صفحة جزء
[ ص: 432 ] مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها ، متفاضلا ومتماثلا وجزافا ، وزنا وكيلا كيفما شئت إذا كان يدا بيد .

ولا يجوز في ذلك التأخير طرفة عين فأكثر ، لا في بيع ولا في سلم ، وهذا مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا وهو متفق عليه ، إلا مالكا فإنه لم يجز بيع الشعير بالقمح إلا متماثلا كيلا بكيل - وأجازه أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، كما قلنا .

برهان صحة قولنا - : ما روينا من طريق مسلم أنا أبو كريب أنا ابن فضيل - هو محمد - عن أبيه عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، إلا ما اختلفت ألوانه } .

ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع أنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، سواء بسواء فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } .

وقد ذكرنا قبل هذه بمسألة نصه عليه السلام على جواز بيع الشعير بالبر متفاضلا ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن بزيع أنا يزيد أنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عبيد - هو ابن هرمز - قالا جميعا : إن عبادة بن الصامت حدثهم قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، إلا مثلا بمثل يدا بيد ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد كيف شئنا زاد أحدهما في حديثه : الملح بالملح ، ولم يقله الآخر } .

[ ص: 433 ] فهذا أثر متواتر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة ، وعبادة بن الصامت - ورواه عن أبي هريرة : أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وأبو حازم .

ورواه عن عبادة بن الصامت : أبو الأشعث الصنعاني ، وعبد الله بن عبيد . ورواه عن أبي الأشعث : أبو قلابة ، ومسلم بن يسار .

ورواه عن مسلم بن يسار أبو الخليل ، وابن سيرين - . ورواه عن هؤلاء : الناس .

واحتج المالكيون بما روينا من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث : أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن { معمر بن عبد الله : أنه أرسل غلامه بصاع قمح وقال : بعه ثم اشتر به شعيرا ، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع ، فلما جاء قال له معمر : لم فعلت ذلك ؟ انطلق فرده ; ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل } قيل : فإنه ليس مثله ، قال : إني أخاف أن يضارع .

وبما رويناه من طريق مالك عن نافع عن سليمان بن يسار قال : قال عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث لغلامه : خذ من حنطة أهلك طعاما فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير قال : أرسل عمر بن الخطاب غلاما له بصاع من بر يشتري له به صاعا من شعير ، وزجره إن زادوه أن يزداد .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا شبابة عن ليث عن نافع عن سليمان بن يسار عن سعد بن أبي وقاص مثل هذا .

ومن طريق مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد عن معيقيب مثل هذا أيضا - وهو [ ص: 434 ] قول أبي عبد الرحمن السلمي صح عنه ذلك ، وروي - ولم يصح - عن القاسم ، وسالم ، وسعيد بن المسيب .

وصح عن ربيعة ، وأبي الزناد ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان والليث بن سعد ، قالوا : فهؤلاء ، عمر ، وسعد ، ومعيقيب ، وعبد الرحمن بن الأسود ، ومعمر بن عبد الله : خمسة من الصحابة رضي الله عنهم .

قال علي : وجسر بعضهم فقال : لا يعرف لهم مخالف من الصحابة - .

وجسر آخر منهم فادعى إجماع السلف في ذلك ؟

قال علي : ما لهم حجة غير هذا أصلا .

فأما حديث معمر فهو حجة عليهم ; لأنهم يسمون التمر طعاما ويبيحون فيه التفاضل بالبر ، فقد خالفوا الحديث على تأويلهم بإقرارهم ، ولا حجة لهم أصلا فيه ; لأنه ليس فيه إلا الطعام بالطعام مثلا بمثل ، وهذا مما لا نخالفهم فيه وفي جوازه ، وليس فيه : أن الطعام لا يجوز بالطعام إلا مثلا بمثل ، بل هذا مسكوت عنه جملة في خبر معمر ، ومنصوص على جوازه في خبر أبي هريرة ، وعبادة : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل تعلقهم به جملة ، وعاد حجة عليهم .

وأما قول معمر من رأيه فلا متعلق لهم فيه ; لأنه قد صرح بأن الشعير ليس مثل القمح ، لكن تخوف أن يضارعه فتركه احتياطا لا إيجابا .

وأما عن عمر فمنقطع ، وكذلك عن معيقيب .

وكم قصة خالفوا فيها عمر ، وسعدا ، وأكثر من هذا العدد من الصحابة كالمسح على العمامة ، وعلى الجوربين ، والقود من الضربة ، واللطمة - وغير ذلك في كثير لا يعرف لهم فيه مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، نعم ، ومعهم السنن الثابتة . وقد خالف من ذكرنا طائفة من الصحابة رضي الله عنهم - :

كما روينا من طريق ابن أبي شيبة أنا يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث الصنعاني : أن عبادة بن الصامت قال : لا بأس ببيع الحنطة بالشعير - والشعير أكثر منه - يدا بيد ، ولا يصلح نسيئة - فهذا عبادة أسنده وأفتى به .

[ ص: 435 ] ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن عمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر : كان لا يرى بأسا فيما يكال واحدا باثنين ، يدا بيد إذا اختلفت ألوانه .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن فضيل عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : إذا اختلف النوعان فلا بأس بالفضل يدا بيد .

فهذه أسانيد أصح من أسانيدهم بخلاف قولهم - وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس بلا شك : أنه صح عنهما أنه لا ربا في التفاضل أصلا ، وإنما الربا في النسيئة .

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي : أنه لم ير بأسا بجريبين من شعير بجريب من بر .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا جرير عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال المغيرة : سألته وإبراهيم عن أربعة أجربة من شعير بجريبين من حنطة ؟ فقالا جميعا : لا بأس به .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري : أنه كان لا يرى بأسا ببيع البر بالشعير يدا بيد ، أحدهما أكثر من الآخر .

ومن طريق ابن أبي شيبة أنا الفضل بن دكين عن أنيس بن خالد التميمي قال : سألت عطاء عن الشعير بالحنطة اثنين بواحد يدا بيد ؟ فقال لا بأس به - فهؤلاء خمسة من الصحابة رضي الله عنهم صح عنهم جواز التفاضل في البر بالشعير ، وطائفة من التابعين .

وهو قول سفيان ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي سليمان .

وإذا اختلف الناس فالمردود إليه هو القرآن ، والسنة - وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التفاضل في البر ، والشعير ، كما ذكرنا ، فلا قول لأحد معه .

والعجب من مالك إذ يجعل ههنا وفي الزكاة : البر والشعير والسلت صنفا واحدا ثم لا يجيز لمن يتقوت البر إخراج الشعير أو السلت في زكاة الفطر ، وقول : أن يخرج كل أحد مما يأكل - وهذا تناقض فاحش . وعجب آخر : وهو أنه يجمع بين الذهب ، والفضة في الزكاة ، ويرى إخراج [ ص: 436 ] أحدهما عن الآخر في الزكاة المفروضة - ويجيز ههنا أن يباع الذهب بالفضة متفاضلين - وهذا تناقض لا خفاء به .

وما علم قط أحد ، لا في شريعة ، ولا في لغة ، ولا في طبيعة : أن الشعير بر ، ولا أن البر شعير ، بل كل ذلك يشهد أنهما صنفان مختلفان كاختلاف التمر ، والزبيب ، والتين .

ولا يختلفون في أن من حلف لا يأكل برا فأكل شعيرا - أو لا يأكل شعيرا فأكل برا - أو أن لا يشتري برا فاشترى شعيرا - أو أن لا يشتري شعيرا فاشترى برا : فإنه لا يحنث .

فهذه تناقضات فاحشة ، لا وجه لها أصلا ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية