة والحلم وفصاحة اللسان وقوة العارضة والبيان، للتصدي لمثل هذه المهام الخطيرة، ولمخاطبة نوعية خاصة من المدعوين، يترتب عليهم إيمان أو صدود ومعاداة قومهم.

ومن أفاضل صحابته، رضي الله عنهم، الذين انتدبهم لمثل هذه المهام الدعوية الحسـاسة جدا، الصـحابي الجليل العـلاء بن الحضـرمي رضي الله عنه الذي راح يخـاطب المنذر بن سـاوى العبدي، ملك البحرين، بقوله الرزين جدا: "يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة" >[12] .

وهذا الصحابي الجليل عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه الذي مضى يخاطب النجاشي بقوله الهادئ: "أنا علي القول وعليك الاستماع: إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء إلا أمناه" >[13] .

[ ص: 181 ] وهذا هو منهجه الدعوي، عليه الصلاة والسلام، الـمشبع بالحكم المقاصدية وبفقه الواقع والمحل، في دفع الرجل المناسب نحو الوجهة المناسبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي رسوله بوصية تكون له زادا في مهمته تلك، هذا إن لم يسارع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسارعة بالسؤال وطلب الوصية، ليضمن النجاح والتوفيق والسداد في مهمته تلك.. فعن معاذ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أوصني.. قال:

"اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله"، قال: "هذا".. وأشار بيده إلى لسانه >[14] .

وهذا أبـو سـعيد رضي الله عنه قال: جـاء رجـل إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أوصني.. قال:

"عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير، وعليك بالجهاد في سبيل الله، فإنها رهبانية المسلمين، وعليك بذكر الله وتلاوة كتابه، فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء..." >[15] .

[ ص: 182 ] ولن يتأتى للداعية ذلك التوجه السليم ليدفع القول السليم ويجلب المدعو السليم إذا كان لا يعرف حقائق أتباعه ومريديه ومستمعيه وقدراتهم ومواهبهم وإمكاناتهم كما كان عليه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده خلفاؤه الراشدون، ومن صار خليفة رشيدا في خلافة الأمة الإسـلامية في العهد الأموي كالخليفـة الراشـدي الخامس عمر بن عبد العزيز، وغيره من خلفاء بني العباس وبني أمية في الأندلس، ودولة الأتابـكة كنـور الدين محمود زنكي، وعماد الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وخلفاء الدولة المرابطية، والموحدية.

ويعد هذا من أسمى ما توصلت إليه الإنسانية في الحكم الراشد، فقديما كان يقال: "أرسل حكيما ولا توصه"، واليوم ينضبط المبدأ السياسي في القاعدة السياسية والإدارية "الرجل المناسب في المكان المناسب"، و"الداعية المناسب في مواجهة الجمهور المدعو المناسب".

3 - المدعوون المرتقبون:

يعد صنف المدعوين المرتقبين في حقل العمل الدعوي من أنجع الفضاءات الواجب على الدعـاة اسـتثمارها بجد ومثابرة، فهم خميرة وعموم المدعـوين من جهة، وهم أيضا مدد الفئة المؤمنة وسـوادها من جهة ثانية، وهم الفئة التي يمكن سحبها من فئة المدعوين المستقبلين من جهة ثالثة.

فبمجرد توجيه سيول الخطابات الدعائية الإسلامية المتميزة والمؤثرة نحو فئة المدعوين المستقبلين، لا يبقى أمامنا سوى أن ننتظر وصولهم الطوعي [ ص: 183 ] والاختياري والهادئ إلى هذه الفئة والدرجة، ليصبحوا قريبين أو بين قاب قوسين أو أدني من الدخول في الإسلام، ويحتاج هذا الصنف القريب من الصنف الذي قبله إلى خطاب أكثر تخصصية وتفصيلية ودقة ووضوح ورحمة وحلم واهتمام وصبر بهم وبمشاكلهم وبانشغالاتهم وبوضعهم الجديد في ظل الانتماء الديني الجديد، ولنا في التراث الإسلامي العريق الأمثلة والنماذج على ذلك، حيث تشكل قيم الرفق والرحـمة والتيسـير أحد هذه المعابر السـريعة والآمنـة نحو هذه الفئة التي تنتظر بفارغ الصبر حقائق الإسلام الشافية لهمومها ومشكلاتها.

فهذه أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، تقول واصفة سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتعامل القائم على اليسر واللين، بقولها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه" >[16] .

ومن ذلك الخطاب الدعوي المقاصـدي الرفيق وصـف رسـول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى الملوك والأمراء وحـكام أقـوامهم بعبارة (عظيم) رحمة ورأفة وشـفقة وتحبيبا لهم بالإسلام، فعندما أرسل كتابه إلى ملك الروم سماه بـ (عظيم الروم) ، وإلى كسرى فسماه بـ (عظيم الفرس) ، وهكذا سائر مراسلاته وكتاباته صلى الله عليه وسلم مليئة بالقيم والنعوت والتوصيفات الفاضلة.

[ ص: 184 ] ومن أمثلة حكمته ورحمته ولينه وبعد مقاصده وإدراكه لواقع المدعوين على حقيقتهم فعله صلى الله عليه وسلم مع المدعوين المرتقبين أنه كره من الصحابة أخذهم ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد بالشدة، ونهيه لهم بقوله: "...إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" >[17] ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا النهي من صحابته منشأ مفسدة أعظم، وهي تنفير هذا الرجل من الدخول في الإسلام، وأن البول في المسجد تلطيخ لمحل العبادة بالنجاسة التي تطهر بالماء، فاختار أن يعلمهم ما تقتضيه قاعدة "ارتكاب أخف الضررين" >[18] .

4 - المدعوون المتشككون >[19] :

يعد صنف المدعوين المتشككين من أعقد وأشد الأصناف على الداعية، إذ يحتاجون إلى فهم خاص ومتميز وصحيح ودقيق، ولاسيما في أساليب التعامل وأفانين الخطاب ومنازع الأخذ، حيث يحتاج هذا الصنف إلى أسلوب ذكي ودقيق ومنضبط في الحوار، يغلب عليه التوقير والاحترام والاقتصاد في [ ص: 185 ] الكلام، لا يحتمل التفسير ولا التأويل، رحمة ورأفة وشفقة بعنادهم وشكهم الذي يجتاح أنفسهم وعقولهم، ويصعب عمل الداعية إن كان المدعو ذا مكانة تقتضي الطاعة، كطاعة الأب والمعلم.

وقد قدم لنا القرآن الكريم مثلين دعويين شاب صاحبيهما الشك، ففيما "قصه علينا القرآن من موعظة إبراهيم عليه السلام لآزر وتسميته أبا ما يرشدنا إلى أن الأبوة لا تمنع من الأمر بمعروف أو النهي عن منكر، ولكن الأب يستحق من أدب الخطاب ولطف الموعظة أكثر مما يستحق غيره. وفي قصة موسى والخضر، عليهما السـلام، واتباع الأول للثاني بصفه متعلم، ثم إنكاره عليه خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، عبرة للمتعلمين والمعلمين، فللمتعلمين حق الإنكار وعلى المعلمين ألا يستنكفوا" >[20] .

ومن حـكمته المقاصـدية وبصـره بـواقع المدعـوين: رحمته صلى الله عليه وسلم بهذا الصنف من المدعوين تعطفه ورحمته بذلك الشاب الذي استأذنه في الزنا..

فعن الصحابي الجليل أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا.. فأقبل القوم عليه، فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: "ادنه"، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟"، قال: لا، والله، جعلني الله فداءك.. قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم".. قال: "أفتحبه لابنتك"؟، قال: لا، والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك.. قال: [ ص: 186 ] "ولا الناس يحبونه لبناتهم".. قال: "أفتحبه لأختك"؟ قال: لا، والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم".. قال: "أفتحبه لعمتك"؟، قال: لا، والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم".. قال: "أفتحبه لخالتك"؟، قال: لا، والله، جعلني الله فداءك.. قال: "ولا النـاس يحبونـه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء >[21] .

وما يستفاد من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان مشفقا على حاله أيما إشفاق، متلطفا رحيما بمشكلته، وهي مشكلة الملايين من الشباب المسلم اليوم، ناهجا معه أسلوبا متميزا في الدعوة، جمع الرحمة والرأفة والشفقة واللين والإقناع الهادىء والمنطقي، لمقاصد كبرى ينشدها، عليه الصلاة والسلام، من جهة، ولعلمه بواقعه وحاله من جهة أخرى، أسوة بنبي الله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وهو يحاج الملك المشكك في عظمة وقدرة الله، حيث قص علينا القرآن الكريم تلك المحاورة:

[ ص: 187 ] ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (البقرة:258) >[22] .

وهكذا وبمثل هذه الروية والمنطقية والتعقل يجب التعامل مع هذا الصنف من المدعوين المتشككين، ولا يتأتى للدعاة هذا المستوى من الحلم الرزين الرفيق، إن لم يتسلحوا بعلوم الدين والدنيا كلها، لأنهم إن وجدوا دعاة حكماء أخذوا بأيديهم نحو صنف المدعوين المنتظرين أو الحقيقيين، وهي مهمة ليست سهلة، إلا على من سهلها الله عليه بطلب العلم والمعرفة.

5 - المدعوون المناوئون >[23] :

يعد صنف المدعوين المناوئين من أخطر الأصناف في حقل الدعوة الإسلامية، ومن أشد المهام التي تعترض الدعاة للوصول إليهم من جهة، وإلى جمهور المدعوين المستقبلين والحقيقيين من جهة ثانية، وعلى الإبقاء على صفاء وسلامة وحرية الساحة الدعوية من جهة ثالثة، حيث تمتلئ بمثل هذا الصنف المعادي الذي يعكر عمل الدعاة، ولنا في تراثنا الإسلامي منهجا ثريا في التعامل مع مثل هذا الصنف المعادي.

[ ص: 188 ] فلنا من روائع أدب الدعوة القرآني في تجلية معاني الاحترام والتبجيل والرحمة كمقاصد عظيمة في هذا الدين، وهو أن تخاطب المدعوين بأعظم آبائهم إليهم، وبأحسن أجدادهم إليهم، وبأفضل وأشرف ألقابهم إليهم، فقد امتلأ القرآن الكريم بمثل هذه الروائع الدعوية رحمة بالمدعوين، وجلبا لهم بكرامتهم الكاملة للإذعان للحق، فقد خاطب الله سبحانه وتعالى اليهود في القرآن تحبيبا وتعظيما لهم، بقوله:

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (البقرة:47) ، فنسبهم إلى أحسن آبائهم وهو سيدنا يعقوب، عليه الصلاة والسلام.

كما كان يجلهم بخطابه المتميز رحمة ورأفة بهم، كي لا يعاندوا ويستكبروا ويصروا، حيث ينعتهم بالقراءة والكتابة وامتلاك الكتب والمعارف في مجتمع أمي جاهلي، فقال في العديد من المواقع:

- قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (آل عمران:64) ،

- يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (آل عمران:65) ،

- ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (آل عمران:69) ،

[ ص: 189 ] - ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (البقرة:105).

وذلك بعد أن جعلهم مضرب مثل في القرآن المكي، وهم يلاحقون من فرعون وجنوده، واتخذهم أسوة حسنة وقدوة طيبة للمؤمنين المطاردين والملاحقين من كفار قريش، وهذا من معاني الحكمة والرحمة في الدعوة وجذب المدعوين وإقامة الحجة عليهم.

وللأسف الشديد فإن هذا الصنف المعادي اليوم يضم الجمع الغفير من المثقفين والفلاسفة والكتاب والإعلاميين والفنانين والرسامين والمستشرقين والممثلين والمسرحيين، ممن ينتجون المواد الثقافية والفكرية والإعلامية والفنية والأدبية المشوهة لحقيقة وجوهر الإسلام، وتاريخ وحقيقة سلوك شخصية نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الخاصة والعامة، ولصورة المسلمين التاريخية والواقعية.

وعليه، فهم يحتاجون من الدعاة ومن الهيئات والمنظمات الدعوية الإسلامية إلى توجيه رسائل متنوعة المضامين والأشكال والقوالب والقنوات، وإلى صياغة خطابات عديدة ومتنوعة تتسم بالعمق والدقة والتقنية، مفعمة بالرحمة والشفقة والإقناع معا، ممتثلين لنصيحته صلى الله عليه وسلم وهو يوصينا بأن نستغل تلك العقبة من ضغث الرحمة الإلهية المرسلة إلى الأرض ليتراحم بها الناس بينهم: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، [ ص: 190 ] وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" >[24] .

وهنا وجب على الدعاة -انطلاقا من مقاصد الشريعة وفقه الواقع والتنزيل وفقه المحل- عدم التهكم والازدراء بعقول وأحلام المدعوين، وعليهم أن يضـعوا كرامتهم الإنسانية فوق كل اعتبار، والتنبه والحرص لسيول مكائدهم التي لا تنقطع، لأن ذلك يخفف من غلواء خيلائهم وشطط آرائهم وشذوذ أفـكارهم، وإن لم يحسن الداعية احترام هذه الأصـناف وتوقيرها وتـكريمها، لما استطاع أن يقيم الحجة عليها، ولا أن يدحض مكائدها، ولا أن يحيدها جانبا وهو أضعف الإيمان، ليتفرغ لعمله الدعوي تجاه المدعوين الآخرين، وينجر بالتالي معهم في متاهات تحيل الصريح رمزا وشبهة، والطعن غمزا وشكا، والمعقول منقولا، والباطل حقا، والحق عجابا >[25] .

وهكذا يكون التعامل مع أصناف المدعوين، مراعاة لظروفهم وأحوالهم ومقتضياتهم، حيث أرست الشريعة قواعدها وأسسها الدعوية النظرية والعملية.

وما يمكن الخلوص إليه في هذا المبحث وفي هذا الفصل أيضا، ومن خلال مباحثه الأربعة، والذي تناولنا فيه علمي المقاصد وفقه الواقع كقيمة مركزية في هذا الدين، ودورهما في نجاح العمل الدعوي، وتسديد منطلق وجهة [ ص: 191 ] ومقصد الداعية، وأصناف المدعوين والخطابات المناسبة لهم، هو: ضرورة وعي الدعاة لأهمية استجماع المعارف الخاصة والعامة بتلك الأركان والأصناف على حدة، ومن ثمة تكوين رؤية معرفية واقعية ومقاصدية أثناء إعداد وصياغة وتوجيه الخطابات الدعوية الخاصة بهم، لضمان النجاح والسـداد والتوفيق.

ومنه ننتقل إلى الفصل التطبيقي الثالث، الذي سنتناول فيه أنموذجا تطبيقيا لحوار تم بين مخلوقين من مخلوقات الله تعالى في الأرض، بدت فيه معالم فقه الواقع والتنزيل والمحل، وتحررت فيه مفاهيم ومعالم فقه المقصد، لعله يزيدنا استجلاء ووضوحا عمليا، ويكون خاتمة تطبيقية مناسبة لبحثنا هذا.

[ ص: 192 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية