صفحة جزء
1427 - مسألة : ولا يحل بيع شيء من المغيبات المذكورة كلها دون ما عليها أصلا - : لا يحل بيع النوى - أي نوى كان - قبل إخراجه وإظهاره دون ما عليه .

ولا بيع المسك دون النافجة قبل إخراجه من النافجة .

ولا بيع البيض دون القشر قبل إخراجه عنه .

ولا بيع حب الجوز ، واللوز ، والفستق ، والصنوبر ، والبلوط ، والقسطل ، والجلوز ، وكل ذي قشرة دون قشره قبل إخراجه من قشره .

ولا بيع العسل دون شمعه قبل إخراجه من شمعه .

ولا لحم شاة مذبوحة دون جلدها قبل سلخها .

ولا بيع زيت دون الزيتون قبل عصره .

ولا بيع شيء من الأدهان دون ما هو فيه قبل إخراجه منها .

ولا بيع حب البر دون أكمامه قبل إخراجه منها .

ولا بيع سمن من لبن قبل إخراجه ، ولا بيع لبن قبل حلبه أصلا .

ولا بيع الجزر ، والبصل ، والكراث ، والفجل قبل قلعه - لا مع الأرض ولا دونها - لأن كل ذلك بيع غرر ، لا يدرى مقداره ولا صفته ولا رآه أحد فيصفه .

وهو أيضا أكل مال بالباطل ، قال الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .

وبالضرورة يدري كل أحد أنه لا يمكن ألبتة وجود الرضا على مجهول وإنما يقع التراضي على ما علم وعرف ، فإذ لا سبيل إلى معرفة صفات كل ما ذكرنا ولا مقداره فلا سبيل إلى التراضي به ، وإذ لا سبيل إلى التراضي به فلا يحل بيعه ، وهو أكل مال بالباطل .

وأما الجزر ، والبصل ، والكراث ، والفجل ، فكل ذلك شيء لم يره قط أحد ، ولا تدرى صفته : فهو بيع غرر ، وأكل مال بالباطل - إذا بيع وحده - وأما بيعه بالأرض معا [ ص: 295 ] فليس مما ابتدأ الله تعالى خلقه في الأرض فيكون بعضها ، وإنما هو شيء من مال الزارع لها ، أودعه في الأرض كما لو أودع فيها شيئا من سائر ماله ولا فرق ، فما لم يستحل البذر عن هيئته فبيعه جائز مع الأرض ودونها لأنه شيء موصوف معروف القدر ، وقد رآه بائعه أو من وصفه له ، فبيعه جائز ; لأن التراضي به ممكن وأما إذا استحال عن حاله فقد بطل أن يعرف كيف هو وما صفته ، وليس هو من الأرض ، ولكنه شيء مضاف إليها ، فهو مجهول الصفة جملة ، ولا يحل بيع مجهول الصفة بوجه من الوجوه ; لأنه بيع غرر حتى يقلع ويرى - وبالله تعالى التوفيق .

وممن أبطل بيع هذه المغيبات في الأرض : الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو سليمان .

وقد تناقض الحاضرون من مخالفينا في كثير مما ذكرنا - : فأجاز أبو حنيفة بيع لحم الشاة مذبوحة قبل السلخ وأوجب السلخ على البائع .

وأجاز بيع البر دون التبن والأكمام قبل أن يدرس ويصفى ، وجعل الدرس والتصفية على البائع .

وأجاز بيع الجزر ، والبصل ، وغير ذلك مغيبا في الأرض .

وأوجب على البائع أن يقلع منه أنموذجا قدر ما يريه المشتري فإن رضيه كان على المشتري قلع سائره - فلو أن المشتري يتولى بنفسه قلع أنموذج منه فلم يرضه لم يلزمه البيع - فلو قلع منه أكثر من أنموذج فقد لزمه البيع أحب أم كره .

وقال أبو يوسف : لا أجيز البائع ولا المشتري على قلع شيء من ذلك فإن تشاحا أبطلت البيع .

فإن قلع المشتري منه أقل ما يقع في المكاييل فله الخيار في إمضاء أو فسخ ، فإن قلع أكثر من ذلك فقد لزمه البيع كله .

قال أبو محمد : إن في هذا لعجبا ، ليت شعري من أين وجب أن يجبر البائع على الدرس ، والتصفية ، والسلخ ، ولا يجبر على قلع الجزر ، والبصل والكراث ، والفجل ؟ وهل سمع بأسخف من هذا التقسيم ؟ وليت شعري ما هذا " الأنموذج " الذي لا هو لفظة عربية من اللغة التي بها نزل القرآن وخاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 296 ] ولا لفظة شرعية ، ثم صار يشرع بها أبو حنيفة الشرائع فيحرم ويحلل ، فعلى " الأنموذج " العفاء ، وصفع القفاء ، وعلى كل شريعة تشرع بالأنموذج .

ثم تحديد أبي يوسف ذلك بأقل ما يقع لا المكاييل ; وقد يتخذ الباعة مكاييل صغارا جدا ، وما عهدنا بالجزر ، ولا الفجل : يقعان في الكيل ، فمن أين خرج له تحديد هذه الشريعة بهذا الحد الفاسد - ونحمد الله تعالى على السلامة ؟ وليت شعري من أين وقع لهم جواز بيع هذه المغيبات دون الأرض ؟ ومنعوا من بيع الجنين دون أمه ، وكلا الأمرين سواء لا فرق بين شيء منهما ، وكلاهما غرر وبيع مجهول .

ثم أطرف من هذا كله : منعهم من بيع الصوف على ظهور الغنم ، وذراع محدودة من هذا الطرف من هذا الثوب من أوله إلى آخره ، أو ذراع محدود إلى طرفه من خشبة حاضرة ، وحلية هذا السيف دون جفنه ونصله ؟ ورأوا هذا غررا وعملا مشترطا يفسد البيع - وكذبوا في ذلك . ولم يروا الدرس ، والتصفية ، والسلخ غررا ، ولا عملا مشترطا يفسد البيع ؟ فهل لأصحاب هذه الأقوال المتخاذلة حظ من العلم ؟ ثم أجازوا بيع القصيل على القطع والثمرة التي لم يبد صلاحها على القطع .

وأجازوا بيع جذل نخلة على ظهر الأرض ; ولم يروا قطعه غررا ، ولا عملا مشترطا يفسد البيع ؟ وهل يشك ذو مسكة من عقل في أن إدخال الجلم إلى حاشية محدودة من ثوب وقطعه ، وقلع حلية على غمد سيف لا يتعذر على غلام مراهق : أسهل وأخف من درس ألف كر وتصفيتها ومن سلخ ناقة ؟ ولكن هذا مقدار نظرهم وفقههم .

وقال بعضهم : الصوف ينمى ولا يدرى أين يقع القطع منه ومن الثوب ؟ فقلنا : والجذل ينمى ولا يدرى أين يقع القطع منه ولا فرق .

فإن قالوا : قد صح عن ابن عباس المنع من بيع الصوف على ظهور الغنم ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ؟ [ ص: 297 ] قلنا : وقد صح عن ابن عمر ما أدركت الصفقة مجموعا حيا فمن البائع ، ولا يعرف له مخالف من الصحابة فخالفتموه ، فما الذي جعل أحدهما أولى من الآخر ؟ وقالوا : لو أن أرضا تكسيرها معلوم مائة ذراع في مثلها ، أو دارا كذلك : فباع صاحبها منها عشرة أذرع في مثلها مشاعا في جميعها لم يجز ذلك .

فلو باع منها عشرة أسهم من مائة سهم مشاعا في جميعها جاز ذلك - .

وهذا تخليط ناهيك به ، وتحريم شيء وإباحته بعينه ، وكلا الأمرين إنما هو بيع العشر مشاعا .

ولم يجيزوا بيع نصل السيف وحمائله ونصف حليته مشاعا ، وقالوا : هذا ضرر - فليت شعري أي ضرر في هذا ؟ وأما المالكيون فأجازوا بيع الصوف على ظهور الغنم ، ووفقوا في ذلك ، إلا أنهم قالوا : إن أخذ في جزازه وإلا فلا .

وأجازوا بيع لبن الغنم الكثيرة شهرين فأقل - .

وهذا قول ظاهر الفساد ، أنه بيع شيء لم يخلق ، وبيع غرر .

ومنعوا من بيع لبن شاة واحدة كله ، وقالوا : هذا غرر وقد تموت ؟ فقلنا : وقد تموت الكثيرة أو يموت بعضها .

ونسألهم عن بيع لبن شاتين كذلك ؟ فإن منعوا من ذلك سألناهم عن لبن ثلاث شياه ؟ ولا نزال نزيدهم واحدة فواحدة حتى يحدوا ما يحرمون مما يحللون ، ثم نسألهم عن الفرق ؟ وذلك ما لا سبيل إليه .

وأجازوا بيع بطون المقاثي ، والياسمين ، وجزات القصيل قبل أن يخلق الله تعالى ذلك كله ، ولم يروه غررا ، ورأوا بيع العبد الآبق ، والجمل الشارد والمال المغصوب : غررا ، فيا لهذه العجائب .

وأجازوا بيع لحم الشاة وهي حية دون جلدها .

وأجازوا استثناء أرطال يسيرة من لحمها للبائع الثلث فأقل .

ومنعوا من استثناء أكثر - فليت شعري من أي أعضائها تكون تلك الأرطال وهي مختلفة الصفات والقيم ؟ [ ص: 298 ] قالوا : فإن استثنى الفخذ ، أو الكبد ، أو البطن لم يجز .

فإن استثنى الرأس والسواقط ؟ قال : إن كان مسافرا جاز ، وإن كان غير مسافر لم يجز - فكانت هذه أعاجيب ، لا نعلم تقسيمها عن أحد قبله ، وأقوالا متناقضة لا يعضدها قرآن ، ولا سنة ، ولا قول متقدم ، ولا قياس .

وأجازوا بيع الجزر ، والبصل ، والفجل : المغيبة في الأرض ؟ قال أبو محمد : واحتج بعضهم علي في ذلك بقول الله تعالى : { يؤمنون بالغيب } فقلت : فأبح بهذه الآية بيع الجنين في بطن أمه دون أمه ; لأنه من الإيمان بالغيب - وهذا احتجاج نسأل الله السلامة من مثله في تحريف كلام الله تعالى عن مواضعه إلى ما ليس فيه منه شيء ؟ روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا تشتروا الصوف على ظهور الغنم ولا اللبن في ضروعها .

ومن طريق الحجاج بن المنهال نا ملازم بن عمرو نا زفر بن يزيد بن عبد الرحمن عن أبيه وكان من جلساء أبي هريرة قال : سألت أبا هريرة عن بيع اللبن في ضروع الغنم ؟ فقال لا خير فيه - وسألته عن الشاة بالشاتين إلى أجل ؟ فقال : لا إلا يدا بيد . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يكرهون أن يشترى اللبن في ضروع الشاة - وكرهه مجاهد ، وطاوس - وروي عن طاوس أنه أجازه بالكيل فقط .

وروي عن سعيد بن جبير إجازة بيع اللبن في الضروع ، والصوف على ظهور الغنم - وروي عن الحسن أنه أجاز بيع لبن الشاة جملة أشهر . ولم يجزه أبو حنيفة ، ولا الشافعي ، ولا أحمد ، ولا إسحاق ، ولا أبو سليمان - فهذان صاحبان لا يعرف لهما من الصحابة رضي الله عنهم مخالف أصلا ، وإبراهيم يذكر ذلك عمن أدرك ، وهما أكابر التابعين ، وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق آراءهم .

واحتجوا في هذا بجواز إجارة الظئر للرضاع ؟ [ ص: 299 ] فقلنا : أفي إجارة تكلمنا معكم أم في بيع ؟ والإجارة غير البيع ; لأننا نؤاجر الحرة للرضاع ولم نبتع منها لبنها أصلا .

ثم أغرب شيء احتجاجهم في هذا بما ذكرنا من إجارة الظئر ، وهم يحرمون بيع لبن الشاة الواحدة ، والبقرة الواحدة والناقة الواحدة ، وهذا أشبه بإجارة الظئر الواحدة ، وإنما يجيزون ذلك في الغنم الكثيرة - فاعجبوا لسخافة هذا القياس وشدة تناقضه ، إذ حرموا ما يشبه ما قاسوا على إباحته ، وأباحوا قياسا عليه ما لا يشبهه .

قال أبو محمد : فإن زاد الصوف ؟ فهما متداعيان ، والقول قول البائع مع يمينه إن كانت الغنم معروفة له أو في يده ، فإن لم تكن معروفة له وكانت في يد الآخر ، فالقول قول الآخر مع يمينه .

فإن كانت في أيديهما ، أو في غير أيديهما معا ، فحكمهما حكم المتداعيين في الشيء يكون بأيديهما ، أو بغير أيديهما على ما نذكر - إن شاء الله تعالى - في التداعي في الأقضية - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية