صفحة جزء
1469 - مسألة : ولا يحل لأحد تلقي الجلب - : سواء خرج لذلك أو كان ساكنا على طريق الجلاب ، وسواء بعد موضع تلقيه أم قرب - ولو أنه على السوق على ذراع فصاعدا ، لا لأضحية ، ولا لقوت ، ولا لغير ذلك ، أضر ذلك بالناس أو لم يضر .

فمن تلقى جلبا - أي شيء كان - فاشتراه فإن الجالب بالخيار إذا دخل السوق متى ما دخله ولو بعد أعوام في إمضاء البيع ، أو رده ، فإن رده حكم فيه بالحكم في البيع برد العيب لا في المأخوذ بغير حق ، ولا يكون رضا الجالب إلا بأن يلفظ بالرضا ، لا بأن يسكت - علم أو لم يعلم - فإن مات المشتري فالخيار للبائع باق ، فإن مات البائع قبل أن يرد أو يمضي فالبيع تام .

برهان ذلك - : ما روينا من طريق مسلم أنا ابن نمير - هو محمد بن عبد الله بن نمير - أنا أبي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى السلع حتى تبلغ الأسواق } .

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا عبد الله بن المبارك عن التيمي - هو سليمان - عن أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن تلقي البيوع } . [ ص: 375 ]

وروينا نحوه مسندا صحيحا من طريق ابن عباس .

ومن طريق علي أيضا .

ومن طريق مسلم حدثنا ابن أبي عمر : أنا هشام بن سليمان عن ابن جريج أخبرني هشام القردوسي - هو ابن حسان - عن ابن سيرين قال : سمعت أبا هريرة يقول " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار } .

ومن طريق أبي داود أنا الربيع بن نافع أبي توبة حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة : { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن تلقي الجلب فإن تلقاه متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق } .

قال أبو محمد : هذا نقل تواتر ، رواه خمسة من الصحابة ، ورواه عنهم الناس - وبهذا قال السلف - :

روينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة نهى عن تلقي الجلب فمن تلقى جلبا فاشترى منه فالبائع بالخيار إذا وقع السوق - وهذا نص قولنا ، ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف ، لا سيما هذه الطريق التي كأنها الشمس . [ ص: 376 ]

ومن طريق الحجاج بن المنهال أنا أبو هلال أنا محمد بن سيرين قال : كان يكره أن يتلقى الجلب خارج البلد فإذا تلقي الجلب خارجا من البلد فرب الجلب بالخيار إذا قدم إن شاء باع وإن شاء أمسك ، وهذا أيضا نص قولنا .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن المبارك عن أبي جعفر الرازي عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال : لا تلقوا البيوع بأفواه السكك .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو داود الطيالسي عن إياس بن دغفل : قرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز - : لا تلقوا الركبان .

وممن نهى عن تلقي الركبان الجالبين جملة : الليث ، والحسن بن حي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهم .

وقال الشافعي ، وأبو سليمان : بإيجاب الخيار للبائع إذا قدم السوق - ونهى عنه الأوزاعي إن كان بالناس إليه حاجة .

وأباحه أبو حنيفة جملة ، إلا أنه كرهه إن أضر ذلك بأهل البلد دون أن يحظره ، وأجازه بكل حال - وهذا خلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وخلاف صاحبين لا يعرف لهما من الصحابة مخالف ، وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق تقليدهم .

وما نعلم لأبي حنيفة في هذا القول أحدا قاله قبله .

وقال مالك : لا يجوز ذلك للتجارة خاصة ، ويؤدب من فعل ذلك في نواحي المصر فقط - ولا بأس بالتلقي لابتياع القوت من الطعام والأضحية .

وهذه تقاسيم مخالفة للسنة الواردة في ذلك ، ولا نعلمها عن أحد قبل مالك أصلا .

قال أبو محمد : وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيار للبائع بيان بصحة البيع إلا أن للبائع خيارا في رده أو إمضائه ، والخيار لا يكون ألبتة ولا يجوز إلا لمن جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، ومن جعله يورث فقد تعدى ما حد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس الخيار مالا يورث ، ولو ورث لكان لأهل الوصية منه نصيبهم . [ ص: 377 ]

قال سفيان الثوري : تلقي السلع منهي عنه من تلقاها بحيث لا تقصر الصلاة إليه ، فإن تلقاها بحيث تقصر الصلاة فصاعدا فلا بأس بذلك .

قال علي : فهذا تقسيم فاسد ; لأنه دعوى بلا برهان .

وقال الليث : ينزع من المشتري ويرد إلى البائع ، فإن مات نزعت من المشتري وبيعت في السوق ودفع ثمنها إلى البائع .

قال أبو محمد : احتج من أجاز تلقي الركبان بما رويناه من طريق البخاري عن موسى بن إسماعيل عن جويرية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : { كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام } .

ومن طريق البخاري أنا إبراهيم بن المنذر أنا أبو ضمرة - هو أنس بن عياض - أنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر { أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث عليه من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام } .

ومن طريق ابن أيمن أنا هشام أنا أبو صالح حدثني الليث بن سعد حدثني ابن غنج عن نافع عن ابن عمر أنه حدثه : { أنهم كانوا يشترون الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الركبان فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانهم الذي ابتاعوه فيه حتى ينقلوه إلى سوق الطعام } .

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لستة وجوه - :

أحدها - أن المحتجين بهذا هم القائلون بأن الصاحب إذا روى خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه أو حمله على تفسير ما فهو أعلم بما فسر ، وقوله حجة في رد الخبر ، وابن عمر هو راوي هذا الخبر ، وقد صح عنه الفتيا بترك التلقي كما ورد آنفا ، والأخذ بما روي من النهي عن التلقي .

وثانيها - أن هذين خبران هم أول مخالف لنا فيهما ، فلا كراهة عندهم في بيع [ ص: 378 ] الطعام حيث ابتاعه ، ولا أسوأ طريقة ممن يحتج بحجة هو أول مبطل لها ، ومخالف لموجبها .

والثالث - أنهما موافقان لقولنا ; لأن معنى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يبلغوا به سوق الطعام هو نهي للبائع أن يبيعه وللمشتري أن يبتاعه حتى يبلغ به السوق ، ومشهور غير منكور في لغة العرب " بعت بمعنى ابتعت " ويخرج خبر موسى بن عقبة على هذا أيضا ، وأنه صلى الله عليه وسلم نهى البائعين أن يبيعوه في مكانهم الذي ابتاعه المشترون منهم - وهذا معنى صحيح لا داخلة فيه .

والرابع - أنه حتى لو كان فيهما نص على جواز تلقي الركبان وليس ذلك فيهما لكان النهي ناسخا ولا بد بيقين لا شك فيه ; لأن التلقي كان مباحا بلا شك قبل النهي ، فكان هذان الخبران موافقين للحال المتقدمة بلا شك ، وباليقين يدري كل ذي فهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن التلقي فقد بطلت الإباحة بلا شك ، فقد بطل حكم هذين الخبرين ونسخ لو صح فيهما إباحة التلقي ، فكيف وليس ذلك فيهما ؟ وهذا برهان قاطع لا محيد عنه ، ومن ادعى عود حكم قد نسخ فقد كذب ، وقفا ما لا علم له به ، وادعى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يبين كما أمر ، وأن الدين مختلط لا يدري أحد حرامه من حلاله من واجبه ، وحاش لله من هذا .

وخامسها - أن يضم هذان الخبران إلى أخبار النهي ، فيكون البائعون تخيروا إمضاء البيع فأمر المبتاعون بنقله حينئذ إلى السوق ، فتتفق الأخبار كلها ولا تحمل على التضاد .

وسادسها - أننا روينا هذا الخبر ببيان صحيح رافع للإشكال من طريق من هو أحفظ وأضبط من جويرية - كما روينا من طريق البخاري أنا مسدد أنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله - هو ابن عمر - حدثه نافع عن عبد الله بن عمر قال : { كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق ويبيعونه في مكانه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه } . [ ص: 379 ]

ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير قال ابن أبي شيبة : أنا علي بن مسهر ، وقال أبو بكر : أنا أبي ، ثم اتفق علي بن مسهر ، وعبد الله بن نمير ، كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : { كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه } .

فهذا يبين أن البيع كان في السوق إلا أنه في أعلاه ، وفي الجزاف خاصة فنهي المشترون عن ذلك - واحتج أيضا بعضهم بشيء طريف جدا ، وهو أنه ذكر رواية عن هشام القردوسي عن ابن سيرين عن أبي هريرة ، وفيه : فمن اشتراه فهو بالخيار ، وقال : إن هذا اللفظ يوجب الخيار للمشتري أيضا .

قال أبو محمد : وهذا مما جروا به على عادتهم الخبيثة في الإيهام والتمويه بأنهم يحتجون - وهم لا يأتون بشيء - لأن هذا الذي قاله هذا القائل باطل ، ولو جاء بهذا اللفظ لكان مجملا تفسره رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة لهذا الخبر نفسه ، وأن الخيار إنما هو للبائع ، وهكذا قال أبو هريرة ، وابن سيرين في فتياهما .

ثم هبك لو صح خيار آخر للمشتري فأي منفعة لهم في هذا ؟ وهم لا يقولون بهذا ، فلو كان ههنا حياء ، أو ورع لردع عن التمويه بمثل هذا مما هو كله عليهم .

قال أبو محمد : وقال بعض الناس : إنما أمر عليه السلام بهذا حياطة للجلاب دون أهل الحضر -

قال علي : وقال بعضهم : بل حياطة على أهل الحضر دون الجلاب .

قال أبو محمد : وكلا القولين فاسد ، وما حياطة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحضر إلا كحياطته للجلاب سواء سواء ، قال الله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } .

فهو عليه السلام ذو رأفة ورحمة بالمؤمنين كما وصفه ربه تعالى ، ولم يفرق بين المؤمنين من أهل الحضر والمؤمنين من الجالبين ، وكلهم مؤمنون فكلهم في رأفته ورحمته سواء ، ولكنها الشرائع يوحيها إليه باعثه عز وجل فيؤديها كما أمر ، لا يبدلها من تلقاء نفسه ، ولا ينطق عن الهوى ، ولا علة لشيء من أحكام الشريعة إلا ما قاله الله عز [ ص: 380 ] وجل : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } و { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ، { لا معقب لحكمه } ، وما عدا هذا فباطل وإفك مفترى .

فإن قال قائل : فما يقولون : في خبر ابن عمر المذكور - وهو صحيح - وأنتم المنتسبون إلى القول بالسنن ؟

قلنا : نعم ، ولله الحمد كثيرا ، وسنذكر الحكم الذي في هذا الخبر من نقل الطعام عن موضع ابتياعه وأنه في الجزاف خاصة بعد هذا - إن شاء الله تعالى - من خبر آخر .

وأما هذا الخبر الذي ذكرنا ههنا فهو كما ذكرنا ولا بد - : إما أمر للبائعين وهم الركبان الجالبون له ، بأن نهوا عن ذلك البيع هنالك ، ونهي المشترون عن التلقي - وإما أنه مفسوخ بالنهي عن التلقي أو في الجزاف خاصة ، كما في خبر عبيد الله ، لا بد من أحد هذه الأمور لما ذكرنا ، ولا يحتمل غير هذين الوجهين أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية