صفحة جزء
135 - مسألة : وسؤر كل كافر أو كافرة وسؤر كل ما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه من خنزير أو سبع أو حمار أهلي أو دجاج مخلى أو غير مخلى - إذا لم يظهر هنالك للعاب ما لا يؤكل لحمه أثر - فهو طاهر حلال ، حاشا ما ولغ فيه الكلب فقط ، ولا يجب غسل الإناء من شيء منه ، حاشا ما ولغ فيه الكلب والهر فقط . برهان ذلك : أن الله تعالى حكم بطهارة الطاهر وتنجس النجس وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وذم أن تتعدى حدوده ، فكل ما حكم الله تعالى أنه طاهر فهو طاهر ، [ ص: 139 ] ولا يجوز أن يتنجس بملاقاة النجس له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما حكم الله تعالى أنه نجس فإنه لا يطهر بملاقاة الطاهر له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وكل ما أحله الله تعالى فإنه لا يحرم بملاقاة الحرام له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وكل ما حرمه الله تعالى فإنه لا يحل بملاقاة الحلال له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . ولا فرق بين من ادعى أن الطاهر يتنجس بملاقاة النجس . وأن الحلال يحرم بملاقاة الحرام ، وبين من عكس الأمر فقال : بل النجس يطهر بملاقاة الطاهر ، والحرام يحل بملاقاة الحلال ، كلا القولين باطل ، بل كل ذلك باق على حكم الله عز وجل فيه ، إلا أن يأتي نص بخلاف هذا في شيء ما فيوقف عنده ولا يتعدى إلى غيره . فإذا شرب كل ما ذكرنا في إناء أو أكل أو أدخل فيه عضوا منه أو وقع فيه فسؤره حلال طاهر ولا يتنجس بشيء مما ماسه من الحرام أو النجس ، إلا أن يظهر بعض الحرام في ذلك الشيء ، وبعض الحرام حرام كما قدمنا . حاشا الكلب والهر ، فقد ذكرنا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحمد لله رب العالمين .

وقال أبو حنيفة : إن شرب في الإناء شيء من الحيوان الذي يؤكل لحمه فهو طاهر ، والوضوء بذلك الماء جائز : الفرس والبقر والضأن وغير ذلك سواء ، وكذلك أسآر جميع الطير ، وما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه منها ، والدجاج المخلى وغيره ، فإن الوضوء بذلك الماء جائز وأكرهه ، وأكل أسآرها حلال ، قال فإن شرب في الإناء ما لا يؤكل لحمه من بغل أو حمار أو كلب أو هر أو سبع أو خنزير فهو نجس : ولا يجزئ الوضوء به ، ومن توضأ به أعاد أبدا . وكذلك إن وقع شيء من لعابها في ماء أو غيره ، قال : وهذا وما لا يؤكل لحمه من الطير سواء في القياس ، ولكني أدع القياس وأستحسن .

قال علي : هذا فرق فاسد . ولا نعلم أحدا قبله فرق هذا الفرق : ولئن كان القياس حقا فلقد أخطأ في تركه الحق ، وفي استحسان خلاف الحق ، ولئن كان القياس باطلا ، فلقد أخطأ في استعمال الباطل حيث استعمله ودان به . وقال بعض القائلين : حكم المائع حكم اللحم المماس له .

قال علي : هذه دعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل ، وأيضا فإن كان أراد أن [ ص: 140 ] الحكم لهما واحد في التحريم فقد كذب ، لأن لحم ابن آدم حرام ، وهم لا يحرمون ما شرب فيه أو أدخل فيه لسانه ، وإن كان أراد في النجاسة والطهارة ، فمن له بنجاسة الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ما دام حيا ؟ ولا دليل له على ذلك ، ولا يكون نجسا إلا ما جاء النص بأنه نجس ، وإلا فلو كان كل حرام نجسا لكان ابن آدم نجسا . وقال مالك : سؤر الحمار والبغل وكل ما لا يؤكل لحمه طاهر كسؤر غيره ولا فرق . قال : وأما ما أكل الجيف - من الطير والسباع - فإن شرب من ماء لم يتوضأ به وكذلك الدجاج التي تأكل النتن ، فإن توضأ به لم يعد إلا في الوقت ، فإن شرب شيء من ذلك في لبن ، فإن تبين في منقاره قذر لم يؤكل ، وأما ما لم ير في منقاره فلا بأس قال ابن القاسم صاحبه : يتوضأ به إن لم يجد غيره ويتيمم ، إذا علم أنها تأكل النتن . وقال مالك : لا بأس بلعاب الكلب . قال علي : إيجابه الإعادة في الوقت خطأ على أصله ، لأنه لا يخلو من أن يكون أدى الطهارة والصلاة كما أمر ، أو لم يؤدهما كما أمر ، فإن كان أدى الصلاة والطهارة كما أمر فلا يحل له أن يصلي ظهرين ليوم واحد في وقت واحد ، وكذلك سائر الصلوات ، وإن كان لم يؤدهما كما أمر فالصلاة عليه أبدا ، وهي تؤدى عنده بعد الوقت . وقد قال بعض المتعصبين له - إذ سئل بهذا السؤال - فقال : صلى ولم يصل ، فلما أنكر عليه هذا ذكر قول الله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } قال أبو محمد علي : وهذا الاحتجاج بالآية في غير موضعها أقبح من القول المموه له بذلك ; لأن الله أخبر أن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرم إذ رمى ، ولكنه تعالى هو رماها . فهذا البائس الذي صلى ولم يصل ، من صلاها عنه ؟ فلا بد للصلاة - إن كانت موجودة منه - من أن يكون لها فاعل ، كما كان للرمية رام ، وهو الخلاق عز وجل إذ وجود فعل لا فاعل له محال وضلال ، وليس من أقوال أهل التوحيد ، وإن كانت الصلاة التي أمر بها غير موجودة منه فليصلها على أصلهم أبدا .

وأما قول ابن القاسم : إنه إن لم يجد غيره يتوضأ به ويتيمم إذا علم أنها تأكل النتن فمتناقض ، لأنه إما ماء وإما ليس ماء ، فإن كان ماء فإنه لئن كان يجزئ الوضوء به إذا لم يجد غيره ، فإنه يجزئ وإن وجد غيره ، لأنه ماء ، وإن كان لا يجزئ إذا [ ص: 141 ] وجد غيره ، فإنه لا يجزئ إذا لم يجد غيره إن كان ليس ماء ; لأنه لا يعوض من الماء إلا التراب ، وإدخال التيمم في ذلك خطأ ظاهر ; لأن التيمم لا يحل ما دام يوجد ماء يجزئ به الوضوء .

وقال الشافعي : سؤر كل شيء من الحيوان - الحلال أكله والحرام أكله - طاهر ، وكذلك لعابه حاشا الكلب والخنزير ، واحتج لقوله هذا بعض أحكامه بأنه قاس ذلك على أسآر بني آدم ولعابهم ، فإن لحومهم حرام ، ولعابهم وأسآرهم كل ذلك طاهر . قال علي : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لأن قياس سائر السباع على الكلب - الذي لم يحرم إلا أنه من جملتها ، وبعموم تحريم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لحم كل ذي ناب من السباع فقط ، فدخل الكلب في جملتها بهذا النص ، ولولاه لكان حلالا - أولى من قياسها على ابن آدم الذي لا علة تجمع بينه وبينها ; لأن بني آدم متعبدون ، والسباع وسائر الحيوان غير متعبدة ، وإناث بني آدم حلال لذكورهم بالتزويج المباح وبملك اليمين المبيح للوطء ، وليس كذلك إناث سائر الحيوان ، وألبان نساء بني آدم حلال ، وليس كذلك ألبان إناث السباع والأتن ، فظهر خطأ هذا القياس بيقين .

فإن قالوا : قسناها على الهر ، قيل لهم : وما الذي أوجب أن تقيسوها على الهر دون أن تقيسوها على الكلب ؟ لا سيما وقد قستم الخنزير على الكلب ولم تقيسوه على الهر ، كما قستم السباع على الهر ، هذا لو سلم لكم أمر الهر ، فكيف والنص الثابت - الذي هو أثبت من حديث حميدة عن كبشة - وقد ورد مبينا لوجوب غسل الإناء من ولوغ الهر ، فهذه مقاييس أصحاب القياس كما ترى . والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية