صفحة جزء
136 - مسألة : وكل شيء مائع - من ماء أو زيت أو سمن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك ، أي شيء كان ، إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه أو ميتة ، فإن غير ذلك لون ما وقع فيه أو طعمه أو ريحه فقد فسد كله وحرم أكله ، ولم يجز استعماله ولا بيعه ، فإن لم يغير شيئا من لون ما وقع فيه ولا من طعمه ولا من ريحه ، فذلك المائع حلال أكله وشربه واستعماله - إن كان قبل ذلك كذلك - والوضوء حلال بذلك الماء ، والتطهر به في الغسل أيضا كذلك ، وبيع ما كان [ ص: 142 ] جائزا بيعه قبل ذلك حلال ، ولا معنى لتبين أمره ، وهو بمنزلة ما وقع فيه مخاط أو بصاق إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره ، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره . وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره ، إن لم يغير البول شيئا من أوصافه . وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر ، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره ، إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء ، فلا يجزئ حينئذ استعماله أصلا له ولا لغيره . وحاشا ما ولغ فيه الكلب فإنه يهرق ولا بد كما قدمنا في بابه ، وحاشا السمن يقع فيه الفأر ميتا أو يموت فيه أو يخرج منه حيا ذكرا كان الفأر أو أنثى صغيرا أو كبيرا - فإنه إن كان ذائبا حين موت الفأر فيه ، أو حين وقوعه فيه ميتا أو خرج منه حيا أهرق كله - ولو أنه ألف ألف قنطار أو أقل أو أكثر - ولم يحل الانتفاع به جمد بعد ذلك أو لم يجمد وإن كان حين موت الفأر فيه أو وقوعه فيه ميتا جامدا واتصل جموده ، فإن الفأر يؤخذ منه وما حوله ويرمى ، والباقي حلال أكله وبيعه والادهان به قل أو كثر ، وحاشا الماء فلا يحل بيعه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى .

برهان ذلك : ما ذكرنا قبل من أن كل ما أحل الله تعالى وحكم فيه بأنه طاهر فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بتحريمه أو نجاسته . وكل ما حرم الله تعالى أو نجسه فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بإباحته أو تطهيره ، وما عدا هذا فهو تعد لحدود الله تعالى ، وقال تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } وقال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } وقال تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } وصح بهذا يقينا أن الطاهر لا ينجس بملاقاة النجس ، وأن النجس لا يطهر بملاقاة الطاهر . وأن الحلال لا يحرم بملاقاة الحرام والحرام لا يحل بملاقاة الحلال بل الحلال حلال كما كان والحرام حرام كما كان ، والطاهر طاهر كما كان والنجس نجس كما كان ، إلا أن يرد نص بإحالة حكم من ذلك فسمعا وطاعة . وإلا فلا .

ولو تنجس الماء بما يلاقيه من النجاسات ما طهر شيء أبدا ، لأنه كان إذا صب على النجاسة لغسلها ينجس على قولهم ولا بد ، وإذا تنجس وجب تطهيره ، وهكذا [ ص: 143 ] أبدا ، ولو كان كذلك لتنجس البحر والأنهار الجارية كلها ; لأنه إذا تنجس الماء الذي خالطته النجاسة وجب أن يتنجس الماء الذي يماسه أيضا ، ثم يجب أن يتنجس ما مسه أيضا كذلك أبدا ، وهذا لا مخلص منه . فإن قالوا في شيء من ذلك : لا يتنجس . تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق وتناقضوا ، وفي إجماعهم معنا على بطلان ذلك وعلى تطهير المخرج والدم في الفم والثوب والجسم إقرار بأنه لا نجاسة إلا ما ظهرت فيه عين النجاسة ، ولا يحرم إلا ما ظهر فيه عين المنصوص على تحريمه فقط ، وسائر قولهم فاسد .

فإن فرقوا بين الماء الوارد وبين الذي ترده النجاسة . زادوا في التخليط بلا دليل .

وأما إذا تغير لون الحلال الطاهر - بما مازجه من نجس أو حرام - أو تغير طعمه بذلك ، أو تغير - ريحه بذلك ، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الحلال إلا باستعمال الحرام ، واستعمال الحرام في الأكل والشرب وفي الصلاة حرام كما قلنا ، ولذلك وجب الامتناع منه ، لا لأن الحلال الطاهر حرم ولا تنجست عينه ، ولو قدرنا على تخليص الحلال الطاهر من الحرام والنجس ، لكان حلالا بحسبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية