صفحة جزء
127 - مسألة : فإن ولغ في الإناء كلب ، أي إناء كان وأي كلب كان - كلب صيد أو غيره ، صغيرا أو كبيرا - فالفرض إهراق ما في ذلك الإناء كائنا ما كان ثم يغسل بالماء سبع مرات ، ولا بد أولاهن بالتراب مع الماء ولا بد ، وذلك الماء الذي يطهر به الإناء طاهر حلال ، فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا هرق ما فيه ألبتة وهو حلال طاهر كله كما كان ، وكذلك لو ولغ الكلب في بقعة في الأرض أو في يد إنسان أو في ما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا هرق ما فيه .

والولوغ هو الشرب فقط ، فلو مس لعاب الكلب أو عرقه الجسد أو الثوب أو الإناء أو متاعا ما أو الصيد ، ففرض إزالة [ ص: 121 ] ذلك بما أزاله ماء كان أو غيره ، ولا بد من كل ما ذكرنا إلا من الثوب فلا يزال إلا بالماء .

حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا علي بن مسهر أنا الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات } .

وبه إلى مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب } .

حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة ثنا أبو التياح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن ابن مغفل قال { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال : ما لهم ولها ؟ فرخص في كلب الصيد وفي كلب الغنم } . وقال عليه السلام : { إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات والثامنة عفروه بالتراب } . قال علي : فأمر عليه السلام بهرق ما في الإناء إذا ولغ فيه الكلب ، ولم يخص شيئا من شيء ، ولم يأمر عليه السلام باجتناب ما ولغ فيه في غير الإناء ، بل نهى عن إضاعة المال .

وقد جاء هذا الخبر بروايات شتى ، في بعضها { والسابعة بالتراب } وفي بعضها { إحداهن بالتراب } وكل ذلك لا يختلف معناه ، لأن الأولى هي بلا شك إحدى الغسلات . وفي لفظة " الأولى " بيان أيتهن هي ، فمن جعل التراب في أولاهن فقد [ ص: 122 ] جعله في إحداهن بلا شك واستعمل اللفظتين معا ، ومن جعله في غير أولاهن فقد خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون ذلك في أولاهن ، وهذا لا يحل ، ولا شك ندري أن تعفيره بالتراب في أولاهن تطهير ثامن إلى السبع غسلات ، وأن تلك الغسلة سابقة لسائرهن إذا جمعن ، وبهذا تصح الطاعة لجميع ألفاظه عليه السلام المأثورة في هذا الخبر ، ولا يجزئ بدل التراب غيره ، لأنه تعد لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والماء الذي يغسل به الإناء طاهر ; لأنه لم يأت نص باجتنابه ، ولا شريعة إلا ما أخبرنا بها عليه السلام ، وما عدا ذلك فهو مما لم يأذن الله تعالى به ، والماء حلال شربه طاهر ، فلا يحرم إلا بأمر منه عليه السلام .

وأما ما أكل فيه الكلب أو وقع فيه أو دخل فيه بعض أعضائه فلا غسل في ذلك ولا هرق ; لأنه حلال طاهر قبل ذلك بيقين - إن كان مما أباحه الله تعالى من المطاعم والمشارب وسائر المباحات - فلا ينتقل إلى التحريم والتنجيس إلا بنص لا بدعوى .

وأما وجوب إزالة لعاب الكلب وعرقه في أي شيء كان فلأن الله تعالى حرم كل ذي ناب من السباع ، والكلب ذو ناب من السباع ، فهو حرام ، وبعض الحرام حرام بلا شك ، ولعابه وعرقه بعضه فهما حرام ، والحرام فرض إزالته واجتنابه ، ولم يجز أن يزال من الثوب إلا بالماء لقول الله تعالى : { وثيابك فطهر } وقد قلنا إن التطهير لا يكون إلا بالماء ، وبالتراب عند عدم الماء .

وممن قال بقولنا في غسل ما ولغ فيه الكلب سبعا أبو هريرة ، كما حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ثنا أبي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا إسماعيل هو ابن علية - عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال " إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات ، أولاهن أو إحداهن بالتراب ، والهر مرة .

وروينا عن الحسن البصري " إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه واغسله سبع مرات ، وبه يقول ابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار . وقال الأوزاعي " إن ولغ الكلب في إناء فيه عشرة أقساط لبن يهرق كله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب ، فإن ولغ في ماء في بقعة صغيرة مقدار ما يتوضأ به إنسان فهو طاهر ، ويتوضأ بذلك الماء ويغسل لعاب الكلب من الثوب ومن الصيد . [ ص: 123 ]

قال علي : قول الأوزاعي هو نفس قولنا ، وبهذا يقول - يعني غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا إحداهن بالتراب - أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وداود وجملة أصحاب الحديث .

وقال الشافعي كذلك إلا أنه قال " إن كان الماء في الإناء خمسمائة رطل لم يهرق لولوغ الكلب فيه ، ورأى هرق ما عدا الماء وإن كثر ، ورأى أن يغسل من ولوغ الخنزير في الإناء سبعا كما يغسل من الكلب ، ولم ير ذلك في ولوغ شيء من السباع ولا غير الخنزير أصلا .

قال علي : وهذا خطأ ; لأن عموم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بهرقه أولى أن يتبع وأما قياس الخنزير على الكلب فخطأ ظاهر - لو كان القياس حقا - لأن الكلب بعض السباع لم يحرم إلا بعموم تحريم لحوم السباع فقط ، فكان قياس السباع وما ولغت فيه على الكلب الذي هو بعضها والتي يجوز أكل صيدها إذا علمت أولى من قياس الخنزير على الكلب ، وكما لم يجز أن يقاس الخنزير على الكلب في جواز اتخاذه وأكل صيده فكذلك لا يجوز أن يقاس الخنزير على الكلب في عدد غسل الإناء من ولوغه ، فكيف والقياس كله باطل .

وقال مالك في بعض أقواله : يتوضأ بذلك الماء وتردد في غسل الإناء سبع مرات فمرة لم يره ومرة رآه ، وقال في قول له آخر : يهرق الماء ويغسل الإناء سبع مرات فإن كان لبنا لم يهرق ولكن يغسل الإناء سبع مرات ويؤكل ما فيه ، ومرة قال : يهرق كل ذلك ويغسل الإناء سبع مرات .

قال علي : هذه تفاريق ظاهرة الخطإ ; لا النص اتبع في بعضها ، ولا القياس اطرد فيها ، ولا قول أحد من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم قلد فيها .

وروي عنه أنه قال : إني لأراه عظيما أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيهرق من أجل كلب ولغ فيه .

قال علي : فيقال لمن احتج بهذا القول : أعظم من ذلك أن تخالف أمر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بهرقه . وأعظم مما استعظمتموه أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيهرق من أجل عصفور مات فيه بغير أمر من الله بهرقه . فإن قالوا : العصفور الميت حرام ، [ ص: 124 ] قلنا : نعم لم نخالفكم في هذا ، ولكن المائع الذي مات فيه حلال ، فتحريمكم الحلال من أجل مماسته الحرام هو الباطل ، إلا أن يأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطاع أمره ، ولا يتعدى حده ، ولا يضاف إليه ما لم يقل .

وقال أبو حنيفة : يهرق كل ما ولغ فيه الكلب أي شيء كان كثر أم قل ، ومن توضأ بذلك الماء أعاد الوضوء والصلوات أبدا ، ولا يغسل الإناء منه إلا مرة .

قال علي : وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين - إلا أننا روينا عن إبراهيم أنه قال فيما ولغ فيه الكلب " اغسله " وقال مرة " اغسله حتى تنقيه " ولم يذكر تحديدا . وهو قول مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوردنا . وكفى بهذا خطأ .

واحتج له بعض مقلديه بأن قال " إن أبا هريرة - وهو أحد من روى هذا الخبر - قد روي عنه أنه خالفه .

قال علي : فيقال له هذا باطل من وجوه :

أحدها أنه إنما روى ذلك الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف ، ولا مجاهرة أقبح من الاعتراض على ما رواه عن أبي هريرة ابن علية عن أيوب عن ابن سيرين - النجوم الثواقب - بمثل رواية عبد السلام بن حرب . وثانيها أن رواية عبد السلام - على تحسينها إنما فيها أنه يغسل الإناء ثلاث مرات ، فلم يحصلوا إلا على خلاف السنة وخلاف ما اعترضوا به عن أبي هريرة ، فلا النبي صلى الله عليه وسلم اتبعوا ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا . وثالثها أنه لو صح ذلك عن أبي هريرة لما حل أن يعترض بذلك على ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن الحجة إنما هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول أحد سواه ، لأن الصاحب قد ينسى ما روى وقد يتأول فيه ، والواجب إذا وجد مثل هذا أن يضعف ما روي عن الصاحب من قوله ، وأن يغلب عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أن نضعف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ونغلب عليه ما روي عن الصاحب ، فهذا هو الباطل الذي لا يحل . ورابعها أنه حتى لو صح عن أبي هريرة خلاف ما روى - ومعاذ الله من ذلك - فقد رواه من الصحابة غير أبي هريرة وهو ابن مغفل ، ولم يخالف ما روى .

وقال بعضهم : إنما كان هذا إذ أمر بقتل الكلاب ، فلما نهى عن قتلها نسخ ذلك .

قال علي : وهذا كذب بحت لوجهين .

أحدهما ; لأنه دعوى فاضحة بلا دليل ، [ ص: 125 ] وقفو ما لا علم لقائله به ، هذا حرام .

والثاني أن ابن مغفل روى النهي عن قتل الكلاب والأمر بغسل الإناء منها سبعا في خبر واحد معا ، وقد ذكرناه قبل . وأيضا فإن الأمر بقتل الكلاب كان في أول الهجرة ، وإنما روى غسل الإناء منها سبعا أبو هريرة وابن مغفل ، وإسلامهما متأخر .

وقال بعضهم : كان الأمر بغسل الإناء سبعا على وجه التغليظ .

قال علي : يقال لهم أبحق أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وبما تلزم طاعته فيه ؟ أم أمر بباطل وبما لا مئونة في معصيته في ذلك ؟ فإن قالوا بحق وبما تلزم طاعته فيه ، فقد أسقطوا شغبهم بذكر التغليظ .

وأما القول الآخر فالقول به كفر مجرد لا يقوله مسلم .

وقال بعضهم : قد جاء أثر بأنه إنما أمر بقتلها ، لأنها كانت تروع المؤمنين

قيل له : لسنا في قتلها ، إنما نحن في غسل الإناء من ولوغها ، مع أن ذلك الأثر ليس فيه إلا ذكر قتلها فقط ، وهو أيضا موضوع ; لأنه من رواية الحسين بن عبيد الله العجلي وهو ساقط .

وشغب بعضهم فذكر الحديث الذي فيه المغفرة للبغي التي سقت الكلب بخفها . قال علي : وهذا عجب جدا ; لأن ذلك الخبر كان في غيرنا ، ولا تلزمنا شريعة من قبلنا . وأيضا فمن لهم أن ذلك الخف شرب فيه ما بعد ذلك ، وأنه لم يغسل ، وأن تلك البغي عرفت سنة غسل الإناء من ولوغ الكلب ؟ ولم تكن تلك البغي نبية فيحتج بفعلها ، وهذا كله دفع بالراح وخبط يجب أن يستحى منه .

ويجزئ غسل من غسله وإن كان غير صاحبه ، لقوله عليه السلام { فاغسلوه } فهو أمر عام .

قال علي : فإن أنكروا علينا التفريق بين ما ولغ الكلب فيه وبين ما أكل فيه أو وقع فيه أو أدخل فيه عضوا من أعضائه غير لسانه .

قلنا لهم : لا نكرة على من قال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل ما لم يقل عليه السلام ، ولم يخالف ما أمره به نبيه عليه السلام ، ولا شرع ما لم يشرعه عليه السلام في الدين ، وإنما النكرة على من أبطل الصلاة بما زاد على الدرهم البغلي في الثوب من دم الدجاج فأبطل به الصلاة ، ولم [ ص: 126 ] يبطل الصلاة بثوب غمس في دم السمك ، ومن أبطل الصلاة بقدر الدرهم البغلي في الثوب من خرء الدجاج وروث الخيل ، ولم يبطلها بأقل من ربع الثوب من بول الخيل وخرء الغراب .

وعلى من أراق الماء يلغ فيه الكلب ، ولم يرق اللبن إذا ولغ فيه الكلب ، وعلى من أمر بهرق خمسمائة رطل غير أوقية من ماء وقع فيه درهم من لعاب كلب ، فإن كان خمسمائة رطل ووقع فيه رطل من لعاب الكلب كان طاهرا لا يراق منه شيء ، فهذه هي النكرات حقا لا ما قلنا . وبالله نتأيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية