صفحة جزء
[ ص: 142 ] وحدثني أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر الهروي نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أنه كان لا يرى الحجر على الحر شيئا - وهو قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وقول مجاهد ، وعبيد الله بن الحسن وغيره .

وقال أبو حنيفة : لا يحجر على حر لا لتبذير ، ولا لدين ، ولا لتفليس ، ولا لغيره ، ولا يرى حجر القاضي عليه لازما - ويرى تصرفه في ماله وإقراره بعد حجر القاضي عليه لازما [ ويرى تصرفه في ماله وإقراره بعد حجر القاضي ] وقبله سواء ، كل ذلك نافذ إلا أنه زاد فقال : من بلغ ولم يؤنس منه رشد حيل بينه وبين ماله إلا أنه إن باع شيئا - كثر أو قل - نفذ بيعه ، وإن أقر فيه - كثر أو قل - نفذ إقراره ، حتى إذا تمت له خمس وعشرون سنة دفع إليه ماله - وإن لم يؤنس منه رشد - : وهذه الزيادة في غاية الفساد - : أول ذلك : أنه لا نعلم أحدا قال بها قبله .

وأيضا : فإنه قول متناقض ; لأنه إذا جاز بيعه وإقراره فأي معنى للمنع له من ماله - هذا تخليط لا نظير له .

ثم تحديده بخمس وعشرين سنة من إحدى عجائب الدنيا ، وما ندري بأي وجه يستحل في الدين منع مال وإطلاقه بمثل هذه الآراء بغير إذن من الله تعالى ؟ وأعجب شيء احتجاج بعض من خذله الله تعالى بتقليده إياه فقال : يولد للمرء من اثني عشر عاما ونصف فيصير أبا ، ثم يولد لابنه كذلك فيصير جدا ، وليس بعد الجد منزلة ؟ قال أبو محمد : وهذا كلام أحمق بارد - ويقال له : هبك أنه كما تقول فكان ماذا ؟ ومتى فرق الله تعالى بين من يكون جدا وبين من يكون أبا في أحكام مالهما ، وفي أي عقل وجد تم هذا ؟ وأيضا : فقد يولد له من اثني عشر عاما ، ولابنه كذلك ، فهذه أربعة وعشرون عاما .

وأيضا : فبعد الجد أبو جد ، فبلغوه هكذا إلى سبع وثلاثين سنة ، أو إلى أربعين [ ص: 143 ] سنة لقول الله تعالى : { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } فظهر فساد هذه الزيادة جملة - وبالله تعالى التوفيق .

وذهب آخرون إلى الحجر فقال مالك : من كان يخدع في البيوع ولا يحسن ضبط ماله : حجر عليه ، فلم ينفذ له عتق ، ولا صدقة ، ولا بيع ، ولا هبة ، ولا نكاح ، ولا يكون وليا لابنته في النكاح وكل ما أخذه قرضا لم يلزمه أداؤه ولا قضي عليه به - وإن رشد بعد ذلك . وقال : ما فعل قبل أن يحجر القاضي عليه ففعله نافذ غير مردود إلى أن يحجر القاضي عليه - وأجاز لوليه أن يدفع نفقة شهر ونحو ذلك .

قال : فإن ظهر منه الرشد لم يكن بذلك نافذ الأمر حتى يفك القاضي عنه الحجر ، وأجاز لمن لم يحجر عليه إعطاء كل ما يملك في ضربة وفي مرات وأنفذه عليه - وهذا خطأ ظاهر وتناقض شديد في وجوه جمة - :

أحدها وأعظمها - إبطاله أعمال البر التي ندب الله تعالى إليها وجعلها منقذات من النيران : كالعتق ، والصدقة ، وإبطاله البيع الذي أباحه الله تعالى - وهذا صد عن سبيل الله تعالى ، وتعاون على الإثم والعدوان ، لا على البر والتقوى بغير برهان ، لا من قرآن ، ولا سنة .

وثانيها - إبطاله الولاية لمن جعله الله تعالى وليا لها في الإنكاح - فإن كان عندهم في حكم الصغير ، والمجنون ، اللذين هما غير مخاطبين ، ولا مكلفين إنقاذ أنفسهما من النار ، ولا ولاية لهما ، فليسقطوا عنه الصلاة ، والصوم ، وإن كان عندهم مكلفا مخاطبا مأمورا منهيا مندوبا موعودا متوعدا : فما بالهم يحولون بينه وبين ما ندبه الله تعالى إليه ، وجعله في يديه من الولاية بقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } وما الذي أسقط عنه هذا الخطاب وأوقع عليه الخطاب الصلاة ، والصوم ، والتحريم والتحليل ، وإقامة الحدود ؟ وما ندري ما هذا ؟ فإن قالوا : لو علمنا أنه يقصد بذلك الله تعالى ، لم نمنعه . قلنا لهم : ما علمكم بهذا منه ، ولا جهلكم به منه ، إلا كعلمكم به وجهلكم من غيره ، ممن تطلقونه على كل ذلك وتنفذونه منه ، ولعله أبعد من تقوى الله تعالى ، وأقل [ ص: 144 ] اهتبالا بالدين ، وأطغى من هذا الذي حلتم بينه وبين ما يقر به من ربه تعالى بالظنون الكاذبة .

وثالثها - إبطالهم أموال الناس التي يأخذها بالبيع أو القرض اللذين أباحهما الله عز وجل - وهذه عظيمة من العظائم ما ندري أين وجدوا هذا الحكم ؟ ونعوذ بالله منه ، وهذا إيكال للمال بالباطل ، وقد حرم الله تعالى هذا أيضا وإذا أسقطوا عنه حقوق الناس اللازمة له من أثمان البيع ورد القرض بنص القرآن ، فليسقطوا عنه قصاص الجنايات في أموال الناس ودمائهم ، وإلا فقد تناقضوا أقبح تناقض - وهذا هو التعاون على الإثم والعدوان جهارا .

ورابعها - وهو أفحشها في التناقض : إنفاذه ما فعل من التبذير المفسد حقا ، وبيوع الغبن قبل أن يحجر عليه القاضي ، ورده ما فعل من الصدقة والعتق بعد حجر القاضي عليه ، فكان حكم القاضي أنفذ من حكم الله تعالى ، ولا كرامة لوجه القاضي كائنا من كان ، فما جعل الله تعالى قط حكم القاضي محللا ولا محرما ، إنما القاضي منفذ بسلطانه على من امتنع فقط - لا خصلة له غيرها ولا معنى سوى هذا - وإلا فليأتونا بآية ، أو سنة ، بخلاف هذا ، ويأبى الله من ذلك - وهذا كله لا ندري من أين أخذوه ؟ وخامسها - إبطاله جميع أفعاله وإن كانت رشدا ما لم يفك القاضي عنه الحجر - وهذه كالتي قبلها .

وسادسها - إجازته أن يعطيه الولي نفقة شهر يطلق يده عليها ، فليت شعري من أين خرج هذا التقسيم العجيب ؟ وما الفرق بين إطلاق يده على نفقة شهر وبين إطلاقها على نفقة سنة أو نفقة سنتين ؟ فإن قالوا : نفقة شهر قليلة ؟ قلنا : قد يكون مال تكون نفقة شهر فيه كثيرا ويكون مال نفقة عشرة أعوام فيه قليلا ، ولا يخلو دفع ماله إليه من أن يكون واجبا ، أو حراما ، فإن كان واجبا فدفعه كله إليه واجب ، وإن كان حراما فقليل الحرام حرام - وهذا بعينه أنكروا على أصحاب أبي حنيفة في إباحتهم قليل المسكر وتحريمهم كثيره ؟

وسابعها - إنفاذهم أفعال الفساق الظلمة المتعدين على المسلمين بكل بائقة المبتاعين للخمور المنهمكين في أجر الفسق إذا كانوا جماعين للمال من أي وجه أمكن [ ص: 145 ] بالظلم وغيره ، فيجيزون بيعهم وشراءهم وهباتهم - وإن كانت في الأغلب والأظهر لغير الله تعالى - وإن أتى ذلك على كل ما يملكونه وبقوا بعده فقراء متكففين - : فأنفذوا منه التبذير الذي حرم الله تعالى ، والبسط الذي يقعد عليه بعده ملوما محسورا ، وردهم العتق ، والصدقة بدرهم ، وإن كان ذا مال عظيم ممن يخدع في البيوع ويصفونه بأنه لا يحسن ضبط ماله - فأي تناقض أفحش ممن يجعل أصله بزعمه ضبط المال وحفظه ؟ ثم يجيزون من واحد إعطاء ماله كله حتى يبقى هو وعياله جاعة وينفذونه عليه ، ويمنعون آخر من عتق : عبد ، وصدقة بدرهم ، وابتياع فاكهة يأكلها ، ووراءه من المال ما يقوم بأمثاله وأمثال عياله ، ثم يجعلون أصله بزعمهم دفع الخديعة له عن ماله . وهم يجيزون الخديعة المكشوفة في المال العظيم لغيره - فما هذا البلاء ، وما هذا التخاذل ، وكم هذا التناقض ؟ والحكم في الدين بمثل هذه الأقوال بلا قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه يعقل - ونعوذ بالله من البلاء .

وقال الشافعي بمثل هذا كله ، إلا أنه قال : إن كان مفسدا فجميع أفعاله مردودة - حجر عليه القاضي أو لم يحجر ، وإذا رشد فجميع أفعاله نافذة - حل عنه القاضي الحجر أو لم يحل - وكل ما أدخلنا على مالك يدخل عليه ، حاشا ما يدخل في هذين الوجهين فقط .

قال أبو محمد : والحق الواضح هو ما قلناه ، وهو أن كل بالغ مخاطب مكلف أحكام الشريعة ، فحكمهم ، كلهم سواء في أنهم مندوبون إلى الصدقة ، والعتق ، مباح لهم البيع والنكاح والشراء ، محرم عليهم إتلاف المال بالباطل ، وإضاعته والخديعة عنه والصدقة بما لا يبقي لهم غنى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الصدقة عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول } .

وكما قال عليه السلام : { الدين النصيحة ؟ قيل لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم } . وكما قال عليه السلام : { ليس منا من غشنا } . وكما قال الله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } [ ص: 146 ] وكما قال تعالى : { ولا تبذر تبذيرا } وكما قال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا }

وكل من تصدق وأعتق ، وفعل الخير عن ظهر غنى - : نفذ ، ولم يحل رده وكل من أعتق وتصدق عن غير ظهر غنى - : رد وبطل ; لأنه لا طاعة إلا ما أمر الله تعالى به ، ولا معصية إلا ما نهى الله عنه ، فالصدقة بما لا يبقي غنى معصية ، والصدقة بما يبقي غنى طاعة .

وكل من باع أو اشترى فخدع أو خدع - : فمردود ; لأن الله تعالى حرم الخديعة والغش ، وكل من باع أو اشترى فلم يغبن ولا غش فنافذ ; لأن الله تعالى أباح البيع .

وكل من أنفق في معصية فلسا فما فوقه - فمردود .

وكل من أنفق كما أمر قل أو كثر - : فنافذ لازم ، وما أباح الله تعالى قط إبطال حق ولا المنع من الطاعة من أجل معصية عصاها ذلك الممنوع ، أو خيف أن يعصيها ولم يعص بعد كما لم يبح أن تنفذ معصية ، وأن يمضي باطل من أجل باطل عمل به ذلك المخل ومعصيته ، بل الباطل مبطل قل وجوده من المرء أو كثر ، والحق نافذ قل وجوده من المرء أو كثر - .

هذا هو الذي جاء به القرآن والسنن وشهدت له العقول ، وما عدا هذا فباطل لا خفاء به ، وتناقض لا يحل ، وقول مخالف للقرآن ، والسنن ، والعقول .

وقال محمد بن الحسن : إن أعتق المحجور نفذ عتقه ، وعلى العبد أن يسعى له في قيمته - فكانت هذه طريفة جدا ولا ندري من أين استحل إلزام العبد السعي ههنا في هذه الغرامة ؟ وقال أبو سليمان ، وأصحابنا : من بلغ مبذرا فهو على الحجر كما كان ; لأنه مجور عليه بيقين فلا يفك عنه إلا بيقين آخر .

قالوا : فإن رشد ثم ظهر تبذيره لم يحجر عليه ، لكن ينفذ من أفعاله ما وافق الحق ويرد مما خالف الحق كغيره سواء . [ ص: 147 ]

قال علي : أما قولهم : قد لزمه الحجر بيقين ، فلا ينحل عنه إلا بيقين آخر - : فقول صحيح ، واليقين قد ورد ، وهو أمر الله تعالى له بالصدقة ، وأن يتقي النار بالعتق ، بإطلاقه على البيع إذا بلغ ، وعلى النكاح إذا كان مخاطبا بسائر الشرائع ولا فرق .

قال أبو محمد : واحتج المخالفون بأشياء يجب إيرادها ، وبيان فاسد احتجاجهم بها ، ووضعهم النصوص في غير مواضعها ، وبيان ذلك بحول الله تعالى وقوته .

قال أبو محمد : قالوا : قال الله عز وجل : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } قالوا : فإنما أمر الله تعالى بأن ندفع إليهم أموالهم مع إيناس الرشد منهم ، لا في غير هذه الحال .

وقال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } فنهى عز وجل عن إيتاء السفهاء المال ، ولم يجعل لهم إلا أن يرزقوا منها في الأكل ويكسوا ، ويقال لهم قول معروف .

وقال عز وجل : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } فأوجب الولاية على السفيه ، والضعيف .

وقال تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } وقال تعالى : { ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } وقال تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } فحرم الله تعالى السرف ، والتقتير ، والتبذير .

وقال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } هذا كل ما ذكروا من القرآن ، وكله حجة لنا عليهم ، ومخالف لأقوالهم - على ما نبين إن شاء الله تعالى - ما نعلم من القرآن حجة غير هذا أصلا .

وذكروا من السنة الخبر الصحيح عن المغيرة بن شعبة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال } . وذكروا خبرا رويناه من طريق أبي عبيد نا عمرو بن هارون عن [ ص: 148 ] يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أيما رجل كان عنده يتيم فحال بينه وبين أن يتزوج فزنى فالإثم بينهما } .

ما نعلم لهم خبرا غير هذين ، وكلاهما حجة لنا عليهم ، ومخالف لأقوالهم على ما نبين [ بعد هذا ] إن شاء الله تعالى .

وذكروا عن الصحابة رضي الله عنهم ما روينا عن هشام بن عروة عن أبيه أن علي بن أبي طالب أتى عثمان بن عفان فقال له : إن ابن جعفر اشترى بيعا كذا وكذا فاحجر عليه ؟ فقال الزبير : أنا شريكه في البيع ؟ فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ؟ ومن طريق أبي عبيد حدثني عفان بن مسلم عن حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال : قال عثمان لعلي : ألا تأخذ على يدي ابن أخيك - يعني عبد الله بن جعفر - وتحجر عليه ؟ اشترى سبخة بستين ألفا ما يسرني أنها لي بنعلي .

وما رويناه من طريق أبي عبيد نا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن الطفيل بن الحارث قال : بلغ ابن الزبير : أن عائشة أم المؤمنين أرادت بيع رباعها : فقال : لتنتهين ، أو لأحجرن عليها ؟ ومن طريق أبي عبيد نا سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير قال : كان عبد الله بن الزبير إذا نشأ منا ناشئ حجر عليه .

ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن ابن عباس أنه سئل عن الشيخ الكبير ينكر عقله أيحجر عليه ؟ قال : نعم . ومن طريق يزيد بن هرمز عن ابن عباس : أنه كتب إلى نجدة بن عويمر وكتبت تسألني عن اليتيم متى ينقضي يتمه ؟ فلعمري ، إن الرجل لتنبت لحيته ، وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ، ضعيف العطاء منها ، وإذا أخذ لنفسه من مصالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم ، وإنه لا ينقطع عن اليتيم اليتم حتى يبلغ ويؤنس منه رشد ، وإذا بلغ النكاح وأونس منه رشد : دفع إليه ماله ، فقد انقضى عنه يتمه . [ ص: 149 ]

قال أبو محمد : جمعنا هذه الألفاظ كلها ; لأنها مما رويناه من طرق كلها راجع إلى يزيد بن هرمز عن ابن عباس ، فاقتصرنا على ذكر من روي جميعها عنه فقط ، وكلها صحيح السند .

ومن طريق فيها شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس { فإن آنستم منهم رشدا } قال : اليتيم يدفع إليه ماله بحلم وعقل ووقار - ما نعلم عن الصحابة رضي الله عنهم شيئا غير هذا ، وكله مخالف لقولهم ، وحجة عليهم ، وأكثره موافق لقولنا .

وعن التابعين عن الحسن البصري { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } قال : صلاح في دينه وحفظ لماله . وعن الشعبي : إن كان الرجل ليشمط وما أونس منه رشد . وروينا مثل قولهم عن شريح ، والقاسم بن محمد ، وربيعة ، وعطاء . وروينا عن الضحاك : أنه لا يدفع إليه مال حتى يؤنس منه صلاح إلا أنه لم يأت ، عن شريح ، ولا عن القاسم منعه من عتق ، وصدقة ، وبيع ، لا يضر ماله ، إنما جاء ذلك عن ربيعة ، وعطاء فقط .

قال علي : ما نعلم لهم عن التابعين غير هذا ، وبعضه موافق لقولنا .

قال أبو محمد : أما قول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فينبغي أن يعرف ما الرشد الذي أمر الله تعالى من أونس منه بدفع ماله إليه ؟ فنظرنا في القرآن الذي هو المبين لنا ما ألزمنا الله تعالى إياه ، فوجدناه كله ليس الرشد فيه إلا الدين ، وخلاف الغي فقط ، لا المعرفة بكسب المال أصلا ، قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } وقال تعالى : { أولئك هم الراشدون } وقال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } .

فصح أن من بلغ مميزا للإيمان من الكفر فقد أونس منه الرشد الذي لا رشد سواه أصلا ، فوجب دفع ماله إليه ، وما يشك مؤمن ولا كافر أن فرعون وأصحابه كانوا أشد [ ص: 150 ] عناية بالمال ، وأضبط له ، وأكثر وأعرف بوجوه جمعه من موسى عليه السلام ، وأن فرعون لم يكن قط مغبونا في ماله .

ولقد أتى موسى عليه السلام ، والخضر عليه السلام ، إلى أهل قرية فاستطعماهم ؟ فأبوا أن يضيفوهما ، فباتا ليلتهما بغير قرى ، وما بلغ فرعون في ملكه قط هذا المبلغ .

وكذلك لا شك في أن المقنطر من قريش كأبي لهب ، والوليد بن المغيرة وابن جدعان : كانوا أبصر وأسرع إلى كسب المال من أي وجه أمكن من مساعاة الإماء ، والربا ، وغير ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد قالا جميعا : حدثنا أسود بن عامر نا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة : وثابت البناني قال هشام : عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين وقال ثابت : عن أنس ، ثم اتفق أنس ، وأم المؤمنين فذكرا حديث تلقيح النخل ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أنتم أعلم بأمر دنياكم } . فصح أن الرشد ليس هو كسب المال ، ولا منعه من الحقوق ، ووجوه البر ، بل هذا هو السفه ، وإنما الرشد طاعة الله تعالى ، وكسب المال من الوجوه التي لا تثلم الدين ، ولا تخلق العرض ، وإنفاقه في الواجبات ، وفيما يتقرب به إلى الله تعالى للنجاة من النار ، وإبقاء ما يقوم بالنفس ، والعيال ، على التوسط والقناعة ، فهذا هو الرشد .

وقال تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } وهكذا كل مكان في القرآن ذكر فيه الرشد .

وكذلك لم نجد في شيء من لغة العرب : أن الرشد هو الكيس في جمع المال وضبطه ، فبطل تأويلهم في الرشد بالآية ، وفي دفع المال بإيناسه .

وصح أنها موافقة لقولنا ، وأن مراد الله تعالى يقينا بها : إنما هو أن من بلغ عاقلا مميزا مسلما وجب دفع ماله إليه ، وجاز فيه من جميع أفعاله ما يجوز من فعل سائر الناس [ ص: 151 ] كلهم ، ويرد من أفعاله ما يرد من أفعال سائر الناس كلهم ، ولا فرق ، وأن من بلغ غير عاقل ، ولا مميز للدين ، لم يدفع إليه ماله .

ولو كان الذي قالوا في الرشد ، وفي السفه قولا صحيحا - ومعاذ الله من ذلك - لكان طوائف من اليهود ، والنصارى ، وعباد الأوثان ذوي رشد ، ولكان طوائف ، من المسلمين سفهاء ، وحاش لله من هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية