صفحة جزء
1557 - مسألة : ولا يجوز البيع بالبراءة من كل عيب ، ولا على أن لا يقوم علي بعيب - والبيع هكذا فاسد مفسوخ أبدا ، وذهب أبو حنيفة إلى جواز البيع بالبراءة ، ولم ير للمشتري القيام بعيب أصلا - علمه البائع أو لم يعلمه .

وذهب سفيان ، والحسن بن حي ، وأبو سليمان : إلى أنه لا يبرأ بشيء من ذلك من العيوب - علمه البائع أو لم يعلمه .

وذهب الشافعي إلى أنه لا يبرأ بذلك من شيء من العيوب إلا في الحيوان خاصة فإنه يبرأ به مما لم يعلم من عيوب الحيوان المبيع ، ولا يبرأ مما علمه من عيوبه فكتمه .

ولمالك ثلاثة أقوال - : أحدها - وهو الذي ذكرنا أنه المجتمع عليه عندهم ، وهو مثل قول الشافعي حرفا حرفا ; وهو قوله في الموطأ .

والثاني - أنه لا يبرأ بذلك إلا في الرقيق خاصة ، فيبرأ مما لم يعلم ، ولا يبرأ مما علم فكتم ، وإنما في سائر الحيوان وغير الحيوان ، فلا يبرأ به من عيب أصلا .

[ ص: 540 ] والثالث - وهو الذي رجع إليه ، وهو أنه لا ينتفع بالبراءة إلا في ثلاثة أشياء فقط -

وهو بيع السلطان للمغنم ، أو على مفلس .

والثاني : العيب الخفيف خاصة في الرقيق خاصة لكل أحد .

والثالث : فيما يصيب الرقيق في عهدة الثلاث خاصة .

وذهب بعض المتقدمين ، منهم : عطاء ، وشريح ، إلى أنه لا يبرأ أحد وإن باع بالبراءة ، إلا من عيب بينه ووضع يده عليه .

فأما القول بوضع اليد فرويناه عن شريح ، وصح عن عطاء .

وروينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن أبي عثمان النهدي قال : ما رأيتهم يجيزون من الداء إلا ما بينت ووضعت يدك عليه .

قال أبو محمد : ولو وجد الحنفيون ، والمالكيون مثل هذا لطاروا به كل مطار ; لأن أبا عثمان أدرك جميع الصحابة - أولهم عن آخرهم - وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يلقه .

فلو وجدوا مثل هذا فيما يعتقدونه لقالوا : إنما ذكر ذلك عن الصحابة وهذا إجماع .

قال علي : وأما نحن فلا نقطع بالظنون ، ولا ندري لوضع اليد معنى ، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عن غيره - وبالله - تعالى - التوفيق .

وأما قول الشافعي : فما نعلم له حجة إلا أنه قلد ما روينا عن عثمان من طريق مالك عن ابن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله قال : إن أباه باع غلاما له بالبراءة فخاصمه المشتري إلى عثمان وقال : باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي ؟ فقال ابن عمر : بعته بالبراءة ، فقضى عثمان على ابن عمر بأن يحلف لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه ، فأبى ابن عمر من أن يحلف وارتجع العبد .

قال أبو محمد : وهذا عجب جدا إذ قلد عثمان ولم يقلد ابن عمر جواز البيع بالبراءة في الرقيق ، والشافعي أشد الناس إنكارا للتقليد .

ثم عجب آخر كيف قلد عثمان فيما لم يقله عثمان قط ، ولا صح عنه ، ولم يقلده في هذا الخبر نفسه في قضائه على ابن عمر بالنكول وهو صحيح عنه ؟ إن هذا هو عين العجب .

[ ص: 541 ] واحتج لترجيحه رأي عثمان بأن الحيوان لا يكاد يخلو من عيب باطن ، وأنه يتغذى بالصحة والسقم ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ ومن أين وجب بهذا أن ينتفع بالبراءة فيه مما لم يعلمه من العيوب ولا ينفعه مما علم فكتم ؟ إن هذا لعجب ؟ فوجب رفض هذا القول لتعريه من الدلائل .

وأيضا : فإن عثمان رضي الله عنه لم يقل : إن الحكم بما حكم به إنما هو في الحيوان دون ما سواه ، فمن أين خرج له تخصيص الحيوان بذلك ؟ فإن قالوا : إنما حكم بذلك في عبد ؟ قلنا : فلا تتعدوا بذلك العبيد ، أو الرقيق .

فإن قالوا : قسنا الحيوان على العبد ؟ قلنا : ولم لم تقيسوا جميع المبيعات على العبد ؟ فحصلوا على خبال القياس ، وعلى مخالفة عثمان ، وابن عمر ، فكيف وقد روينا هذا الخبر من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه : أنه باع سلعة كانت له بالبراءة ، ثم ذكر الخبر بتمامه ، وقضى عثمان عليه باليمين : أنه ما باعه وبه داء يعلمه فكره ابن عمر اليمين وارتجع السلعة .

فهذا عموم لكل مبيع وإسناده متصل سالم عن أبيه ، وما نعلم لهم سلفا في تفريقهم هذا من الصحابة أصلا .

وأما أقوال مالك : فشديدة الاضطراب - : أول ذلك أنه حكى عن أحدها - وهو الموافق لقول الشافعي - أنه الأمر المجتمع عليه عندهم ، وهذا اللفظ عند مقلديه من الحجج التي لا يجوز خلافها ، وفي هذا عجبان عجيبان - : .

أحدهما - أنه روي عن عثمان ، وابن عمر خلاف هذا الأمر المجتمع عليه ، وما علمنا إجماعا يخرج منه عثمان ، وابن عمر .

والثاني - أنه رجع مالك نفسه عن هذا القول الذي ذكره أنه المجتمع عليه عندهم ، فلئن كان الأمر المجتمع عليه عندهم بالمدينة حجة لا يجوز خلافها ، فكيف استجاز مالك أن يخالف المجتمع عليه بالمدينة ، وهو الحق ؟ فلقد خالف الحق وتركه بعد [ ص: 542 ] أن علمه ، وإن كان الأمر المجتمع عليه عندهم بالمدينة ليس حجة ، ولا يلزم اتباعه ، فما بالهم يغرون الضعفاء به ، ويحتجون به في رد السنن ، أما هذا عجب ؟ فإن قالوا : لم يرجع مالك عنه إلا لخلاف وجده هنالك ؟ فقلنا : فقد جاز الوهم عليه في دعوى الإجماع ، ووجد الخلاف بعد ذلك ، فلا تنكروا مثل هذا في سائر ما ذكر فيه أنه الأمر المجتمع عليه ، ولا تنكروا وجود الخلاف فيه ، وهذا ما لا مخلص لهم منه ، إلا أن هذا القول قد بينا في إبطالنا قول الشافعي بطلانه - وبالله - تعالى - نتأيد .

وأما قوله الثاني : في تخصيصه الرقيق خاصة ، فما ندري له متعلقا أصلا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي .

ولعل قائلا يقول : إنه قلد عثمان ؟ فقلنا : وما بال تقليد عثمان دون تقليد ابن عمر وكلاهما صاحب - .

وأيضا : فما قلد عثمان ; لأن عثمان لم يقل إن هذا الحكم إنما هو في الرقيق خاصة ، وقد خالفه في قضائه بالنكول ، فما حصل إلا على خلاف عثمان ، وابن عمر - فبطل هذا القول أيضا لتعريه عن الأدلة جملة .

وأما قوله الثالث : الذي رجع إليه فأشدها فسادا لأنه لا متعلق له بقول أحد نعلمه : لا صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا رأي له وجه .

ثم تخصيصه البيع على المفلس عجب ، وعهدة الثلاث كذلك ، ثم تخصيصه بالعيب الخفيف - وهو لم يبين ما الخفيف من الثقيل - فحصل مقلدوه في أضاليل لا يحكمون بها في دين الله - تعالى - إلا بالظن .

فسقطت هذه الأقوال كلها - وبالله - تعالى - التوفيق .

وأما قول أبي حنيفة فإنهم قالوا : قد صح الإجماع المتيقن على أنه إذا باع وبرئ من عيب سماه فإنه يبرأ منه ، ولا فرق بين تفصيله عيبا عيبا وبين إجماله العيوب ، وقالوا : قد روي قولنا عن بعض الصحابة كما ذكرنا عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، ولعلهم يحتجون { بالمسلمين عند شروطهم } .

[ ص: 543 ] قال أبو محمد : ما نعلم لهم شغبا غير هذا ، فأما { المسلمون عند شروطهم } فقد قدمنا : أنه باطل لا يصح وأنه لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأن شروط المسلمين ليست إلا الشروط التي نص الله - تعالى - على إباحتها ورسوله صلى الله عليه وسلم لا شروطا لم يبحها الله - تعالى - ولا رسوله عليه السلام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل شرط ليس في كتاب الله - تعالى - فهو باطل } .

وأما الرواية عن بعض الصحابة فقد اختلفوا ، ولا حجة في قول بعضهم دون بعض - وأما قولهم : لا فرق بين تفصيل العيوب وبين إجمالها ، فكذبوا ، بل بينهما أعظم الفرق ; لأنه إذا سمى العيب ووقف عليه فقد صدق وبرئ منه ، وإذا أجمل العيوب فقد كذب بيقين ; لأن العيوب تتضاد ، فصارت صفقة انعقدت على الكذب فهي مفسوخة ، وكيف لا يكون فرق بين صفقة صدق وصفقة كذب - وأما الصحابة : فقد اختلفوا ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فبطل هذا القول أيضا لتعريه من الأدلة .

قال أبو محمد : فلنذكر الآن البرهان على صحة قولنا بحول الله - تعالى - وقوته - : وهو أن من باع بشرط أن لا يقام عليه بعيب إن وجد ، فهو بيع فاسد باطل ; لأنه انعقد على شرط ليس في كتاب الله - تعالى - ، فهو باطل ، ولأنه غش ، والغش محرم .

قال عليه السلام : { من غشنا فليس منا } " وقال عليه السلام : { الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم } .

ومن باع بالبراءة من العيوب : فلا يخلو من أن يكون أراد بذلك أن لا يقام عليه بعيب إن وجد ، وأنه بريء منه ، فقد ذكرنا أن البيع هكذا باطل أو يكون أراد فيه كل عيب فهذا باطل بيقين ; لأن الحمى عيب ، وهي من حر ، والفالج عيب وهو من برد ، وهما متضادان .

وكل بيع انعقد على الكذب والباطل فهو باطل ; لأنه انعقد على أنه لا صحة له إلا [ ص: 544 ] بصحة ما لا صحة له ، فلا صحة له - ولا فرق في هذا الوجه بين أن يسمي العيوب كلها ، أو بعضها ، أو لا يسميها ; لأنه إنما سمى عيبا واحدا فأكثر وكذب فيه ، فالصفقة باطلة ; لانعقادها على الباطل ، وعلى أن به ما ليس فيه ، وأنه على ذلك يشتريه ، فإذ ليس به ذلك العيب ، فلا شراء له فيه - وهذا في غاية الوضوح - وبالله - تعالى - التوفيق .

فإن باع وسكت ولم يبرأ من عيب أصلا ولا شرط سلامة ، فهو بيع صحيح إن وجد العيب فالخيار لواجده في رد أو إمساك ، وإلا فالبيع لازم - وبالله - تعالى - التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية