صفحة جزء
1237 - مسألة :

ولا يجوز ضمان الوجه أصلا ، لا في مال ولا في حد ، ولا في شيء من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل .

ومن طريق النظر إننا نسألهم عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول ماذا تصنعون بالضامن لوجهه ؟ أتلزمونه غرامة ما على المضمون - فهذا جور وأكل مال بالباطل - لأنه [ ص: 408 ] لم يلتزمه قط ، أم تتركونه ؟ فقد أبطلتم الضمان بالوجه الذي جاذبتم فيه الخصوم ، وحكمتم بأنه لا معنى له ، أم تكلفونه طلبه ؟ فهذا تكليف الحرج ، وما لا طاقة له به ، وما لم يكلفه الله تعالى إياه قط ، ولا منفعة فيه ، ولعله يزول عن موضعكم ولا يطلبه ، ولكن يشتغل بما يعنيه .

وقولنا هذا هو أحد قولي الشافعي ، وقول أبي سليمان .

وقال أبو حنيفة ، ومالك : يجوز ضمان الوجه إلا أن مالكا قال : إن ضمن الوجه غرم المال ، إلا أن يقول الوجه خاصة ، فكان هذا التقسيم طريفا جدا ، وما يعلم أحد فرق بين قوله : أنا أضمن وجهه ، وبين قوله : أنا أضمن وجهه خالصة ، وكلا القولين لم يلتزم فيه غرامة مال ولا ضمانة أصلا ، فكيف يجوز أن يأخذ بغرامة مال لم يضمنه قط ؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل - وما نعلم لمالك في هذا التقسيم سلفا .

واحتج المجيزون ضمان الوجه بخبر رويناه من طريق العقيلي عن إبراهيم بن الحسن الهمذاني عن محمد بن إسحاق البلخي عن إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه خثيم عن عراك عن أبي هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفل في تهمة } . وبما روينا من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه : أن عمر بعثه مصدقا على بني سعد هذيم فذكر الخبر ، وفيه " أنه وجد فيهم رجلا وطئ أمة امرأته فولدت منه فأخذ حمزة بالرجل كفيلا " لأنهم ذكروا له : أن عمر قد عرف خبره ، وأنه لم ير عليه رجما ، لكن جلده مائة ، فلما أتى عمر أخبره الخبر ، فصدقهم عمر ، قال : وإنما درأ عنه الرجم لأنه عذره بالجهالة .

وبخبر رويناه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب : أن ابن مسعود أتي بقوم يقرون بنبوة مسيلمة ، وفيهم ابن النواحة فاستتابه فأبى ؟ فضرب عنقه ، ثم إن ابن مسعود استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباقين ؟ فأشار عليه عدي بن حاتم بقتلهم ، وأشار عليه الأشعث بن قيس ، وجرير بن عبد الله باستتابتهم وأن يكفلهم عشائرهم ، فاستتابهم ، فكفلهم عشائرهم ، ونفاهم إلى الشام .

وذكروا : أن شريحا كفل في دم وحبسه في السجن ; وأن عمر بن عبد العزيز كفل في حد ، قالوا : وهذا إجماع من الصحابة كما ترى . [ ص: 409 ] قال أبو محمد : في احتجاج من احتج بهذا كله دليل على رقة دين المحتج به ولا مزيد وعلى قلة مبالاته بالفضيحة العاجلة والخزي الآجل عند الله تعالى وما لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا ، وكل ذلك باطل .

أما الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطل لأنه من رواية إبراهيم بن خثيم بن عراك ، وهو وأبوه في غاية الضعف ، لا تجوز الرواية عنهما ، ومعاذ الله من أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا بتهمة ، وهو القائل : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } والتهمة ظن .

ولو جاز أن يكفل إنسان بتهمة لوجب الكفيل على كل من على ظهر الأرض ، إذ ليس أحد بعد الصدر الأول يقطع ببراءته من التهمة - وهذا تخليط لا نظير له ، والمحتجون بهذا الخبر لا يقولون بما فيه من أخذ الكفالة في التهمة ، فمن أضل ممن يحتج بخبر يطلقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه منه شيء ، وهو يخالف كل ما في ذلك الخبر ، ويرى الحكم بما فيه جورا وظلما ؟ نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا .

وأما خبر حمزة بن عمرو الأسلمي فباطل لأنه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف - ثم المحتجون به أول مخالف لما فيه ، فليس منهم أحد يرى أن يجلد الجاهل في وطء أمة امرأته مائة ، ولا أن يدرأ الرجم عن الجاهل فكيف يستحلون أن يحتجوا عن عمر رضي الله عنه بعمل هو عندهم جور وظلم ، أما في هذا عجب وعبرة ما شاء الله كان .

وأيضا : فكلهم لا يجيز الكفالة في شيء من الحدود وهذا الخبر إنما فيه الكفالة في حد فاعجبوا لهذه العجائب ؟ وأما خبر ابن مسعود - فإننا رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود .

ومن طريق الأعمش ، وشعبة ، وسفيان الثوري ، كلهم عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن ابن مسعود ، وهذه الأسانيد هي أنوار الهدى لم يذكر أحد منهم في روايته أنه كفل بهم ، ولا ذكر منهم أحد كفالة إلا إسرائيل وحده - وهو ضعيف - ولو كان ثقة ما ضر روايته من خالفها [ ص: 410 ] من الثقات ، ولكنه ضعيف - ثم لو صحت لكان جميع المحتجين بها أول مخالف لها ، لأنهم كلهم لا يجيزون الكفالة في الردة تاب أو لم يتب ، ولا يرون التغريب على المرتد إذ تاب ، وليس هذا مكانا يمكنهم فيه دعوى نسخ بل هي أحكام مجموعة : إما صواب وحجة ، وإما خطأ وغير حجة : الكفالة بالوجه في الحدود وفي الردة ، والتغريب في الردة وجلد الجاهل المحض في الزنى مائة جلدة ، ولا يرجم ، فيا للمسلمين كيف يستحل من له مسكة حياء أن يحتج على خصمه بما هو أول مخالف له ؟ . وكذلك الرواية عن شريح ، وعمر بن عبد العزيز إنما هي أنهما كفلا في حد ودم ، وهم لا يرون الكفالة فيهما أصلا ، وهي بعد عن شريح من طريق جابر الجعفي - وهو كذاب - .

ولا يعرف هذا أيضا يصح عن عمر بن عبد العزيز .

فإن كان ما ذكروا من هذه التكاذيب إجماعا كما زعموا فقد أقروا على أنفسهم بمخالفة الإجماع ، فسحقا وبعدا لمن خالف الإجماع ، نقول فيهم : كما قال تعالى فيمن اعترف على نفسه بالضلال : { فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير }

وشهدوا على أنفسهم إلا إن أولئك نادمون ، وهؤلاء مصرون .

وأما نحن فلو صحت هذه الروايات كلها لما كان فيها حجة ، لأنها إنما هي عن خمسة من الصحابة رضي الله عنهم فقط ، وأين هذه من صلاة معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم إمامته قومه في مسجد بني سلمة في تلك الصلاة وخلفه ثلاثة وأربعون بدريا مسمون بأسمائهم وأنسابهم سوى سائر أصحاب المشاهد منهم ، فلم يروا هذا إجماعا ، بل رأوها صلاة فاسدة ، ومعاذ الله من هذا ، بل هي والله صلاة مقدسة فاضلة ، حق ، وصلاة المخالفين لها هي الفاسدة حقا .

وأين هذا من إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه أرض خيبر على نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر إلى غير أجل مسمى ، لكن يقرونهم [ بها ] كما شاءوا ، ويخرجونهم إذا شاءوا ؟ فلم يروا هذا إجماعا ، بل رأوه معاملة فاسدة مردودة ، وحاشا لله من هذا ، [ ص: 411 ] بل هو والله الإجماع المتيقن والحق الواضح ، وأقوال من خالف ذلك هي الفاسدة المردودة حقا ، ونحمد الله تعالى على ما من به .

ثم اعلموا الآن أنه لم يصح قط إباحة كفالة الوجه عن صاحب ولا تابع فهي باطل متيقن لا تجوز البتة - وبالله تعالى التوفيق .

تم " كتاب الكفالة " والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية