صفحة جزء
994 - مسألة : ولا يحل أكل العذرة ، ولا الرجيع ، ولا شيء من أبوال الخيول ، ولا القيء ، ولا لحوم الناس - ولو ذبحوا - ولا أكل شيء يؤخذ من الإنسان إلا اللبن وحده ، ولا شيء من السباع ذوات الأنياب ، ولا أكل الكلب ، والهر - الإنسي والبري سواء - ولا الثعلب ، حاشا الضبع وحدها ، فهي حلال أكلها ، ولو أمكنت ذكاة الفيل لحل أكله ؟

أما العذرة والبول فلما ذكرنا في كتاب الصلاة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة وهو يدافع الأخبثين البول والغائط ، ولقول الله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } . [ ص: 66 ] وذكرنا هنالك قوله عليه السلام : { أكثر عذاب القبر في البول } فعم عليه السلام كل بول .

وبينا هنالك أن سقي النبي صلى الله عليه وسلم العرنيين أبوال الإبل ، إنما كان على سبيل التداوي للعلل التي كانت أصابتهم وأوردنا الأسانيد الثابتة بكل هذا .

وبينا فساد الرواية من طريق سوار بن مصعب - وهو ساقط - لا بأس ببول ما أكل لحمه وهذا مما تركوا فيه القياس ; إذ قاسوا بول الحيوان ورجيعه على لحمه ; فهلا قاسوه على دمه ؟ فهو أولى بالقياس ، أو على بول الآدميين ورجيعهم .

وأما القيء - : فلما روينا من طريق البخاري نا مسلم بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي - وشعبة قالا جميعا : نا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { العائد في هبته كالعائد في قيئه } والقيء هو ما تغير ، فإن خرج الطعام ولم يتغير فليس قيئا ، فليس حراما ؟ وأما لحوم الناس فإن الله تعالى قال : { ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } . ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد ذكرناه في كتاب الجنائز بأن يوارى كل ميت من مؤمن أو كافر ; فمن أكله فلم يواره ; ومن لم يواره فقد عصى الله تعالى .

ولقول الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } فحرم تعالى أكل الميتة وأكل ما لم يذك ، والإنسان قسمان : قسم حرام قتله ، وقسم مباح قتله . [ ص: 67 ] فالحرام قتله إن مات ، أو قتل فلم يذك فهو حرام .

وأما الحلال قتله فلا يحل قتله إلا لأحد ثلاثة أوجه - :

إما لكفره ما لم يسلم ، وإما قودا ، وإما لحد أوجب قتله ، وأي هذه الوجوه كان فليس مذكى ؟ لأنه لم يحل قتله إلا بوجه مخصوص ، فلا يحل قتله بغير ذلك الوجه والتذكية غير تلك الوجوه بلا شك ; فالقصد إليها معصية ، والمعصية ليست ذكاة فهو غير مذكى ، فحرام أكله بكل وجه ، وإذ هو كله حرام فأكل بعضه حرام ، لأن بعض الحرام حرام بالضرورة .

ويدخل في هذا المخاط ، والنخاعة ، والدمع ، والعرق ، والمذي ، والمني ، والظفر ، والجلد ، والشعر ، والقيح ، والسن إلا اللبن المباح بالقرآن والسنة والإجماع .

وقد أباح عليه السلام لسالم وهو رجل الرضاع من لبن سهلة بنت سهيل . والريق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حنك الصبيان بتمر مضغه ، فريقه في ذلك الممضوغ ، فالريق حلال بالنص فقط - وبالله تعالى التوفيق .

وأما السباع - : فلما روينا من طريق مالك بن أنس عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل ذي ناب من السباع فأكله حرام } .

وجاء أيضا من غير هذه الطريق تركناها اختصارا . [ ص: 68 ] والكلب ذو ناب من السباع ، وكذلك الهر ، والثعلب ، فكل ذلك حرام .

وقد أمر عليه السلام بقتل الكلب ، ونهى عن إضاعة المال ، فلو جاز أكلها ما حل قتلها ، كما لا يحل قتل كل ما يؤكل من الأنعام وغيرها .

روينا من طريق وكيع نا مبارك هو ابن فضالة - عن الحسن البصري عن عثمان رضي الله عنه قال : اقتلوا الكلاب واذبحوا الحمام ، ففرق بينهما فأمر بذبح ما يؤكل ، وقتل ما لا يؤكل - :

ومن طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب أنه سمع ابن شهاب يسأل عن مرارة السبع ، وألبان الأتن ؟ فقال الزهري : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع } ، ولا خير فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية ، فلا نرى ألبانها التي تخرج من بين لحمها ودمها إلا بمنزلة لحمها .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : الثعلب سبع لا يؤكل .

ومن طريق عبد الرزاق عن عمر بن زيد أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وثمنه } .

أقل ما في هذا الأثر أن يكون موقوفا على جابر .

وبتحريم السباع وبكل ما ذكرنا يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان إلا أن الشافعي أباح الثعلب ، وأنكر المالكيون تحريم السباع وموهوا بأن قالوا : قد صح عن عائشة أم المؤمنين أنها سألت عن أكل لحوم السباع ؟ فقرأت { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } الآية . [ ص: 69 ] وروي من طريق جويبر عن الضحاك قال : تلا ابن عباس هذه الآية { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } قال : ما خلا هذا فهو حلال .

وقالوا : روى الزهري خبر النهي عن كل ذي ناب من السباع ، ثم قال : لم أسمع هذا من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء الشام . وقال بعضهم : إنما نهى عنها من أجل ضرر لحمها .

قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به وكله لا شيء - :

أما الآية فإنها مكية كما قدمنا ولا يجوز أن تبطل بها أحكام نزلت بالمدينة ; وهم يحرمون الحمر الأهلية وليست في الآية . [ ص: 70 ] ويحرمون الخمر وليست في الآية ، والخليطين وإن لم يسكرا ولم يذكرا في الآية ، وهذا تناقض عظيم .

وأما قول عائشة رضي الله عنها فلا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن عائشة رضي الله عنها بلغها نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما خالفته كما فعلت في تحريم الغراب إذ بلغها وليس مذكورا في الآية على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى .

وأما الرواية عن ابن عباس ففي غاية الفساد ، لأنها عن جويبر - وهو هالك - عن الضحاك - وهو ضعيف - ولا حجة في أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما قول الزهري : إنه لم يسمعه من علمائه بالحجاز فكان ماذا ؟ وهبك أن الزهري لم يسمعه قط ، أترى السنن لا يؤخذ منها شيء حتى يعرفها الزهري ؟ إن هذا لعجب ما سمع بمثله فكيف والزهري لم يلتفت إلى أنه لم يسمعه من علمائه بالحجاز ، بل أفتى به كما ذكرنا آنفا ؟ وكم قصة خالفوا فيها عائشة ، والزهري إذا خالفهما مالك [ إذ ] لا مؤنة عليهم في ذلك كما ذكرنا كثيرا منه ونذكر إن شاء الله تعالى .

وهذه المسألة نفسها مما خالفوا فيه فتيا عائشة في الغراب وفتيا الزهري كما أوردنا وإنما هم كالغريق يتعلق بما يجد وإن كان فيه هلاكه .

وأما قولهم : إنما نهى عنها لضرر لحمها - فكلام جمع الغثاثة والكذب ، أما الكذب مما عليهم بذلك ، ومن أخبرهم بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كذب عليه صلى الله عليه وسلم إذ قولوه ما لم يقل ، وإذ أخبروا عنه بما لم يخبر به قط عن نفسه ، وهذه قصة مهلكة مؤدية إلى النار نعوذ بالله منها .

وأما الغثاثة فإن علمهم بالطب في هذه المسألة ضعيف جدا ، وما يشك من له أقل بصر بالأغذية في أن لحم الجمل الشارف والتيس الهرم أشد ضررا من لحم الكلب ، والهر ، والفهد .

ثم هبك أنه كما قالوا فهل في ذلك ما يبطل النهي عنها ؟ ما هو إلا تأكيد في المنع منها ، ثم قد شهدوا على أنفسهم بإضاعة المال والمعصية في ذلك ; إذ تركوا الكلاب ، [ ص: 71 ] والسنانير تموت على المزابل ، وفي الدور ، ولا يذبحونها فيأكلونها ، إذ هي حلال ؟ ولو أن امرءا فعل هذا بغنمه وبقره لكان عاصيا لله تعالى بإضاعة ماله .

وأما الضباع فإن الشافعي وأبا سليمان ، أباحا أكلها - : والحجة لذلك ما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير أن عبد الرحمن بن أبي عمار أخبره قال : { سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أآكلها ؟ قال : نعم قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم ، قلت : أسمعت ذلك من نبي الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم } ، قال ابن جريج : نا نافع مولى ابن عمر قال : أخبر رجل ابن عمر أن سعد بن أبي وقاص يأكل الضباع ؟ قال نافع : فلم ينكر ابن عمر ذلك .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كان علي بن أبي طالب لا يرى بأكل الضباع بأسا .

وقال معمر عن عمرو بن مسلم : سمعت عكرمة عن ابن عباس وسئل عن الضبع ؟ فقال : رأيتها على مائدة ابن عباس .

ومن طريق وكيع عن أبي المنهال الطائي عن عبد الله بن زيد عمه قال : سألت أبا هريرة عن الضبع ؟ فقال : نعجة من الغنم .

وعن عطاء قال : ضبع أحب إلي من كبش .

قال أبو محمد : فواجب أن تستثنى الضباع من جملة السباع كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخالف شيء من أقواله عليه السلام .

وقال أبو حنيفة : بتحريم الضباع - وما نعلم له حجة إلا تعلقه بعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل السباع ؟ قالوا : وهي سبع .

وذكروا خبرا فاسدا رويناه من طريق محمد بن جرير الطبري أنا ابن حميد نا أبو زهير نا محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن مسلم المكي عن عبد الكريم بن أبي المخارق [ ص: 72 ] عن حبان بن جزء عن أخيه خزيمة بن جزء قال { قلت : يا رسول الله : ما تقول في الضبع ؟ فقال لي : ومن يأكل الضبع } ؟ وذكروا ما رويناه من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري نا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن يزيد قال : سألت سعيد بن المسيب عن الضبع ؟ فكرهه فقلت له : إن قومك يأكلونه ؟ فقال : إن قومي لا يعلمون .

قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة غير هذا - : فأما احتجاجهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السباع فإنه حق ولكن الذي نهى عن السباع هو الذي أحل الضباع فلا فرق بين إباحة ما حرم من السباع وبين تحريم ما حلل من الضباع ، وكلاهما لا تحل مخالفته .

وأما الخبر المذكور فلا شيء ، لأن إسماعيل بن مسلم ضعيف وابن أبي المخارق ساقط ، وحبان بن جزء مجهول . ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة لأنه ليس فيه تحريم أصلا وإنما فيه التعجب ممن يأكلها فقط .

وقد علمنا أن عظام الضأن حلال ، ثم لو رأينا أحدا يأكلها " أو يأكل جلودها لعجبنا من ذلك أشد العجب .

وأما قول سعيد بن المسيب فلا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحل الله البيع جملة ثم حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيوعا كثيرة فلم يغلبوا عموم الإباحة على تخصيص النهي وهذا خلاف فعلهم ههنا ، وهذا مما خالفوا فيه جماعة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف - وبالله تعالى التوفيق .

وأما الفيل فليس سبعا ولا جاء في تحريمه نص ، وقال تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } وقال تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم [ ص: 73 ] يطعمه } ; وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فكل شيء حلال إلا ما جاء نص بتحريمه بهذا جاء نص القرآن والسنن ولم يأت في الفيل نص تحريم فهو حلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية