صفحة جزء
1134 - مسألة : ومن حلف عامدا للكذب فيما يحلف ، فعليه الكفارة - وهو قول الأوزاعي ، والحسن بن حي ، والشافعي .

وقالت طائفة : لا كفارة في ذلك - وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وسفيان الثوري ، وأبي سليمان .

وروينا مثل قولنا عن السلف المتقدم من طريق شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة [ ص: 289 ] عن الرجل يحلف بالحلف الكاذب ؟ أفيه كفارة ؟ قال : نعم .

ومن طريق هشيم عن الحجاج عن عطاء بن أبي رباح فيمن حلف على كذب يتعمد فيه الكذب ، قال عطاء : عليه الكفارة ، ولا يزيد بالكفارة إلا خيرا .

ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } قال : بما تعمدتم .

ومن طريق قتادة عن الحسن في قوله تعالى { : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } قال : بما تعمدتم فيه المأثم .

وقال سعيد بن جبير : هي اليمين في المعصية .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر في الرجل يحلف على أمر يتعمده كاذبا يقول : والله لقد فعلت ، ولم يفعل ، أو والله ما فعلت ، وقد فعل ، قال : أحب إلي أن يكفر .

وروينا القول الثاني من طريق رفيع أبي العالية : أن ابن مسعود كان يقول : كنا نعد من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل كاذبا على مال أخيه ليقتطعه .

وعن إبراهيم النخعي ، والحسن ، وحماد بن أبي سليمان : أن هذا اليمين أعظم من أن تكفر أو أنها كذبة ، لا كفارة فيها .

قال أبو محمد : احتج من لم ير الكفارة في ذلك بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها - من طريق ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ، } فأنزل الله تعالى تصديق ذلك { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } .

ومن طريق أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم { : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فذكر عليه السلام فيهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب } .

ومن طريق عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم { الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق [ ص: 290 ] الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس } .

ومن طريق عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار } .

ومن طريق الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } .

ومن طريق جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار } .

وزاد بعضهم { ولو كان سواكا أخضر } هذه كلها آثار صحاح .

وذكروا أيضا : خبرا صحيحا من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة } .

وبخبر : روينا من طريق ابن الجهم نا يوسف بن الضحاك نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : فعلت كذا وكذا ؟ قال : لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت ، فجاء جبريل عليه السلام فقال : بلى قد فعل ، لكن الله غفر له بالإخلاص } .

ورواه أبو داود من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس .

وهكذا رويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس ، فإن لم يكن أخطأ فيه يوسف بن الضحاك فهو حديث جيد ، وإلا فهو ضعيف ؟ قالوا : فلم يأمره عليه السلام بكفارة ؟ قالوا : إنما الكفارة فيما حلف فيه في المستأنف .

وموهوا في ذلك بذكر قول الله تعالى { : واحفظوا أيمانكم } .

قالوا : وحفظها إنما يكون بعد مواقعتها .

هذا كل ما شغبوا به - وكله لا حجة لهم فيه . [ ص: 291 ] أما حديث ابن مسعود ، وأبي ذر ، وعمران ، وجابر ، والأشعث ، وقول الله تعالى { : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم } فليس في شيء من ذلك إسقاط الكفارة ولا إيجابها ، كما ليس فيها ذكر لتوبة أصلا ، وإنما فيها كلها الوعيد الشديد بالنار والعقاب - .

فسقط تعلقهم بها في إسقاط الكفارة .

ثم العجب كله أنهم في هذه الأحاديث ، وفي هذه الآية على قسمين - :

قسم يقول : إنه ليس شيء مما ذكر في هذه الآية ، وفي هذه الأحاديث - : يقطع : بكونه ولا بد ، وقد يمكن أن يغفر الله عز وجل .

وقسم قالوا : هو نافذ ما لم يتب - فمن أعجب شأنا ممن احتج بآية وأخبار صحاح في إسقاط كفارة يمين ليس فيها من ذلك ذكر أصلا ، وهم قد خالفوا كل ما فيها علانية - وهذا عجب جدا ؟ وأما قوله عليه السلام : { من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة } فلا حجة لهم فيه أصلا ; لأن الأيمان عندنا وعندهم ، منها لغو لا إثم فيه ، ولم يرد هذا الصنف في هذا الخبر بلا شك .

ومنها - ما يكون المرء بها حالفا على ما غيره خير منه ولا خلاف عندنا وعندهم في أن الكفارة تغني في هذا .

وبه جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى .

ومنها - اليمين الغموس التي اختلفنا فيها ، وبالحس والمشاهدة ندري نحن وهم أن الحالف بها لا يسمى مستلجا في أهله ، فبطل أن يراد بهذا الخبر هذا القسم ، وبطل احتجاجهم به في إسقاطهم الكفارة في اليمين الغموس .

فإن قيل : فما معنى هذا الخبر عندكم وهو صحيح ؟ قلنا : نعم ، معناه - ولله الحمد - بين على ظاهر لفظه دون تبديل ولا إحالة ولا زيادة ولا نقص ، وهو أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله ، أو أن لا يضر بهم ، ثم لج في أن يحنث ، فيضر بهم ، ولا يحسن إليهم ويكفر عن يمينه - فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله أن لا يفي بها ، وهو أعظم إثما بلا شك - والكفارة لا تغني عنه ، ولا تحط إثم [ ص: 292 ] إساءته إليهم وإن كانت واجبة عليه - لا يحتمل ألبتة هذا الخبر معنى غير هذا .

وأما حديث حماد بن سلمة ، وسفيان ، فطريق سفيان لا تصح ، فإن صحت طريق حماد فليس فيه لإسقاط الكفارة ذكر ، وإنما فيه : أن الله تعالى غفر له بالإخلاص فقط ، وليس كل شريعة توجد في كل حديث - ولا شك في أنه مأمور بالتوبة من تعمد الحلف على الكذب ، وليس في هذا الخبر لها ذكر ، فإن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة حجة في سقوطها فسكوته عن ذكر التوبة حجة في سقوطها ولا بد ، وهم لا يقولون بهذا .

فإن قالوا : قد أمر بالتوبة في نصوص أخر ؟ قلنا : وقد أمر بالكفارة في نصوص أخر نذكرها إن شاء الله تعالى .

ونقول لهم : إن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة في هذه الأخبار كلها حجة في إسقاطها فسكوته عليه السلام عن ذكر سقوطها حجة في إيجابها ولا فرق - وهي دعوى كدعوى ; فالواجب طلب حكم الكفارة في نص غير هذه ؟ وأما قول الله تعالى { : واحفظوا أيمانكم } فحق .

وأما قولهم : إن الحفظ لا يكون إلا بعد مواقعة اليمين فكذب ، وافتراء ، وبهت ، وضلال محض ، بل حفظ الأيمان واجب قبل الحلف بها ، وفي الحلف بها ، وبعد الحلف بها ، فلا يحلف في كل ذلك إلا على حق .

ثم هبك أن الأمر كما قالوا ، وأن قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } إنما هو بعد أن يحلف ، فأي دليل في هذا على أن لا كفارة على من تعمد الحلف كاذبا ؟ وهل هذا منهم إلا المباهتة والتمويه ، وتحريف كلام الله عن مواضعه وما يشك كل ذي مسكة تمييز في أن من تعمد الحلف كاذبا فما حفظ يمينه - فظهر فساد كل ما يمخرقون به .

وأما قولهم : إن الكفارة إنما تجب عليه فيما حلف عليه في المستأنف فباطل ، ودعوى بلا برهان ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع .

فإن ذكروا { قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير وكفر عن يمينه } .

فلا حجة لهم فيه ; لأن الكفارة عندهم وعندنا تجب في غير هذه الصفة ، وهي : [ ص: 293 ] من حلف على يمين ورأى غيرها شرا منها ففعل الذي هو شر ، فإن الكفارة عندهم وعندنا واجبة عليه في ذلك .

قال أبو محمد : وأما قولهم : هي أعظم من أن تكفر فمن أين لهم هذا ؟ وأين وجدوه ؟ وهل هو إلا حكم منهم لا من عند الله تعالى ؟ ويعارضون بأن يقال لهم : دعوى أحسن من دعواهم ، بل كلما عظم الذنب كان صاحبه أحوج إلى الكفارة ، وكانت أوجب عليه منها فيما ليس ذنبا أصلا ، وفيما هو صغير من الذنوب ، وهذا المتعمد للفطر في رمضان نحن وهم متفقون على أن الكفارة عليه ، ولعله أعظم إثما من حالف على يمين غموس ، أو مثله وهم يرون الكفارة على من تعمد إفساد حجه بالهدي بآرائهم ، ولعله أعظم إثما من حالف يمين غموس أو مثله .

وأعجب من هذا كله قولهم فيمن حلف أن لا يقتل مؤمنا متعمدا ، وأن يصلي اليوم الصلوات المفروضة ، وأن لا يزني بحريمة وأن لا يعمل بالربا ، ثم لم يصل من يومه ذلك ، وقتل النفس التي حرم الله ، وزنى ، وأربى فإن عليه الكفارة في أيمانه تلك فيا لله ويا للمسلمين أيما أعظم إثما : من حلف عامدا للكذب أنه ما رأى زيدا اليوم ، وهو قد رآه فأسقطوا فيه الكفارة لعظمه .

أو من حنث بأن لا يصلي الخمس صلوات ، وبأن قتل النفس ، وبأن زنى بابنته أو بأمه ، وبأن عمل بالربا - ثم لا يرون عظم حنثه في إتيانه هذه الكبائر العظيمة التي هي والله قطعا عند كل من له علم بالدين أعظم إثما من ألف يمين تعمد فيها الكذب ، لا تجب فيه كفارة ; لأنه أعظم من أن يكفر ؟ فهل تجري أقوال هؤلاء القوم على اتباع نص أو على التزام قياس ؟ وأما تمويههم بأنه روي ذلك عن ابن مسعود ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، فهي رواية منقطعة لا تصح ; لأن أبا العالية لم يلق ابن مسعود ولا أمثاله من الصحابة رضي الله عنهم إنما أدرك أصاغر الصحابة كابن عباس ، ومثله ، رضي الله عن جميعهم .

وقد خالفوا ابن مسعود في قوله : إن من حلف بالقرآن ، أو بسورة منه ، فعليه بكل آية كفارة ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ; فابن مسعود حجة إذا اشتهوا ، [ ص: 294 ] وغير حجة إذا لم يشتهوا أن يكون حجة .

قال أبو محمد : فإذ قد سقط كل ما شغبوا به فلنأت بالبرهان على صحة قولنا - : فنقول وبالله تعالى التوفيق .

قال الله عز وجل { : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } إلى قوله تعالى { : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } .

فظاهر القرآن إيجاب الكفارة في كل يمين ، فلا يجوز أن تسقط كفارة عن يمين أصلا إلا حيث أسقطها نص قرآن ، أو سنة ، ولا نص قرآن ، ولا سنة ، أصلا في إسقاط الكفارة عن الحالف يمينا غموسا ; فهي واجبة عليه بنص القرآن .

والعجب كله ممن أسقطها عنه والقرآن يوجبها ، ثم يوجبونها على من حنث ناسيا مخطئا والقرآن والسنة قد أسقطاها عنه .

وأوجبوها على من لم يتعمد اليمين ولا نواها والقرآن والسنة يسقطانها عنه ; وهذه كما ترى .

فإن قالوا : إن هذه الآية فيها حذف بلا شك ، ولولا ذلك لوجبت الكفارة على كل من حلف ساعة حلف بر أو حنث ؟ قلنا : نعم لا شك في ذلك إلا أن ذلك الحذف لا يصدق أحد في تعيينه له إلا بنص صحيح ، أو إجماع متيقن ، على أنه هو الذي أراد الله تعالى لا ما سواه ، وأما بالدعوى المفتراة فلا - : فوجدنا الحذف المذكور في الآية قد صح الإجماع المتيقن والنص على أنه فحنثتم ، وإذ لا شك في هذا فالمتعمد لليمين على الكذب عالما بأنه كذب حانث بيقين حكم الشريعة ، وحكم اللغة .

فصح إذ هو حانث أن عليه الكفارة ، وهذا في غاية الوضوح - وبالله تعالى التوفيق - والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، وقد قاسوا حالق رأسه لغير ضرورة محرما غير عاص لله تعالى .

[ ص: 295 ] فهلا قاسوا الحالف عامدا للكذب حانثا عاصيا على الحالف أن لا يعصي ، فحنث عاصيا ، أو على من حلف أن لا يبر فبر : غير عاص في إيجاب الكفارة في كل ذلك ؟ ولكن هذا مقدار علمهم وقياسهم - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية