صفحة جزء
وروينا ذلك أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله - وهو قول ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وابن المنذر .

واختلف فيها عن الليث ، وأجازها أحمد ، وإسحاق إلا أنهما قالا : إن البذر يكون من عند صاحب الأرض وإنما على العامل البقر ، والآلة ، والعمل - وأجازها بعض أصحاب الحديث ، ولم يبال من جعل البذر منهما .

قال أبو محمد : في اشتراط النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر أن يعملوها بأموالهم : بيان أن البذر والنفقة كلها على العامل ، ولا يجوز أن يشترط شيء من ذلك على صاحب الأرض ; لأن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، فإن تطوع صاحب الأرض بأن يقرض العامل البذر ، أو بعضه أو ما يبتاع به البقر ، أو الآلة ، أو ما يتسع فيه [ ص: 52 ] من غير شرط في العقد فهو جائز ; لأنه فعل خير ، والقرض أجر وبر - وبالله تعالى التوفيق .

واتفق أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وأبو سليمان على جواز كراء الأرض ، واختلفوا فيه أيضا ، وفي المزارعة فأجاز كل من ذكرنا - حاشا مالكا وحده - كراء الأرض بالذهب ، والفضة ، وبالطعام المسمى كيله في الذمة - ما لم يشترط أن يكون مما تخرجه تلك الأرض - وبالعروض كلها .

وقال مالك بمثل ذلك ، إلا أنه لم يجز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها ، ولا بشيء من الطعام ، وإن لم يخرج منها : كالعسل ، والملح ، والمري ، ونحو ذلك ، وأجاز كراءها بالخشب والحطب وإن كانا يخرجان منها - وهذا تقسيم لا نعرفه عن أحد قبله ، وتناقض ظاهر - وما نعلم لقوله هذا متعلقا ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا من قول متقدم ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه - يعني استثناءه العسل ، والملح ، وإجازته الخشب ، والحطب .

ومنع أبو حنيفة وزفر إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه - وقال مالك : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج الأرض ، إلا أن تكون أرض وشجر ، فيكون مقدار البياض من الأرض ثلث مقدار الجميع ، ويكون السواد مقدار الثلثين من الجميع ، فيجوز حينئذ أن تعطى بالثلث والربع والنصف على ما يعطى به ذلك السواد .

وقال الشافعي : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن يكون في خلال الشجر لا يمكن سقيها ولا عملها إلا بعمل الشجر وحفرها وسقيها ، فيجوز حينئذ إعطاؤها بثلث ، أو ربع أو نصف على ما تعطى به الشجر .

وقال أبو بكر بن داود : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها إلا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة فيجوز ذلك حينئذ .

قال أبو محمد : حجة جميعهم في المنع من ذلك { نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعطاء الأرض بالنصف ، والثلث ، والربع } ؟ قال علي : ولسنا نخارجهم الآن في ألفاظ ذلك الحديث بل يقول : نعم ، قد صح [ ص: 53 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، قال : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ، فإن أبى فليمسك أرضه } وهذا نهي عن إعطائها بجزء مما يخرج منها ، لكن فعله عليه السلام في خيبر هو الناسخ على ما بينا قبل .

فأما أبو حنيفة فخالف الناسخ وأخذ بالمنسوخ .

وأما مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان : فحيرهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر فأخرجوه على ما ذكرنا عنهم وكل تلك الوجوه تحكم .

ويقال لمن قلد مالكا : من أين لكم تحديد البياض بالثلث ؟ ولم يأت قط في شيء من الأخبار تحديد ثلث ، ولا دليل عليه ، ومثل هذا في الدين لا يجوز .

ويقال لهم : ماذا تريدون بالثلث ؟ أثلث المساحة أو ثلث الغلة أم ثلث القيمة ؟ فإلى أي وجه مالوا من هذه الوجوه قيل لهم : ومن أين خصصتم هذا الوجه دون غيره ؟ والغلة قد تقل وتكثر ، والقيمة كذلك وأما المساحة فقد تكون مساحة قليلة أعظم غلة أو أكثر قيمة من أضعافها .

وأيضا : فإن خيبر لم تكن حائطا واحدا ، ولا محشرا واحدا ، ولا قرية واحدة ، ولا حصنا واحدا ، بل كانت حصونا كثيرة باقية إلى اليوم لم تتبدل منها الوطيح ، والسلالم ، وناعم ، والقموص ، والكتيبة ، والشق ، والنطاة ، وغيرها - وما الظن ببلد أخذ فيه القسمة مائتا فارس وأضعافهم من الرجال فتمولوا منها وصاروا أصحاب ضياع فمن أين لمالك تحديد الثلث ؟ وقد كان فيها بياض لا سواد فيه ، وسواد لا بياض فيه ، وبياض سواد ، فما جاء قط في شيء من الآثار تخصيص ما خصه .

فإن قال : قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الثلث ، والثلث كثير .

قلنا : نعم ، وأنتم جعلتم في هذه المسألة الثلث قليلا بخلاف الأثر - ثم يقال لهم وللشافعي : من أين لكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعطى أرض خيبر بنصف ما يخرج منها ; لأنها كانت تبعا للسواد ؟ وهل يعلم هذا أحد إلا من أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن نفسه ، وإلا فهو غفلة ممن قاله وقطع بالظن ؟ وأما بعد التنبيه عليه فما هو إلا الكذب البحت عليه صلى الله عليه وسلم .

وإنما الحق الواضح فهو أنه عليه السلام أعطى أرضها بنصف ما يخرج منها من [ ص: 54 ] زرع وأعطى نخلها وثمارها كذلك ، فنحن نقول : هذا سنة ، وحق أبدا ، ولا نزيد ، ونعلم أنه ناسخ لما تقدمه مما لا يمكن الجمع بينهما بظاهرهما .

وكذلك أيضا يقال لمن قال بقول أبي بكر بن داود سواء بسواء ، والعجب أن بعضهم قال : المخابرة مشتقة من خيبر ، فدل أنها بعد خيبر .

قال أبو محمد : ولو علم هذا القائل قبيح ما أتى به لاستغفر الله تعالى منه ، ولتقنع حياء منه ، أما علم الجاهل أن خيبر كان هذا اسمها قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المخابرة كانت تسمى بهذا الاسم كذلك ، وأن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر كان إلى يوم موته عليه السلام ، واتصل كذلك بعد موته عليه السلام ؟ فكيف يسوغ لذي عقل أو دين أن يقول : إن نهيه عليه السلام عن المخابرة كان بعد ذلك ؟ أترى عهده عليه السلام أتانا من الآخرة بعد موته عليه السلام بالنهي عنها ؟ أما هذا من السخف ، والتلوث ، والعار ممن ينسب إلى العلم ، ويأتي بمثل هذا الجنون ؟ فصح يقينا كالشمس أن النهي عن المخابرة وعن إعطاء الأرض بما يخرج منها كان قبل أمر خيبر بلا شك - وبالله تعالى التوفيق .

واحتج المجيزون للكراء بحديث ثابت بن الضحاك { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال : لا بأس بها } .

وبالخبر الذي رويناه من طريق مسلم نا إسحاق - هو ابن راهويه - نا عيسى بن يونس نا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثني حنظلة بن قيس الزرقي قال : سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة ؟ فقال : لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات ، وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ، وهذان خبران صحيحان .

وبما روينا من طريق البخاري : نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا سفيان - هو ابن عيينة [ ص: 55 ] قال عمرو - هو ابن دينار - : قلت لطاوس : لو تركت المخابرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فما يزعمون ؟ فقال لي طاوس : إن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال : { لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما } وهذا أيضا خبر صحيح . وبخبر رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال : قال زيد بن ثابت : يغفر الله لرافع بن خديج ، أنا والله أعلم بالحديث منه ، { إنما أتاه رجلان قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع } .

قال علي : فقلنا لهم : أما حديث زيد فلا يصح ، ولكنا نسامحكم فيه فنقول : هبكم أنه قد صح فإن رافعا لا يثبت عليه الوهم بمثل هذا ، بل نقول : صدق زيد ، وصدق رافع ، وكلاهما أهل الصدق والثقة ، وإذ حفظ زيد في ذلك الوقت ما لم يسمعه رافع فقد سمع رافع أيضا مرة أخرى ما لم يسمعه زيد ، وليس زيد بأولى بالتصديق من رافع ، ولا رافع أولى بالتصديق من زيد ، بل كلاهما صادق .

وقد روى النهي عن الكراء جملة للأرض : جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر ، وفيهم من هو أجل من زيد .

ثم نقول لهم : إن غلبتم هذا الخبر على حديث النهي عن الكراء فغلبوه على النهي عن المخابرة ، ولا فرق .

وهكذا القول في حديث ابن عباس ; لأنه يقول : لم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر : نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل صادق ، وكل إنما أخبر بما عنده . [ ص: 56 ] وابن عباس لم يسمع النهي ، وهؤلاء سمعوه ، فمن أثبت أولى ممن نفى ، ومن قال : إنه علم أولى ممن قال : لا أعلم .

وأما خبر حنظلة بن قيس عن رافع ، فالذي فيه إنما هو من كلام رافع - يعني قوله - : وأما شيء مضمون فلا ؟ وقد اختلف عن رافع في ذلك كما أوردنا قبل ، وروى عنه سليمان بن يسار النهي عن كرائها بطعام مسمى فلم أجزتموه ؟ ورواية حنظلة عن رافع شديدة الاضطراب وعلى كل حال فالزائد علما أولى .

وقد روى عمران بن سهل بن رافع ، وابن عمر ، ونافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي وغيرهم : النهي عن كري الأرض جملة عن رافع بن خديج خلاف ما روى عنه حنظلة ، وكلهم أوثق من حنظلة فالزائد أولى .

وأما حديث أمر بالمؤاجرة فنعم ، هو صحيح ، وقد صح نهيه صلى الله عليه وسلم وخبر الإباحة موافق لمعهود الأصل ، وخبر النهي زائد ، فالزائد أولى ، ونحن على يقين من أنه صلى الله عليه وسلم حين نهى عن الكراء فقد حرم ما كان مباحا من ذلك بلا شك ، ولا يحل أن يترك اليقين للظن ، ومن ادعى أن الإباحة التي قد تيقنا بطلانها قد عادت فهو مبطل وعليه الدليل ، ولا يجوز ترك اليقين بالدعوى الكاذبة ، وليس إلا تغليب النهي ، فبطل الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، أو تغليب الإباحة ، فيثبت الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، كما يقول أبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهما .

وأما التحكم في تغليب النهي في جهة ، وتغليب الإباحة في أخرى بلا برهان فتحكم الصبيان ، وقول لا يحل في الدين - وبالله تعالى التوفيق .

وأما قول مالك : فإن مقلديه احتجوا له بحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن أسيد بن ظهير عن أبيه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ؟ قلنا : يا رسول الله إذا نكريها بشيء من الحب ؟ قال : لا ، قال : نكريها بالتبن ؟ فقال : لا : قال : [ ص: 57 ] وكنا نكريها على الربيع الساقي ؟ قال : لا ، ازرعها ، أو امنحها أخاك } .

وبحديث مجاهد ، قال رافع : { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقبل الأرض ببعض خرجها } .

وبما رويناه من طريق عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال : إن بعض عمومته أتاهم فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى } .

وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم نا عمي قال : نا أبي عن محمد بن عكرمة عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { كان أصحاب المزارع يكرون مزارعهم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكون على السواقي من الزرع فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمون ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال : أكروا بالذهب ، والفضة } .

ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب عن ابن الماجشون عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض بالذهب ، والورق } .

ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد الأنصاري نا حنظلة بن قيس الزرقي أنه سمع رافع بن خديج يقول : { كنا نقول للذي نخابره : لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة نزرعها فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأما بورق فلم ينه } .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض [ ص: 58 ] فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرعها أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } .

قال أبو محمد : أما الحديث الأول - فسنده ليس بالنير ، ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم لا حجة لهم ; لأن الذي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو النهي عن كراء الأرض جملة ، والمنع من غير زريعتها من قبل صاحبها ، أو من قبل من منحها ، وهذا خلاف قولهم .

وأما حديث مجاهد عن رافع - فلا خلاف في أنه لم يسمعه من رافع ، ثم لو صح لكان فيه النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو خلاف لقولهم من قبل أنهم يمنعون من كرائها بالعسل ، والملح ، وليسا مما يخرجان منها ، ويجيزون كراءها بالحطب ، والخشب ، وهما من بعض ما يخرج منها ، فقد خالفوه من وجهين فزادوا فيه ما ليس فيه وأخرجوا منه ما فيه وأيضا - فإن الذهب ، والفضة من بعض ما يخرج من الأرض ، وهم يجيزون الكراء بهما ، وبالرصاص والنحاس - وكل ذلك خارج منها .

فإن قالوا : إنما منع النبي عليه السلام من كرائها بما يخرج من تلك الأرض بعينها ؟ قلنا : هاتوا دليلكم على هذا التخصيص ، وإلا فلفظ الخبر على عمومه ، فسقط قولهم جملة في هذا الخبر .

ثم أيضا - فنحن نقول بما فيه ثم نستثني منه ما صح نسخه بيقين من إعطائنا الأرض بجزء مما يخرج منها مسمى ، ونمنع من غير ذلك فهو حجة لنا لا لهم .

وأما خبر سليمان بن يسار : فعليهم لا لهم ; لأن فيه أن يزرعها أو يزرعها فقط .

وهكذا روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب - هو السختياني - عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج أن رجلا من عمومته قال لهم : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحاقل بالأرض أو نكريها بالثلث [ ص: 59 ] والربع والطعام مسمى ، وأمر رب الأرض أن يزرعها ، أو يزرعها ، وكره كراءها ، وما سوى ذلك } .

وأما خبر حنظلة عن رافع - : فقد ذكرنا أنه من قول رافع - يعني قوله : فأما بورق فلم ينه - وقد صح عن رافع ما ذكرنا أنه من قول رافع قبل من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى أبطل كراء أرض بني أبيه بالدراهم وهذه الرواية أولى لوجوه - :

أحدها - أنها مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك موقوفة على رافع .

والثاني - أن هذه غير مضطرب فيها ، وتلك مضطرب فيها على رافع .

وثالثها - أن الذين رووا عموم النهي عن رافع : ابن عمر ، وعثمان ، وعمران ، وعيسى ابنا سهل بن رافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي ، وكلهم أوثق من حنظلة بن قيس - فسقط تعلقهم بهذا الخبر .

وأما خبر سعد بن أبي وقاص فأحد طريقيه عن عبد الملك بن حبيب الأندلسي - وهو هالك - عن عبد الملك بن الماجشون وهو ضعيف .

والأخرى - من طريق محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وهو مجهول لا يدرى من هو - فسقط التعليق به .

وأما خبر طارق عن سعيد عن رافع فإن ابن أبي شيبة رواه كما أوردنا عن أبي الأحوص فوهم فيه ، لأننا رويناه من طريق قتيبة بن سعيد ، والفضل بن دكين ، وسعيد بن منصور ، كلهم عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها ، أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ، أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } فكان هذا الكلام مخزولا عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن ابن أبي شيبة أنه من جملة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزله وأبقى السند .

وقد جاء هذا الخبر عن طارق من طريق من هو أحفظ من أبي الأحوص مبينا أنه من كلام سعيد بن المسيب - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن علي نا محمد نا سفيان عن طارق قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول لا يصلح من الزرع غير ثلاث ، أرض تملك رقبتها ، أو منحة ، أو أرض بيضاء تستأجرها بذهب أو فضة . [ ص: 60 ] قال علي : وأيضا - فلو صح أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا مخالفين له لأن فيه النهي عن كراء الأرض إلا بذهب ، أو فضة ، وأنتم تبيحونها بكل عرض في العالم حاشا الطعام ، أو ما أنبتت الأرض فقد خالفتموها كلها .

فإن ادعوا ههنا إجماعا من القائلين بكراء الأرض بالذهب والفضة ، على أن ما عدا الذهب والفضة كالذهب والفضة - فما يبعد عنهم التجاسر والهجوم على مثل هذا : أكذبهم ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا تكرى الأرض البيضاء إلا بالذهب والورق - وهذا إسناد صحيح جيد .

فإن قالوا : قسنا على الذهب والفضة ما عداهما ؟ قلنا : فقيسوا إعطاءها بالثلث والربع على المضاربة .

فإن قالوا : قد صح النهي عن ذلك ؟ قلنا : فقد صح النهي عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، ونص عليه السلام على أن ليس له إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها أو يمسك أرضه فقط .

فظهر فساد هذا القول جملة ، وأنهم لم يتعلقوا بشيء أصلا ، واعلموا أنه لم يصح كراء الأرض بذهب أو فضة عن أحد من الصحابة إلا عن سعد وابن عباس - وصح عن رافع بن خديج ، وابن عمر ، ثم صح رجوع ابن عمر عنه ، وصح عن رافع المنع منه أيضا .

قال أبو محمد : فلم يبق إلا تغليب الإباحة في كرائها بكل عرض وكل شيء مضمون من طعام أو غيره ، والثلث والربع كما قال سعد بن أبي وقاص وأبو يوسف ; ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وغيرهم .

أو تغليب المنع جملة ، كما فعل رافع بن خديج ، وعطاء ، ومكحول ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغيرهم .

أو أن يغلب النهي حيث لم يوقن أنه نسخ ويؤخذ بالناسخ إذا تيقن ، كما فعل ابن عمر ، وطاوس ، والقاسم بن محمد ، ومحمد بن سيرين ، وغيرهم .

فنظرنا في ذلك فوجدنا من غلب الإباحة قد أخطأ ، لأن معهود الأصل في ذلك هو [ ص: 61 ] الإباحة على ما روى رافع وغيره { أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليهم وهم يكرون مزارعهم } وقد كانت المزارع بلا شك تكرى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه ، هذا أمر لا يمكن أن يشك فيه ذو عقل ، ثم صح من طريق جابر ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، ورافع ، وظهير البدري وآخر من البدريين ، وابن عمر { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض جملة } فبطلت الإباحة بيقين لا شك فيه .

فمن ادعى أن المنسوخ قد رجع ، وأن يقين النسخ قد بطل ، فهو كاذب مكذب ، قائل ما لا علم له به ، وهذا حرام بنص القرآن إلا أن يأتي على ذلك ببرهان ، ولا سبيل له إلى وجوده أبدا ، إلا في إعطائها بجزء [ مسمى ] مما يخرج منها ، فإنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بخيبر بعد النهي بأعوام ، وأنه بقي على ذلك إلى أن مات عليه السلام .

فصح أن النهي عن ذلك منسوخ بيقين ، وأن النهي عما عدا ذلك باق بيقين ، وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فمن المحال أن ينسخ حكم قد بطل ونسخ ثم لا يبين الله تعالى علينا أنه قد بطل ، وأن المنسوخ قد عاد ، وإلا فكأن الدين غير مبين - وهذا باطل - وبالله تعالى التوفيق . فارتفع الإشكال والحمد لله كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية