صفحة جزء
وأيضا فإن كان الحكم عندكم لغالب الظن فإنه يلزمكم أن تقولوا في قدح فيه أوقيتان من ماء فوقعت فيه مقدار الصآبة من بول كلب ، إنه لم ينجس من الماء إلا مقدار ما يمكن أن تخالطه تلك النجاسة ، وليس ذلك إلا لمقدارها من الماء فقط ويبقى سائر ماء القدح طاهرا حلالا شربه والوضوء به . وهكذا في جب فيه كر ماء وقعت فيه أوقية بول ، فإنه على أصلكم لا ينجس إلا مقدار ما مازجته تلك الأوقية ، وبقي سائر ذلك طاهرا مطهرا حلالا ، نحن موقنون وأنتم أنها لم تمازج عشر الكر ولا عشر عشره ، فإن التزمتم هذا فارقتم جميع مذاهبكم القديمة والحديثة التي هي أفكار سوء مفسدة للدماغ ، فإن رجعتم إلى أن ما قرب من النجاسة ينجس ، لزمكم ذلك كما قد ألزمناكم في النيل والجيحون ، وفي كل ماء جار ، لأنه يتصل بعضه ببعض فينجس جميعه لملاقاته الذي قد تنجس ولا بد - نعم - وفي البحر من نقطة بول تقع في كل ذلك ، فاختاروا ما شئتم فإن قالوا : لسنا على يقين من أن النهر الكبير أو البحر تنجس ، ولا من أن المتوضئ به توضأ بماء خالطته النجاسة منه . قلنا لهم : هذا نفسه موجود في الجب والبئر وفي القلة وفي قدح فيه عشرة أرطال ماء إذا لم يظهر أثر النجاسة في شيء من [ ص: 168 ] ذلك ولا فرق ، ولا يقين في أن كل ماء فيما ذكرنا تنجس ، ولا في أن المتوضئ من ذلك والشارب توضأ بنجس أو شرب نجسا ، ثم حتى لو كان كما ذكروا لما وجب أن يتنجس الماء الطاهر الحلال أو المائع لذلك لمجاورة النجس أو الحرام له ، ما لم يحمل صفات الحرام أو النجس . وبالله تعالى التوفيق .

قال علي : رأيت بعض من تكلم في الفقه ويميل إلى النظر يقول : إن كل ماء وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها فيه أثر فسواء كان قليلا أو كثيرا ، الحكم واحد ، وهو أن من توضأ بذلك الماء كله أو شربه حاشا مقدار ما وقع فيه من النجاسة ، فوضوءه جائز وصلاته تامة وشربه حلال ، وكذلك غسله منه ، إذ ليس على يقين من أنه استعمل نجاسة ولا أنه شرب حراما ، فإن استوعب ذلك الماء كله فلا وضوء له ولا طهر وهو عاص في شربه ; لأننا على يقين من أنه استعمل نجاسة وشرب حراما قال : وهكذا القول في البحر فما دونه ولا فرق ، قال : فإن توضأ بذلك الماء اثنان فصاعدا فاستوعباه أو استوعبوه كله بالغسل أو الوضوء أو الشرب فكل واحد منهما أو منهم وضوءه جائز في الظاهر ، وكذلك غسله أو شربه ، إلا أن فيهما أو فيهم من لا وضوء له ولا غسل ، ولا أعرف بعينه ، فلا ألزم أحدا منهم إعادة وضوء ولا إعادة صلاة بالظن .

قال علي : وقد ناظرت صاحب هذا القول رحمه الله في هذه المسألة ، وألزمته على أصل آخر له كان يذهب إليه ، أن يكون يأمر جميعهم بإعادة الوضوء والصلاة ، لأن كل واحد منهم ليس على يقين من الطهارة وشك في الحدث ، بل على أصلنا وأصل كل مسلم من أن كل واحد منهم على يقين من الحدث وعلى شك من الطهارة ، فالواجب عليه أن يأتي بيقين الطهارة ، وأريته أيضا بطلان القول الأول بما قدمنا من استحالة الأحكام باستحالة الأسماء ، وإن استحالة الأسماء باستحالة الصفات التي منها تقوم الحدود ، وقلت له : فرق بين ما أجزت من هذا وبين إناءين في أحدهما ماء وفي الآخر عصير بعض الشجر ، وبين بضعتي لحم إحداهما من خنزير والثانية من كبش ، وبين شاتين إحداهما مذكاة والأخرى عقيرة سبع ميتة ، ولا يقدر على الفرق بين شيء من ذلك أصلا .

قال علي : وممن روى عنه هذا القول بمثل قولنا - إن الماء لا ينجسه شيء - عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس والحسين بن علي بن أبي طالب [ ص: 169 ] وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عن جميعهم ، والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتي وغيرهم ، فإن كان التقليد جائزا ، فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية