صفحة جزء
1422 - مسألة : وكل بيع صح وتم فهلك المبيع إثر تمام البيع فمصيبته من المبتاع ولا رجوع له على البائع .

وكذلك كل ما عرض فيه من بيع أو نقص سواء في كل ذلك كان المبيع غائبا أو [ ص: 272 ] حاضرا ، أو كان عبدا أو أمة فجن أو برص أو جذم إثر تمام البيع فما بعد ذلك ، أو كان ثمرا قد حل بيعه ، فأجيح كله أو أكثره أو أقله ، فكل ذلك من المبتاع ولا رجوع له على البائع بشيء - وهو قول أبي سليمان ، والشافعي ، وأصحابهما .

وقال أبو حنيفة : على البائع تسليم ما باع ، فإن هلك قبل أن يسلمه فمصيبته من البائع - وقال مالك بقولنا ، إلا في الرقيق والثمار خاصة ، فإنه قال : ما أصاب الرقيق في ثلاثة أيام بعد بيع الرأس من إباق ، أو عيب ، أو موت ، أو غير ذلك ، فمن مصيبة البائع ، فإذا انقضت برئ البائع ، إلا من الجنون ، والجذام ، والبرص : فإن هذه الأدواء الثلاثة إن أصاب شيء منها الرأس المبيع قبل انقضاء عام من حين ابتياعه كان له الرد بذلك .

قال : ولا يقضي بذلك إلا في البلاد التي جرت عادة أهلها بالحكم بذلك فيها - وأما البلاد التي لم تجر عادة أهلها بالحكم بذلك فيها : فلا حكم عليهم بذلك .

قال : ومن باع بالبراءة بطل عنه حكم العهدة ، وأسقطها جملة فيما باعه السلطان لغريم ، أو من مال يتيم - وأجاز النقد في عهدة السنة ، ولم يجزه في عهدة الثلاث .

وأما الثمار فمن باع ثمرة كانت بعد أن يحل بيعها والمقاثي ، فإذا أجيح من ذلك الثلث فصاعدا رجع بذلك على البائع ، فإن أجيح ما دون الثلث - بما قل أو كثر - فهو من مصيبة المشتري ولا رجوع له على البائع .

قال : فإن كان بقلا فأصابته جائحة - قلت أو كثرت - فإنه يرجع بذلك على البائع - واختلف قوله في الموز ، فمرة قال : هو بمنزلة الثمار في مراعاة الثلث ، ومرة قال : هو بمنزلة البقل في الرجوع بقليل الجائحة وكثيرها .

ومرة قال : لا يرجع بجائحة أصابته كله أو أكثره أو أقله .

قال أبو محمد : أما إيجاب التسليم فما نعلم فيه للحنفيين حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي سديد ، وإنما على البائع أن لا يحول بين المشتري وبين قبض ما باع منه فقط ، فإن فعل صار عاصيا وضمن ضمان الغصب فقط ، ولا يحل أن يلزم أحد حكما لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، قال تعالى : { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فسقط هذا القول . [ ص: 273 ] وأما قول مالك في الرقيق : فإن مقلديه يحتجون له بما رويناه من طريق أبي داود نا مسلم بن إبراهيم نا أبان - هو ابن يزيد العطار - عن قتادة عن الحسن البصري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { عهدة الرقيق ثلاثة أيام } .

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبدة ، ومحمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عهدة الرقيق ثلاث } .

وقالوا : إنما قضى بعهدة الثلاث لأجل حمى الربع ; لأنها لا تظهر في أقل من ثلاثة أيام .

وذكروا ما رويناه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع أبان بن عثمان بن عفان ، وهشام بن إسماعيل بن هشام يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة من حين يشتري العبد أو الوليدة وعهدة السنة ، ويأمران بذلك .

ومن طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : قضى عمر بن عبد العزيز في عبد اشتري فمات في الثلاثة الأيام فجعله عمر من الذي باعه .

قال ابن وهب : وحدثني يونس عن ابن شهاب ، قال : القضاة منذ أدركنا يقضون في الجنون والجذام ، والبرص : سنة .

قال ابن شهاب : وسمعت سعيد بن المسيب يقول : العدة من كل داء عضال نحو الجنون ، والجذام ، والبرص : سنة .

قال ابن وهب : وأخبرني ابن سمعان ، قال : سمعت رجالا من علمائنا منهم يحيى بن سعيد الأنصاري يقولون : لم تزل الولاة بالمدينة في الزمان الأول يقضون في الرقيق بعهدة السنة من الجنون والجذام ، والبرص إن ظهر بالمملوك شيء في ذلك قبل [ ص: 274 ] أن يحول الحول عليه فهو رد إلى البائع ، ويقضون في عهدة الرقيق بثلاث ليال فإن حدث في الرأس في تلك الثلاث حدث - من موت أو سقم - فهو من الأول ، وإنما كانت عهدة الثلاث من الربع ، ولا يستبين الربع إلا في ثلاث ليال .

هذا كل ما شغبوا به ، وما نعلم لهم في ذلك شيئا غير ما أوردنا ، وكله لا حجة لهم في شيء منه - : أما الحديثان فساقطان ; لأن الحسن لم يسمع من عقبة بن عامر شيئا قط ، ولا سمع من سمرة إلا حديث العقبة فصارا منقطعين ، ولا حجة في منقطع .

وقد رويناهما بغير اللفظ ، لكن كما روينا من طريق ابن وهب أخبرني مسلمة بن علي عمن حدثه عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عهدة الرقيق أربعة أيام وثلاثة } .

ومن طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن الجهم نا عبد الوهاب - هو ابن عطاء الخفاف - نا هشام عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال : عهدة الرقيق أربع ليال .

ومن طريق حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا عهدة إلا بعد أربعة أيام } .

قال أبو محمد : وهذا مما نقضوا فيه أصولهم فإن الحنفيين يقولون : المنقطع ، والمتصل : سواء ، وقد تركوا ههنا هذه الأخبار ، وما عابوها إلا بالانقطاع فقط .

والمالكيون تركوا ههنا الأخذ بالزيادة ، فهلا جعلوا العهدة أربع ليال بالآثار التي أوردنا ؟ فظهر تناقضهم وأنهم لا يثبتون على أصل .

قال علي : وأما نحن فنقول : إن الله تعالى افترض على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين لنا ما نزل إلينا وما ألزمنا إياه ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقول القائل " عهدة الرقيق ثلاث " كلام لا يفهم ، ولا تدري " العهدة " ما هي في لغة العرب ، وما فهم قط أحد من قول قائل " عهدة الرقيق ثلاثة أيام " أن معناه ما أصاب الرقيق المبيع في ثلاثة أيام ، فمن [ ص: 275 ] مصيبة البائع ، ولا يعقل أحد هذا الحكم من هذا اللفظ - فصح يقينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقله قط ، ولو قاله لبين علينا ما أراد به .

ولا يفرح الحنفيون بهذا الاعتراض فإنه إنما يسوغ ويصح على أصولنا لا على أصولهم ; لأن الحنفيين إذ رزقهم الله تعالى عقولا كهنوا بها ما معنى الكذب المضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن " البتيراء " حتى فهموا أن البتيراء : هي أن يوتر المرء بركعة واحدة لا بثلاث ، على أن هذا لا يفهمه إنسي ولا جني من لفظة " البتيراء " ولم يبالوا بالتزيد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإخبار عنه بما لم يخبر به عن نفسه ، فما المانع لهم من أن يكهنوا أيضا ههنا معنى العهدة ؟ فما بين الأمرين فرق .

وأما نحن فلا نأخذ ببيان شيء من الدين إلا من بيان النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، فهو الذي تقوم به حجة الواقف غدا بين يدي الله تعالى لا بما سواه .

وأما المالكيون فهم أصحاب قياس بزعمهم ، وقد جاء الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في البيع ، فقاسوا عليه الشفعة في الصداق بآرائهم .

وجاء النص بتحديد المنع من القطع في سرقة أقل من ربع دينار فقاسوا عليه الصداق ولم يقيسوا عليه الغصب وهو أشبه بالسرقة من النكاح عند كل ذي مسكة عقل .

وقد جاء النص بالربا في الأصناف الستة فقاسوا عليها : الكمون ، واللوز ، فهلا قاسوا ههنا على خبر " العهدة " في الرقيق سائر الحيوان ؟ ولكن لا النصوص يلتزمون ولا القياس يحسنون ؟ ومن طرائفهم ههنا : أنهم قاسوا من أصدق امرأته عبدا أو ثمرة بعد أن بدا صلاحها فمات العبد أو أبق أو أصابه عيب قبل انقضاء ثلاثة أيام ، وأجيحت الثمرة بأكثر من الثلث ؟ فللمرأة القيام بالجائحة ، ولا قيام لها في العبد بعهدة الثلاث - فكان " هذا طريفا جدا .

وكلا الأمرين تعلقوا فيه بخبر وعمل ولا فرق ؟ وأما احتجاجهم بأن " عهدة الثلاث " إنما جعلت من أجل حمى الربع ، فلا يخلو من أن تكون هذه العلة مخرجة من عند أنفسهم ، أو مضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد من [ ص: 276 ] أحدهما ، فإن أضافوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك كذبا بحتا موجبا للنار ، وإن كانوا أخرجوها من عند أنفسهم ؟ قلنا لهم : فلم تعديتم بالحكم بذلك إلى الإباق ، والموت ، وسائر العيوب التي يقرون بأنها حادثة بلا شك ، كذهاب العين من رمية ، ونحو ذلك ؟ فهذا عجب جدا ؟ وليس هذا موضع قياس لافتراق العلة .

