صفحة جزء
1417 - مسألة : وكل متبايعين صرفا أو غيره فلا يصح البيع بينهما أبدا وإن تقابضا السلعة والثمن ، ما لم يتفرقا بأبدانهما من المكان الذي تعاقدا فيه البيع ، ولكل واحد منهما إبطال ذلك العقد أحب الآخر أم كره - ولو بقيا كذلك دهرهما - إلا أن يقول أحدهما للآخر - لا تبال أيهما كان القائل بعد تمام التعاقد - : اختر أن تمضي البيع ، أو أن تبطله ؟ فإن قال : قد أمضيته فقد تم البيع بينهما - تفرقا أو لم يتفرقا - وليس لهما ولا لأحدهما فسخه إلا بعيب ، ومتى ما لم يتفرقا بأبدانهما ولا خير أحدهما الآخر ، فالمبيع باق على ملك البائع كما كان ، والثمن باق على ملك المشتري كما كان ، ينفذ في كل واحد منهما حكم الذي هو على ملكه لا حكم الآخر .

برهان ذلك - : قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رويناه من طريق البخاري نا أبو النعمان - هو محمد بن الفضل عارم - نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر [ ص: 234 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر وربما قال : أو يكون بيع خيار } .

ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن علي بن حرب نا محرز بن الوضاح عن إسماعيل - هو ابن جعفر - عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان عن خيار ، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع } .

قال أبو محمد : هذا يبين أن الخيار المذكور إنما هو قول أحدهما للآخر : اختر ، لا عقد البيع على خيار مدة مسماة ، لأنه قال عليه السلام : إن كان البيع عن خيار ، فقد وجب البيع - وهذا خلاف حكم البيع المعقود على خيار مدة عند القائلين به .

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا عبيد بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا أو يكون خيارا } .

وهكذا رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بيع بينهما .

وهكذا رويناه عن إسماعيل بن جعفر ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، كلهم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا بيع بينهما حتى يتفرقا } .

ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد حدثه عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع } .

قال أبو محمد : هذا الحديث يرفع كل إشكال ، ويبين كل إجمال ، ويبطل التأويلات المكذوبة التي شغب بها المخالفون . [ ص: 235 ] ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا ابن جريج قال : أملى علي نافع في ألواحي قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا تبايع المتبايعان البيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكن بيعهما عن خيار } .

قال نافع : فكان ابن عمر إذا ابتاع البيع فأراد أن يجب له : - مشى قليلا ثم رجع .

ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى ، وعمرو بن علي قال ابن المثنى : نا يحيى بن سعيد القطان ، وقال عمرو بن علي : نا عبد الرحمن بن مهدي ، ثم اتفق يحيى ، وعبد الرحمن ، كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أبي الخليل - هو صالح بن أبي مريم - عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا ، وكتما محق بركة بيعهما } .

ورويناه أيضا من طريق همام بن يحيى - وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة بإسناده .

ومن طريق أبي التياح عن عبد الله بن الحارث بإسناده .

وهذه أسانيد متواترة متظاهرة منتشرة توجب العلم الضروري .

ومن طريق أبي داود السجستاني نا مسدد نا حماد بن زيد عن جميل بن مرة عن أبي الوضيء قال : غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا لغلام ، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما ، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل قام إلى فرسه ليسرجه فندم فأتى الرجل ليأخذه بالبيع فأبى أن يدفعه إليه ، فقال له : بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له : هذه القصة فقال : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } .

قال هشام بن حسان : قال جميل بن مرة : قال أبو برزة : ما أراكما افترقتما .

قال أبو محمد : أبو الوضيء - هو عباد بن نسيب تابعي ثقة - سمع علي بن أبي طالب ، وأبا هريرة ، وأبا برزة ، فهؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة ، وعنهم الأئمة من التابعين ومن بعدهم .

نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات قال : نا عبد الله بن محمد بن قاسم القلعي نا [ ص: 236 ] محمد بن أحمد الصواف ببغداد نا بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عمير الأسدي نا عبد الله بن الزبير الحميدي نا سفيان - هو ابن عيينة - نا بشر بن عاصم الثقفي قال : سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن أبي بن كعب قال : إن عمر بن الخطاب ، والعباس بن عبد المطلب تحاكما إليه في دار للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها في المسجد فأبى العباس ، فقال لهما أبي : لما أمر سليمان ببناء بيت المقدس كانت أرضه لرجل فاشتراها منه سليمان فلما اشتراها قال له الرجل : الذي أخذت مني خير أم الذي أعطيتني ؟ قال سليمان : بل الذي أخذت منك ، قال : فإني لا أجيز البيع ، فرده ، فزاده ، ثم سأله فأخبره ، فأبى أن يجيزه ، فلم يزل يزيده ويشتري منه ، فيسأله فيخيره ، فلا يجيز البيع ، حتى اشتراها منه بحكمه على أن لا يسأله ، فاحتكم شيئا كثيرا ، فتعاظمه سليمان ، فأوحى الله إليه : إن كنت إنما تعطيه من عندك فلا تعطه ، وإن كنت إنما تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى بها ، فقضى بها للعباس .

وروينا من طريق البخاري قال الليث هو ابن سعد - : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر ، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا .

ومن طريق الليث أيضا : عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان فتبايعت أنا وعثمان بن عفان فبعته مالا لي بالوادي بمال له بخيبر ، فلما بايعته طفقت أنكص على عقبي القهقرى خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه .

فهذا ابن عمر يخبر بأن هذا مذهب الصحابة وعملهم ، ومذهب عثمان بن عفان ; لأنه خشي أن يراده البيع قبل التفرق بالأبدان ، فلو لم يكن ذلك مذهب عثمان ما خاف ابن عمر ذلك منه ويخبر بأن ذلك هو السنة .

وروينا ذلك أيضا : عن أبي هريرة ، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير ، وطاوس - كما روينا [ ص: 237 ] عن عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن أبي عتاب عن أبي زرعة ، أن رجلا ساومه بفرس له فلما بايعه خيره ثلاثا ، ثم قال : اختر ؟ فخير كل واحد منهما صاحبه ثلاثا ، ثم قال أبو زرعة : سمعت أبا هريرة ، يقول : هذا البيع عن تراض - : فهذا عمر ، والعباس ، يسمعان أبيا يقضي بتصويب رد البيع بعد عقده فلا ينكران ذلك - فصح أنهم كلهم قائلون بذلك ومعهم عثمان ، وأبو هريرة وأبو برزة ، وابن عمر ، والصحابة جملة رضي الله عنهم .

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول سمعت : طاوسا يحلف بالله : ما التخيير إلا بعد البيع .

ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا محمد بن علي السلمي سمعت أبا الضحى يحدث أنه شهد شريحا اختصم إليه رجلان اشترى أحدهما دارا من الآخر بأربعة آلاف ، فأوجبها له ، ثم بدا له في بيعها قبل أن يفارق صاحبه فقال : لا حاجة لي فيها ، فقال البائع : قد بعتك وأوجبت لك ، فاختصمنا إلى شريح ، فقال شريح : هو بالخيار ما لم يتفرقا قال محمد بن علي : وشهدت الشعبي يقضي بهذا .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن مغيرة عن الشعبي أن رجلا اشترى برذونا فأراد أن يرده قبل أن يتفرقا ، فقضى الشعبي : أنه قد وجب عليه ، فشهد عنده أبو الضحى : أن شريحا أتي في مثل ذلك فرده على البائع فرجع الشعبي إلى قول شريح .

وروينا أيضا : من طريق معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه شهد شريحا يقضي بين المختصمين اشترى أحدهما من الآخر بيعا فقال : إني لم أرضه ، وقال الآخر : بل قد رضيته فقال شريح : بينتكما أنكما تصادرتما عن رضا بعد البيع أو خيار أو يمينه بالله ما تصادرتما عن رضا بعد البيع ولا خيار - : وهو قول هشام بن يوسف ، وابنه عبد الرحمن .

وقال البخاري : هو قول عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة .

وهو قول الحسن ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، والأوزاعي ، والليث ، وعبيد الله بن الحسن القاضي ، والشافعي ، وأبي ثور ، وجميع أصحابه ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد [ ص: 238 ] وأبي سليمان ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأهل الحديث ، وأهل المدينة .

كما روينا من طريق ابن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : قال لي أبي : بلغني عن ابن أبي ذئب أنه بلغه قول مالك بن أنس : ليس البيعان بالخيار ؟ فقال ابن أبي ذئب : هذا حديث موطوء بالمدينة - يعني مشهورا - .

قال أبو محمد : إلا أن الأوزاعي قال : كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما ، إلا بيوعا ثلاثة : المغنم ، والشركاء في الميراث يتقاومونه ، والشركاء في التجارة يتقاومونها .

قال الأوزاعي : وحد التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه - وقال أحمد : كما قلنا ، إلا أنه لا يعرف التخيير ، ولا يعرف إلا التفرق بالأبدان فقط .

وهذا الشعبي قد فسخ قضاءه بعد ذلك ورجع إلى الحق ، فشذ عن هذا كله أبو حنيفة ، ومالك ، ومن قلدهما ، وقالا : البيع يتم بالكلام وإن لم يتفرقا بأبدانهما ، ولا خير أحدهما الآخر ، وخالفوا السنن الثابتة ، والصحابة ، ولا يعرف لمن ذكرنا منهم مخالف أصلا ، وما نعلم لهم من التابعين سلفا إلا إبراهيم وحده - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال : إذا وجبت الصفقة فلا خيار .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال : البيع جائز وإن لم يتفرقا - ورواية مكذوبة موضوعة عن الحجاج بن أرطاة وكفى به سقوطا عن الحكم عن شريح قال : " إذا كلم الرجل بالبيع وجب عليه البيع ، والصحيح عن شريح هو موافقة الحق - : كما أوردنا قبل من رواية أبي الضحى ، وابن سيرين عنه .

ولعمري ; إن قول إبراهيم ليخرج على أنه عنى كل صفقة غير البيع ، لكن الإجارة ، والنكاح ، والهبات ، فهذا ممكن ; لأنه لم يذكر البيع أصلا فحصلوا بلا سلف .

وقوله : البيع جائز وإن لم يتفرقا : صحيح - وما قلنا : إنه غير جائز ، ولا قال هو : إنه لازم ، وإنما قال : إنه جائز .

قال أبو محمد : وموهوا بتمويهات في غاية الفساد - : منها : أنهم قالوا : معنى التفرق أي بالكلام ؟ فقلنا : لو كان كما يقولون [ ص: 239 ] لكان موافقا لقولنا ومخالفا لقولكم ; لأن قول [ أحد ] المتبايعين آخذه بعشرة ، فيقول الآخر : لا ، ولكن بعشرين لا شك عند كل ذي حس سليم أنهما متفرقان بالكلام ، فإذا قال أحدهما بخمسة عشر ، وقال الآخر : نعم قد بعتكه بخمسة عشر ، فالآن اتفقا ولم يتفرقا فالآن وجب الخيار لهما إذ لم يتفرقا بنص الحديث ؟ فاذهبوا كيف شئتم من عارض الحق بلح وافتضح .

وأيضا : فنقول لهم : قولكم : التفرق بالكلام كذب ، دعوى بلا برهان ، لا يحل القول بهما في الدين .

وأيضا : فرواية الليث .

عن نافع عن ابن عمر التي أوردنا رافعة لكل شغب ، ومبينة أنه التفرق عن المكان بالأبدان ولا بد .

وقال بعضهم : معنى المتبايعين ههنا : إنما هما المتساومان ، كما سمي الذبيح ولم يذبح - وقال : كما قال تعالى : { فبلغن أجلهن } : إنما أراد تقاربن بلوغ أجلهن .

وقال آخرون منهم : إنما أراد بقوله عليه السلام { ما لم يتفرقا } إنما هو ما بين قول أحدهما : قد بعتك سلعتي هذه بدينار ؟ فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد قبلت ذلك ، وبين قوله لصاحبه : قد ابتعت سلعتك هذه بدينار فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد بعتكها بما قلت .

وقال آخرون : إنما هو ما بين قول القائل : بعني سلعتك بدينار ؟ فهو بالخيار ما لم [ ص: 240 ] يقل له الآخر : قد فعلت ، وبين قول القائل : اشتر مني سلعتي هذه بدينار ، فله الخيار ما لم يقل له الآخر : قد فعلت ؟ فجواب هذه الأقوال كلها واضح مختصر ، وهو أن يقال : كذب قائل هذا وأفك وأثم ; لأنه حرف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه بلا برهان أصلا ، لكن مطارفة ومجاهرة بالدعوى الباطل ، فمن أين لكم هذه الأقوال ؟ ومن أخبركم بأن هذا هو مراده عليه السلام ؟ وأما قولكم : كما سمي الذبيح ولم يذبح ؟ فما سماه الله تعالى قط ذبيحا ، ولا صح ذلك أيضا قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان هكذا فإنما هو قول مطلق عامي لا حجة فيه ، وإنما أطلق ذلك من أطلق مسامحة ، أو لأنه حمل الخليل عليه السلام السكين على حلقه ، وهذا فعل يسمى من فاعله ذبحا ، وما نبالي عن هذه التسمية ; لأنها لم يأت بها قط قرآن ، ولا سنة ، فلا يقوم بها حجة في شيء أصلا .

وأما قوله تعالى : { فبلغن أجلهن } فصدق الله تعالى وكذب من قال : إنه تعالى أراد المقاربة ، حاش لله من هذا - ولو كان ما ظنوه لكان الإمساك والرجعة لا يجوز إلا في قرب بلوغ الأجل ، لا قبل ذلك ، وهذا باطل بلا خلاف - وتأويل الآية موافق لظاهرها بلا كذب ولا تزيد ، وإنما أراد تعالى - بلا شك - بلوغ المطلقات أجل العدة بكونهن فيها من دخولهن إياها إلى إثر الطلاق إلى خروجهن عنها ، وهذه المدة كلها للزوج فيها الرجعة والإمساك بلا خلاف ، أو التمادي على حكم الطلاق .

وحتى لو صح لهم ما أطلقوا فيه الباطل لكان لا متعلق لهم به ; لأنه ليس إذا وجد كلام قد صرف عن ظاهره بدليل وجب أن يصرف كل كلام عن ظاهره بلا دليل ، وفي هذا إفساد التفاهم ، والمعقول ، والشريعة كلها ، فكيف ورواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا } فاضح لهذا الكذب كله ، ومبطل لتخصيص بعض من يقع عليه اسم بيع من سائر من يقع عليه هذا الاسم .

وقالوا : هذا التفريق المذكور في الحديث : هو مثل التفريق المذكور في قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } . [ ص: 241 ] فقلنا : نعم ، بلا شك ، وذلك التفرق المذكور في الآية تفرق بالقول يقتضي التفرق بالأبدان ولا بد ، والتفرق المذكور في الحديث كذلك أيضا تفرق بالقول يقتضي التفرق بالأبدان ولا بد ، وأنتم تقولون : إن التفرق المراعى فيما يحرم به الصرف أو يصح إنما هو تفرق الأبدان ، فهلا قلتم على هذا ههنا : إن التفرق المذكور في هذا الخبر هو أيضا تفرق الأبدان ، لولا التحكم البارد حيث تهوون .

وموهوا بقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .

فأباح تعالى الأكل بعد التراضي ، قالوا : وهذا دليل على صحة الملك بالعقد .

قال أبو محمد : الذي أتانا بهذه الآية هو الذي من عنده ندري : ما هي التجارة المباحة لنا مما حرم علينا ، وما هو التراضي الناقل للملك من التراضي الذي لا ينقل الملك ؟ ولولاه لم نعرف شيئا من ذلك .

وهو الذي أخبرنا : أن العقد ليس بيعا ، ولا هو تجارة ، ولا هو تراضيا ولا ينقل ملكا إلا حتى يستضيف إليه التفرق عن موضعهما ، أو التخيير ، فهذا هو البيع ، والتجارة ، والتراضي ، لا ما ظنه أهل الجهل بآرائهم بلا برهان ، لكن بالدعوى الفاسدة .

واحتجوا بقول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } وهذا حق إلا أن الذي أمرنا بهذا على لسان نبيه هو تعالى الآمر لرسوله عليه السلام أن يخبرنا أنه لا يصح هذا التعاقد ولا يتم ، ولا يكون عقدا إلا بالتفرق عن موضعهما أو بأن يخير أحدهما الآخر بعد التعاقد ، وإلا فلا يلزم الوفاء بذلك العقد ، وهم مجمعون معنا على أنه لا يلزم أحدا الوفاء بكل عقد عقده ، بل أكثر العقود حرام الوفاء بها ، كمن عقد على نفسه أن يزني ، أو أن يشرب الخمر .

نعم ، وأكثر العقود لا يلزم الوفاء به عندهم وعندنا ، كمن عقد أن يشتري ، أو أن يبيع ، أو أن يغني ، أو أن يزفن أو أن ينشد شعرا .

فصح يقينا أنه لا يلزم الوفاء بعقد أصلا ، إلا عقدا أتى النص بالوفاء به باسمه [ ص: 242 ] وعينه ، وهم يقولون - يعني الحنفيين - أن من بايع آخر شيئا غائبا وتعاقدا إسقاط خيار الرؤية أنه عقد لا يلزم .

والمالكيون يقولون : من ابتاع ثمرة واشترط أن لا يقوم بجائحة ، وعقد ذلك على نفسه ، فإنه عقد لا يلزمه ، فأين احتجاجهم بقول الله تعالى { أوفوا بالعقود } . فإن قالوا : هذه عقود قامت الأدلة على أنه لا يلزم الوفاء بها ؟ قلنا : وعقد البيع عقد قد قام البرهان حقا على أنه لا يلزم الوفاء به إلا بعد التفرق بالأبدان ، أو بعد التخيير ، بخلاف الأدلة الفاسدة التي خصصتم بها ما خصصتم من العقود المذكورة .

وموهوا أيضا بقول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وإن الحياء لقليل في وجه من احتج بهذه الآية في هذا المكان لوجوه - : أولها - أنهم أول مخالف لهذه الآية فيما وردت فيه من وجوب الإشهاد فكيف يستحلون الاحتجاج بأنهم قد عصوا الله تعالى فيها وخالفوها ، ولم يروها حجة في وجوب الإشهاد في البيع ؟ والثاني - أنه ليس في الآية نص ولا دليل على بطلان التفرق المذكور في الخبر ولا ذكر منه أصلا .

والثالث : أن نص الآية إنما هو إيجاب الإشهاد إذا تبايعنا ، والذي جاءنا بهذه الآية - ولولاه لم ندر ما المبيع المباح من المحرم ألبتة - هو الذي أخبرنا أنه لا بيع أصلا إلا بعد التفرق عن موضعهما أو التخيير . فصح يقينا أن قول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } إنما هو أمر بالإشهاد بعد التفرق ، أو التخيير الذي لا بيع بينهما أصلا إلا بعد أحدهما وإن رغمت أنوف المخالفين ؟ ثم موهوا بإيراد أخبار ثابتة وغير ثابتة ، مثل قوله عليه السلام : { إذا ابتعت بيعا فلا [ ص: 243 ] تبعه حتى تقبضه } والقول فيه كالقول في الآية سواء سواء ; لأنه لا بيع بينهما إلا بعد التفرق أو التخيير ، وإلا فلم يبتع المبتاع أصلا ولا باع البائع ألبتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية