صفحة جزء
وأما قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } وقوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } فإن السفه في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، وبها خوطبنا ، لا يقع إلا على ثلاثة معان لا رابع لها أصلا - :

أحدها - البذاء والسب باللسان ، وهم لا يختلفون أن من هذه صفته لا يحجر عليه في ماله - فسقط الكلام في هذا الوجه .

والوجه الثاني - الكفر ، قال الله عز وجل : { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء } . وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام : أنه قال لله تعالى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } يعني كفرة بني إسرائيل .

وقال تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } .

وقال تعالى حاكيا عن مؤمني الجن الذين صدقهم ورضي عنهم قولهم : { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } فهذا معنى ثان ، ولا خلاف منهم ولا منا في أن الكفار لا يمنعون أموالهم ، وأن معاملتهم في البيع والشراء وهباتهم جائز كل ذلك ، وأن قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } وقوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } لم يرد به تعالى قط الكفار ، ولا ذوي البذاء في ألسنتهم .

والمعنى الثالث - وهو عدم العقل الرافع للمخاطبة كالمجانين والصبيان فقط ، وهؤلاء بإجماع منا ومنهم هم الذين أراد الله تعالى في الآيتين ، وأن أهل هذه الصفة لا [ ص: 152 ] يؤتون أموالهم ، لكن يكسون فيها ، ويرزقون ، ويرفق بهم في الكلام ، ولا يقبل إقرارهم ، لكن يقر عنهم وليهم الناظر لهم ، فصح هذا بيقين .

فمن قال : إن من يغبن في البيع ولا يحسن حفظ ماله - وإن كان عاقلا مخاطبا بالدين مميزا له - : داخل في " اسم السفه " المذكور في الآيتين ، فقد قال الباطل ، وقال على الله تعالى ما لا علم له به ، وقفا ما لا علم له به ، وما لا برهان له على صحته - وهذا كله حرام لا يحل القول به .

قال تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . وقال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فإذ لا برهان لهم فليسوا صادقين فيه بلا شك .

فصح أن الآيتين موافقتان لقولنا مخالفتان لقولهم ، وما سمى الله تعالى قط في القرآن ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا العربي الجاهل بكسب ماله ، أو المغبون في البيع : سفيها . " والسفيه " الذي ذكر في الآية هو الذي لا عقل له لجنونه ، والضعيف الذي لا قوة له ، قال تعالى : { ثم جعل من بعد قوة ضعفا } والذي لا يستطيع أن يمل : هو من به آفة في لسانه تمنعه كخرس ، أو نحو ذلك .

ولا يجوز أن يفسر كلام الله تعالى إلا بكلامه ، أو بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو بلغة العرب التي أخبر الله تعالى : أنه أنزل بها القرآن ، وباليقين الذي لا شك فيه : أنه مراد الله تعالى - فهذه طريق النجاة ، وأما بالظنون ، وما لا برهان عليه ، فمعاذ الله من هذا .

روينا من طريق سعيد بن منصور نا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى : { فإن آنستم منه رشدا } قال : العقل ، لا يدفع إلى اليتيم ماله - وإن شمط - حتى يؤنس منه رشد ، وهذا هو الحق المتيقن .

ومن طريق سعيد بن منصور نا يونس عن الحسن في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : السفهاء : الصغار ، والنساء : من السفهاء .

وبه إلى سعيد بن منصور نا عون بن موسى سمعت معاوية بن قرة يقول : عودوا النساء " لا " فإنها سفيهة إن أطعتها أهلكتك [ ص: 153 ]

ومن طريق إسماعيل بن إسحاق عن يحيى بن عبد الحميد الحماني نا أبي ، وحميد الرؤاسي ، وعبد الله بن المبارك ، قال الرؤاسي : عن الحسن بن صالح عن السدي - رده إلى عبد الله : - قال في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : النساء ، والصبيان . وقال ابن المبارك عن إسماعيل عن أبي مالك : النساء ، والصبيان ، قال : وقال أبي : عن سلمة بن نبيط عن الضحاك ، قال : النساء ، والصبيان .

وبه إلى إسماعيل نا نصر بن علي ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، قال نصر : نا أبو أحمد عن ابن أبي غنية عن الحكم بن عتيبة ، وقال ابن نمير : نا أبي نا الأعمش عن مجاهد ، ثم اتفق الحكم ، ومجاهد في قول الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قالا جميعا : النساء ، والصبيان . وبه إلى إسماعيل نا يحيى بن خلف نا أبو عاصم عن عيسى نا ابن نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } قال : نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم ، والسفهاء : من كن أزواجا ، أو أمهات ، أو بنات .

وبه إلى إسماعيل نا يحيى بن عبد الحميد الحماني نا شريك عن سالم عن سعيد هو ابن جبير { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : النساء . قال أبو محمد : فاتفق الحسن ، والحكم ، ومعاوية بن قرة ، ومجاهد ، والضحاك وسعيد بن جبير ، وأبو مالك ، وعبد الله - إما ابن مسعود وهو الأظهر ، وإما ابن عباس - على أن النساء سفهاء ، وأنهن من المراد في هذه الآية .

وصرح مجاهد بأنهن الأمهات والزوجات ، والبنات ، فأين المشنعون بخلاف الجمهور ؟ وجميع الحاضرين من المخالفين لنا في هذه المسألة مخالفون لهذا القول .

قال أبو محمد : أما الصبيان فنعم ، وأما النساء فلا ; لأنه لم يأت قرآن ، ولا سنة ، بأنهن سفهاء ، بل قد ذكرهن الله تعالى مع الرجال في أعمال البر فقال : { والمتصدقين والمتصدقات } وفي سائر أعمال البر ، فبطل تعلقهم بهذه الآية - والحمد لله رب العالمين . [ ص: 154 ]

وأما تحريمه تعالى التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد كل البسط فحق ، وهو قولنا ، وهم مخالفون لكل ذلك جهلا ، فيجيزون من الذي لا يخدع في البيع إعطاء ماله كله إما صدقة وإما هبة لشاعر ، أو في صداق امرأة ، نعم ، حتى إنه ليكتب لها على نفسه بعد خروجه لها عن جميع ماله الدين الثقيل ، وهذا هو التبذير المحرم ، والإسراف المحرم ، وبسط اليد كل البسط حتى يقعد ملوما محسورا ، ونحن نمنع من هذا كله ونبطله ونرده .

ثم يمنعون آخرين من الصدقة بدرهم في حياته ، ومن عتق عبده وإن كان له مائة عبد ، وينفذون وصيتهم وإن عظمت بعد موتهم ويحجرون الصدقة ، والعتق باليسير والكثير ، على من يخدع في البيع ، ولا يحجرون على من يبتاع الخمور ، ويعطي أجر الفسق ، وينفق على الندمان ، وفي القمار ، وإن أكثر ذلك إذا كان بصيرا بكسب المال من ظلم وغير ظلم ضابطا له من حق وغير حق ، ومانعا من زكاة وصدقة ، وهذه تناقضات في غاية السماجة ، وظهور الخطأ بغير وجه يعرف ، فمرة يطلقون إتلاف المال جملة في الباطل ، ومرة يحتاطون فيردون صدقة درهم ، وعتق رقبة لا ضرر على المال فيهما .

ومرة يجيزون الخديعة في الألوف في البيع ولا يكرهونها ويقولون : البيع خدعة ، ومرة يبطلون البيع الصحيح الذي لا خديعة فيه خوف أن يخدع مرة أخرى ، وهذا في التناقض كالذي قبله ، وفي القول بما لا يعقل ولا يشهد له قرآن ، ولا سنة ، ولا معقول ، ولا رأي سديد .

وأما نحن فنرد الخديعة والغش حيث وجدا ، وممن وجدا - قلا أم كثرا - ونجيز البيع الصحيح الذي لا خديعة فيه حيث وجد ، وممن وجد ، ونرد كل عطية في باطل - قلت أم كثرت - ونمضي كل عطية في حق - قلت أم كثرت - وبهذا جاءت النصوص ، وله شهدت العقول ، والآراء الصحاح التي إليهما ينتمون ، وبها في دين الله تعالى يقضون - والحمد لله رب العالمين .

قال أبو محمد : ونحن نفسر بعون الله تعالى التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد كل البسط التي حرم الله تعالى وزجر عنها ، لا كتفسيرهم الذي لا يفهمونه ، ولا يفهمونه أصلا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

قال علي : هذه الأعمال المحرمة معناها كلها واحد ويجمعه أن كل نفقة أباحها الله تعالى وأمر بها - كثرت أم قلت - فليست إسرافا ولا تبذيرا ولا بسط اليد كل البسط ; لأنه [ ص: 155 ] تعالى لا يحل ما حرم معا ، فلا شك في أن الذي أباح هو غير الذي نهى عنه ، وهو نفس قولنا - ولله الحمد .

وكل نفقة نهى الله تعالى عنها - قلت أم كثرت - فهي الإسراف والتبذير وبسط اليد كل البسط ; لأنه لا شك في أن الذي نهى الله تعالى عنه مفسرا هو الذي نهى عنه مجملا - ولله الحمد كثيرا ، وبهذا جاءت الآثار - : روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق نا محمد بن كثير أنا سليمان بن كثير عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في المبذر : هو الذي ينفق في غير حق .

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن أبي العبيدين عن ابن مسعود في قول الله تعالى : { ولا تبذر تبذيرا } قال : الإنفاق في غير حقه .

ومن طريق ابن وهب أخبرني خالد بن حميد عن عقيل بن خالد عن الزهري أنه كان يقول في قول الله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } قال : لا تمنعه من حق ولا تنفقه في باطل .

قال الزهري : وكذلك قوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } .

قال أبو محمد : فصح أن هذه الآيات هي نص قولنا وأنهم مخالفون لها أوضح خلاف .

قال علي : كل شراء لمأكول ، أو ملبوس ، أو مركوب ، وكل عتق ، وصدقة ، وهبة ، أبقى غنى فهو حلال - . والحلال هو غير التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد كل البسط .

والحلال لا يجوز رده وكل ما لم يبق غنى من كل ذلك مما ليس بالمرء عنه غنى فهو الإسراف والتبذير ، وبسط اليد كل البسط فهو كله باطل ممن فعله مردود ، وهكذا كل نفقة في محرم كالخمر ، وأجرة الفسق ، والقمار ، وغير ذلك - قل أو كثر - وبالله تعالى التوفيق . فبطل عنهم كل ما تعلقوا به من القرآن ، [ ص: 156 ] وأما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فحق وهو قولنا ، وإضاعته هو صبه في الطريق ، أو إنفاقه في محرم كما قلنا في التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد .

برهان ذلك - : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا في " المزارعة { من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه } فلم يجعل عليه السلام ترك الأرض لا تعمر إضاعة للمال إذا لم يحتج صاحبها إلى ذلك .

وما نعلم خلافا في أن ترك التزيد من كسب المال لمن معه الكفاف له ولعياله مباح ، وأن إقباله حينئذ على العمل للآخرة أفضل من إكبابه على طلب التزيد من المال - فظهر فساد قولهم من كل وجه .

وأعجب شيء قولهم : إن من لم يثمر ماله فهو سفيه ، ثم أباحوا لمن تعدى فأكل أموال الناس ظلما أو غصبا ، وبالبيع ، وبأي وجه أمكنه ، فلما طلب بالحقوق ، وأخذ ما وجد له ، أو لم يوجد له شيء أن يقعد مكانه فلا يتكسب شيئا ينصف منه أهل الحقوق قبله - وهذه ضد الحقائق ، مرة يمنعونه من الصدقة ، والعتق ، والبيع ; لأنه لا يحسن تثمير ماله ، ومرة يطلقون له أن لا يثمر ماله وإن أضر ذلك بأهل الحقوق قبله ، فواخلافاه .

روينا من طريق محمد بن المثنى نا يعلى بن عبيد الطنافسي نا محمد بن سوقة نا ابن سعيد بن جبير قال : سئل أبي عن إضاعة المال ؟ فقال : أن يرزقك الله تعالى مالا فتنفقه فيما حرم عليك .

قال أبو محمد : أولاد سعيد بن جبير هم ثلاثة ، عبد الله ، وعبد الملك ، وإسحاق : كلهم ثقات مشاهير ، فأيهم كان فهو ثقة - .

التالي السابق


الخدمات العلمية