وأيضا : فإن كنتم فعلتم ذلك لهذه العلة فنراكم قد اطرحتم الخبر الوارد في ذلك واقتصرتم على علة في غاية الفساد ؟ ؟ وأما الآثار التي شغبوا بها فلا متعلق لهم بشيء منها ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا - فإن هشام بن إسماعيل ممن لا نعلمه تجب الحجة بروايته فكيف بخطبته ؟ وأما خطبة أبان بن عثمان بذلك - فعهدنا بهم قد خالفوا أبانا في قوله : إن ألبتة في الطلاق واحدة ، وفي إبطاله طلاق السكران ، وغير ذلك : فمرة يكون حكم أبان حجة ، ومرة لا يكون حجة - وهذا تخليط شديد وعمل لا يحل .

وأما عمر بن عبد العزيز فالرواية عنه بذلك ساقطة ; لأنها من طريق ابن أبي الزناد ، وأول من ضعف روايته فمالك - وهو ضعيف جدا - وهم قد اطرحوا حكم عمر بن عبد العزيز الثابت عنه ، والسنة معه في أمره الناس علانية بالسجود في " إذا السماء انشقت " وغير ذلك من أحكامه كثير جدا ، فالآن صار حجة وهنالك ليس حجة ، ما أقبح هذا العمل في الديانة .

وأما قول يحيى بن سعيد الأنصاري ، فمن رواية ابن سمعان ، وهو مذكور بالكذب لا تحل الرواية عنه . وأما قول الزهري ، وسعيد بن المسيب : فصحيح عنهما ، ولا حجة في الدين في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول سعيد مخالف لهم ; لأنه رأى عهدة السنة من كل داء عضال ، ولم يخص الجنون ، والجذام ، والبرص فقط ، وقد علم كل ذي حس أن الأكلة ، والحربة ، والأدرة : من الأدواء العضال ، فبطل كل ما موهوا به ، وما نعلم لهم في عهدة السنة من الأدواء المذكورة أثرا أصلا ، ولا قول صاحب ، ولا قياسا . [ ص: 277 ] وقال بعضهم : هذه الأدواء لا تظهر ببيان إلا بعد عام .

قال أبو محمد : وهذه دعوى كاذبة ، وقول بلا برهان ، وما كان هكذا فحكمه الإطراح ، ولا يحل الأخذ به ، وما علم هذا قط ، لا في طب ، ولا في لغة عربية ، ولا في شريعة .

قال علي : وذكروا أيضا : ما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا همام عن قتادة أنه كان يقول : إن رأى عيبا في ثلاث ليال رد بغير بينة ، وإن رأى عيبا بعد ثلاث لم يرد إلا ببينة .

ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن عبد الملك بن يعلى فيمن ابتاع غلاما فوجده مجنونا ؟ قال : إن ظهر ذلك في السنة فإنه يستحلف البائع لقد باعه وما به جنون ، وإن كان بعد السنة فيمينه بالله على علمه .

وذكر بعضهم أن عمر بن الخطاب ; وابن الزبير سئلا عن العهدة فقالا : لا نجد أمثل من حديث { حبان بن منقذ إذ كان يخدع في البيوع فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثا إن شاء أخذ وإن شاء رد } .

وخبر عن علي بن أبي طالب أجل الجارية بها الجذام ، والداء : سنة .

قال علي : وكل هذا لا حجة لهم فيه - : أما خبر عمر ، وابن الزبير ، فلا بيان فيه بأنهما يقولان بقولهم أصلا ، بل فيه أنه خلاف قولهم " لأنهما بيناه على حديث حبان بن منقذ " .

والمالكيون مخالفون لذلك الخبر ، فقول عمر ، وابن الزبير : حجة عليهم ، ولا وفاق فيه لقولهم أصلا لأنه إنما فيه الخيار بين الرد والأخذ فقط ، دون ذكر وجود عيب ، ولا فيه تخصيص للرقيق دون سائر ذلك ، فهو حجة عليهم لا لهم .

ونحن نقول بهذا إذا قال المشتري : ما أمر منقذ أن يقوله .

وأما خبر علي : فليس فيه أيضا شيء يدل على موافقة قولهم ، ولا ذكر رد أصلا ، [ ص: 278 ] وإنما يموهون بالخبر يكون فيه لفظ كبعض ألفاظ قولهم ، فيظن من لا يمعن النظر أن ذلك الخبر موافق لقولهم ، وليس هو كذلك ، بل هو مخالف لقولهم في الأكثر ، أو لا موافق ولا مخالف كذلك أيضا .

قال أبو محمد : وقد روى ابن جريج أنه سأل الزهري عن عهدة الثلاث والسنة ؟ فقال : ما علمت فيه أمرا سالفا .

قال ابن جريج : وسألت عطاء عن ذلك ؟ فقال : لم يكن فيما مضى عهدة في الأرض ، قلت : فما ثلاثة أيام ؟ قال : لا شيء .

قال علي : قال الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } فمن الباطل أن تكون جارية ملكها لزيد وفرجها له حلال ويكون ضمانها على خالد ، حاش لله من هذا .

وقد صح عن ابن عمر : ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع - ولا يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية