صفحة جزء
1428 - مسألة : وأما بيع الظاهر دون المغيب فيها فحلال ، إلا أن يمنع من شيء منه نص ، فجائز بيع الثمرة واستثناء نواها ، وبيع جلد النافجة دون المسك الذي فيها ، والجراب ، والظروف كلها دون ما فيها ، وقشر البيض ، واللوز ، والجوز ، والجلوز ، والفستق ، والبلوط ، والقسطل ، وكل قشر لا تحاشي شيئا دون ما تحتها ، وبيع الشمع دون العسل الذي فيه ، وبيع التبن دون الحب الذي فيه ، وجلد الحيوان المذبوح أو المنحور دون لحمه ، أو دون عضو مسمى منها ، وبيع الأرض دون ما فيها من بذر ، أو خضراوات مغيبة أو ظاهرة ، ودون الزرع الذي فيها ، ودون الشجر الذي فيها ، والحيوان اللبون دون لبنه الذي اجتمع في ضروعه ، ولا يحل استثناء لبن لم يحدث بعد ولا اجتمع في ضروعه .

ويجوز بيع الحامل دون حملها سواء نفخ فيه الروح أو لم ينفخ . ولا يحل بيع حيوان حي واستثناء عضو منه أصلا .

ويجوز بيع عصارة الزيتون ، والسمسم ، دون الدهن قبل عصره .

ولا يحل بيع جلد حيوان حي دون لحمه ، ولا دون عضو مسمى منه أصلا . [ ص: 300 ] ولا يجوز بيع مخيض لبن قبل أن يمخض ، ولا الميش قبل أن يخرج .

برهان كل ما ذكرنا - : قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } .

وقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } .

فكل بيع لم يأت في القرآن ، ولا في السنة تحريمه باسمه مفصلا فهو حلال بنص كلام الله تعالى - وكل ما ذكرنا فمال للبائع وملك له يبيع منه ما شاء فهو من ماله ويمسك منه ما شاء فهو من ماله ، فما ظهر من ماله ورئي ، أو وصفه من رآه : فبيعه جائز - ويمسك ما لم يره هو ولا غيره ، لأنه لا يحل بيع المجهول - كما قدمنا - أو لأنه لا يريد بيعه فذلك له ، وإن كان مرئيا حاضرا أو موصوفا غائبا .

وأما قولنا : لا يحل استثناء لبن لم يحدث بعد ، فلأنه إنما يحدث إذا أحدثه الله تعالى في مال غيره فلا يحل له أن يشترط من مال غيره شيئا إلا أن يكون الثمن فيما باع فقط ; لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل - وإنما منعنا من بيع حيوان إلا عضوا مسمى منه .

وأجزنا بيع الحامل دون حملها ، فإن ذلك الحيوان لا يخلو من أن يكون من بني آدم ، أو من سائر الحيوان ، فإن كان من سائر الحيوان فاستثناء العضو المعين منه : أكل مال بالباطل ; لأنه لا ينتفع به إلا بذبحه ، ففي هذا البيع اشتراط ذبح ذلك الحيوان على بائع العضو منه ، أو على بائعه إلا عضوا منه ، وهذا شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، وإن كان ذلك الحيوان من بني آدم فكذلك أيضا ، وهو إضاعة للمال جملة ، وهذا مما يوافقنا [ عليه ] الحاضرون كلهم من خصومنا .

وأما الحمل ، والصوف ، والوبر ، والشعر ، وقرن الإبل ، وكل ما يزايل الحيوان بغير مثلة ولا تعذيب ، فكما قدمنا أنه مال لبائعه يبيع من ماله ما شاء ويمسك ما شاء إلا أن يكون في ذلك إضاعة مال ، أو مثلة بحيوان أو إضرار به فلا يحل لصحة النهي عن المثلة ، وعن تعذيب الحيوان - وبالله تعالى التوفيق .

وأما منعنا من بيع المخيض دون السمن قبل المخض ، ومن بيع الميش دون الجبن قبل عصره ، فلأنه لا يرى ، ولا يتميز ، ولا يعرف مقداره ، فقد يخرج المخض والعصير قليلا ، وقد يخرج كثيرا - وهذا بخلاف بيع عصارة الزيتون ، والسمسم ، دون الدهن قبل العصر ; لأن الزيتون ، والسمسم ، واللوز ، والجوز كل ذلك مرئي معروف ، [ ص: 301 ] وإنما الخافي فهو الدهن فقط ، ويحل بيعه قبل ظهوره - ويجوز استثناؤه ; لأنه إبقاء له في ملك مالكه - وهذا مباح حسن - وبالله تعالى التوفيق .

وقد جاءت في هذا آثار - : روينا من طريق سعيد بن منصور نا حبان بن علي نا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر } .

ومن طريق ابن أبي شيبة عن ابن إدريس - هو عبد الله - عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر } .

وقد أباحه بعض السلف - كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عباد بن العوام عن هشام - هو ابن حسان - عن ابن سيرين عن شريح أنه كان لا يرى بأسا ببيع الغرر إذا كان علمهما فيه سواء .

وكما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية - هو إسماعيل بن إبراهيم - عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين قال : لا أعلم ببيع الغرر بأسا . ومن طريق سعيد بن منصور نا حبان بن علي نا المغيرة عن إبراهيم قال : من الغرر ما يجوز ومنه ما لا يجوز ، فأما ما يجوز فشراء السلعة المريضة ، وأما ما لا يجوز فشراء السمك في الماء .

وقد روينا إجازة بيع السمك في الماء قبل أن يتصيد عن عمر بن عبد العزيز وبه يقول ابن أبي ليلى .

قال أبو محمد : لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ذكر إبراهيم ليس شيء منه غررا ، أما المريضة فكل الناس يمرض ويموت ، وقد يموت الصحيح فجأة ، ويبرأ المريض المدنف ، فلا غرر ههنا أصلا .

وأما السمك في الماء فإن كان قد ملك قبل فليس بيعه غررا بل هو بيع صحيح ، وقد وافقنا الحاضرون من خصومنا على أن بركة في دار لإنسان صغيرة صاد صاحبها سمكة ورماها فيها حية ، فإن بيعها فيها جائز ، وأما ما لم يملك من السمك بعد فلم يجز بيعه ; لأنه غرر ، حتى ولو كانت السمكة مقدورا عليها بالضمان ما حل بيعها ، وإنما حرم لأنه بيع ما ليس له وهذا أكل مال بالباطل . [ ص: 302 ] وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة نا قرة بن سليمان عن محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن عمر فيمن باع أمة واستثنى ما في بطنها ؟ قال : له ثنياه - وقد صح هذا أيضا عن ابن عمر في العتق .

وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال : من باع حبلى ، أو أعتقها واستثنى ما في بطنها ؟ فله ثنياه فيما قد استبان خلقه ، فإن لم يستبن خلقه فلا شيء له .

قال علي : سواء استبان خلقه ، أو لم يستبن ؟ له ثنياه لما قد ذكرناه من أنه ماله يستثنيه إن شاء فلا يبيعه ، أو يدخل في صفقة أمه ; لأنه بعضها ما لم ينفخ فيه الروح ، ومن جملتها بعد نفخ الروح فيه ، ولكن من استثنى حمل الحامل الذي باع كما ذكرنا فما ولدت إن كانت من بني آدم إلى تسعة أشهر غير ساعة ، فهو له إلا أن يوقن أن حملها به كان بعد البيع فلا شيء له ; لأنه حدث في مال غيره وينظر في سائر الحيوان كذلك ، فما ولدت لأقصى ما يلد له ذلك الحيوان فهو للذي استثناه ، وما ولدت لأكثر فليس له لما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن يونس عن الحسن البصري : أنه كان يجيز ثنيا الحمل في البيع ، ولا يجيزه في العتق - وهو قول أبي سليمان ، وأبي ثور في البيع والعتق ، وهو كما أوردنا قول صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ، وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق تقليدهم .

وروينا : من طريق ابن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا عبد الرحمن بن مهدي نا عباد بن حبيب بن المهلب - ثقة مأمون - عن عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر قال : أعتق ابن عمر أمة له واستثنى ما في بطنها - وبه يقول عبيد الله بن عمر .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن سعيد - هو القطان - عن هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين فيمن أعتق أمته واستثنى ما في بطنها فقال : له - ثنياه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن يمان عن سفيان - هو الثوري - عن جابر ، ومنصور بن المعتمر ، وابن جريج ، قال جابر : عن الشعبي ، وقال منصور : عن [ ص: 303 ] إبراهيم ، وقال ابن جريج عن عطاء - ثم اتفق الشعبي وإبراهيم النخعي ، وعطاء ، قالوا كلهم : إذا أعتقها واستثنى ما في بطنها : فله ثنياه .

وبه إلى ابن أبي شيب نا حرمي بن عمارة بن أبي حفصة عن شعبة قال : سألت الحكم ، وحماد بن أبي سليمان عن ذلك - يعني من أعتق أمته واستثنى ما في بطنها - فقالا جميعا : ذلك له .

نا حمام نا عبد الله بن علي الباجي نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا أسباط نا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال : من كاتب أمته واستثنى ما في بطنها فلا بأس بذلك .

وبه يقول أبو ثور ، وأحمد بن حنبل في العتق ، والبيع .

وبه يقول أيضا إسحاق ، وأبو سليمان .

فهؤلاء جمهور التابعين - : الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، والشعبي ، وعطاء ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، بعضهم في البيع ، وبعضهم في العتق ، وبعضهم في الأمرين معا - وما نعلم الآن مخالفا لهم إلا الزهري ; وقال بقولنا هذا من الفقهاء كما ذكرنا - : عبيد الله بن عمر ، وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وأبو سليمان ، وغيرهم ، وليت شعري أين هم عن حجتهم بالمسلمين عند شروطهم ؟ وأما استثناء الجلد ، والسواقط : فروينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي نا أصبغ عن ابن وهب عن الليث بن سعد عن عمارة بن غزية عن عروة بن الزبير { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر مهاجرين ، إلى المدينة اشتريا من راعي غنم شاة وشرطا له إهابها } .

قال أبو محمد : هذا باطل - عبد الملك هالك ، وعمارة ضعيف - ثم هو مرسل ، ثم لو صح لكان منسوخا ، لأنه كما ترى قبل الهجرة ، وقد جاء النهي عن بيع الغرر بعد ذلك ، وبيع لحم شاة حية غرر ; لأنه لا يدري أهزيل أم سمين .

أو ذو عاهة أم سالم ، ثم من أين لهم أن ذلك إنما جاز لأجل السفر ، فإن هذا ظن لا يصح .

فإن قالوا : كان في سفر ؟ قلنا : وكان في طريق المدينة لا تجيزوه في غيره . [ ص: 304 ] ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن زيد بن ثابت أن رجلا باع بقرة واشترط رأسها ثم بدا له فأمسكها فقضى له زيد بشروى رأسها ، قال سفيان : نحن نقول : البيع فاسد .

ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن نسير بن ذعلوق عن عمرو بن راشد الأشجعي أن رجلا باع بختية واشترط ثنياها فبرئت فرغب فيها فاختصما إلى عمر بن الخطاب ؟ فقال : اذهبا إلى علي ، فقال علي : اذهب بها إلى السوق فإذا بلغت أفضل ثمنها ، فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها .

وريناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن نسير بن ذعلوق عن عمرو بن راشد أن رجلا باع بعيرا مريضا واستثنى جلده فبرأ البعير ؟ فقال علي : يقوم البعير في السوق ، ثم يكون له شراؤه .

ومن طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني أصبغ عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش اشترى رجل رأس جمل ونقد ثمنه واشترى آخر بقيته ونقد ثمنه لينحراه فعاش الجمل وصلح ؟ فقال مشتري الجمل لمشتري الرأس : إنما لك ثمن الرأس ؟ فاختصما إلى شريح ، فقال شريح : هو شريكك فيه بحصة ما نقد وبحكم شريح هذا يأخذ عثمان البتي ، وأحمد ، وإسحاق .

ولم يجز مالك استثناء الجلد والرأس إلا في السفر ، لا في الحضر ، فخالف كل من ذكرنا - ولم يجزه أبو حنيفة ، ولا الشافعي أصلا .

وأجاز الأوزاعي استثناء اليد أو الرأس أو الجلد عند الذبح خاصة ، وكرهه إن تأخر الذبح - والحنفيون - والمالكيون يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم - وخالفوا ههنا : زيد بن ثابت ، وعمر بن الخطاب ، ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف . وأما المالكيون : فإنهم رأوا فيمن باع بعيرا واستثنى جلده ، فاستحياه الذي اشتراه : أن له شروى جلده أو قيمته - هذا في السفر خاصة ، وهذا خلاف حكم عمر ، وعلي ، وزيد ; لأنهم حكموا بذلك مطلقا ، لم يخصوا سفرا من حضر ; [ ص: 305 ] وروينا مثل قولنا عن بعض السلف - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن أبي حمزة قلت لإبراهيم : أبيع الشاة وأستثني بعضها ؟ قال : لا ، ولكن قل : أبيعك نصفها - قال ابن أبي شيبة : نا عبد الصمد بن أبي الجارود سألت جابر بن زيد عمن باع بيعا واستثنى بعضه ؟ قال : لا يصح ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية