صفحة جزء
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا منصور ويونس ، وابن عون ، كلهم عن ابن سيرين عن شريح قال : من أعطى في صلة أو قرابة أو معروف أجزنا عطيته ، والجانب المستغزر يثاب على هبته أو ترد عليه .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن يمان عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : من وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثبه .

ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم نا المغيرة عن إبراهيم قال : من وهب هبة لذي رحم فليس له أن يرجع ، ومن وهب لغير ذي رحم فهو أحق بهبته ، فإن أثيب منها قليل أو كثير فليس له أن يرجع في هبته - وقد رويناه عنه بزيادة : فرضي به فليس له أن يرجع فيه - وهو قول عطاء ، وربيعة ، وغيرهم .

ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا المغيرة عن الحارث العكلي : أن رجلا تصدق على أمه بخادم له وتزوج فساق الخادم إلى امرأته فقبضتها امرأته فخاصمتها الأم إلى شريح فقال لها شريح : إن ابنك لم يهبك صدقته وأجازها للمرأة ; لأن الأم لم تكن قبضتها .

قالوا : فهؤلاء طائفة من الصحابة لا يعرف لهم مخالف ، وجمهور التابعين .

وذكروا ما رويناه من طريق أبي داود نا سليمان بن داود المهري أنا أسامة بن زيد [ ص: 76 ] أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { مثل الذي استرد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه } .

فإذا استرد الواهب فليوقف فليعرف ما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب ; وما رويناه من طريق وكيع نا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها } .

ومن طريق العقيلي نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد نا أبو بكر بن عياش عن يحيى بن هانئ أخبرني أبو حذيفة عن عبد الملك بن محمد بن بشير عن عبد الرحمن بن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الصدقة يبتغى بها وجه الله عز وجل ، وإن الهدية يبتغى بها وجه الرسول وقضاء الحاجة . }

قالوا : فعلى هذا له ما ابتغى إذ لكل امرئ ما نوى .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال { وهب رجل للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه فلم يرض فزاده فلم يرض ، فقال عليه السلام : لقد هممت أن لا أقبل هبة . }

وربما قال معمر { أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي } وما نعلم لهم شيئا غير ما ذكرنا .

فأما حديث أبي هريرة هذا الأدنى وهو أحسنها إسنادا فلا حجة لهم فيه لأننا لم ننكر إثابة الموهوب ، بل هو فعل حسن ، وإنما أنكرنا وجوبه إذ لم يوجبه نص قرآن ولا سنة ولا أنكرنا أن يوجب في الناس الطمع الذي لا يقنعه تطوع من لا شيء له عنده .

[ ص: 77 ] وليس في هذا الخبر مما أنكرنا معنى ولا إشارة ، وإنما فيه ما لا ننكره مما ذكرنا ، وأنه عليه السلام هم أن لا يقبل هبة إلا ممن ذكر - ولو أنفذ ذلك لكان مباحا فعله وتركه وليس من المحذور عليه خلافه ، فيلزم القول بما هم به من ذلك - فبطل تعلقهم بهذا الخبر إذ ليس فيه إجازة هبة الثواب ، ولا أن تلك الهبة اشترط فيها الثواب ولا فيه إجازة الرجوع في الهبة أصلا .

وبالله تعالى التوفيق .

ثم نظرنا في خبر عبد الرحمن بن علقمة : فوجدناه لا خير فيه ، فيه : أبو بكر بن عياش ، وعبد الملك بن محمد بن بشير ، وكلاهما ضعيف ، ولا يعرف لعبد الملك سماع من عبد الرحمن بن علقمة .

وفيه أيضا : أبو حذيفة ، فإن كان إسحاق بن بشير النجاري فهو هالك ، وإن لم يكنه فهو مجهول - فسقط جملة ، ولم يحل الاحتجاج به .

ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة أصلا ; لأنه ليس فيه ذكر لهبة الثواب أصلا - ولا للرجوع في الهبة بوجه من الوجوه ، وإنما فيه : أن الهدية يبتغى بها وجه الرسول وقضاء الحاجة .

وأما قولهم " له ما ابتغى " فجنون ، ناهيك به ; لأن في هذا الخبر : أنه ابتغى قضاء حاجته ، ومن له بذلك ؟ وقد تقضى ولا تقضى ، ليس للمرء ما نوى في الدنيا : إنما هذا من أحكام الآخرة في الجزاء فقط .

ثم نقول : إن الله تعالى قد صان نبيه عليه السلام عن أن يصوب أن يجيز أكل هدية لم يبتغ بها مهديها وجه الله تعالى ، وإنما قصد قضاء حاجته فقط ووجه الرسول ، وهذه هي الرشوة الملعون قابلها ومعطيها في الباطل ، فلاح - مع تعري هذا الخبر - عن أن يكون لهم فيه متعلق ، مع أنه خبر سوء موضوع بلا شك .

ثم نظرنا في خبر أبي هريرة الذي بدأنا فيه : فوجدناه لا حجة لهم فيه لوجهين - : أحدهما - أنه من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع وهو ضعيف . الثاني -

أن عمرو بن دينار ليس له سماع أصلا من أبي هريرة ، ولا أدركه بعقله [ ص: 78 ] أصلا ، وأعلا من عنده من كان بعد السبعين ، كابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، وجابر ، ومات أبو هريرة قبل الستين ، فسقط جملة .

ثم إنه حجة عليهم ومخالف لقولهم ; لأن نصه { الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها } فلم يخص ذا رحم من غيره ، ولا هبة اشترط فيها الثواب من غيرها ، ولا ثوابا قليلا من كثير - وهذا كله خلاف قول أبي حنيفة ، ومالك .

فإن كان هذا الحديث حقا فقد خالفوا الحق بإقرارهم ، وهذا عظيم جدا ، وإن كان باطلا فلا حجة في الباطل ، وهم يردون السنن الثابتة بدعواهم الكاذبة أنها خلاف القرآن والأصول ، وكل ما احتجوا به هاهنا فخلاف القرآن ، والأصول .

وأما خبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو - : فصحيفة منقطعة ، ولا حجة فيها ، ثم هو عن أسامة بن زيد - وهو ضعيف - ثم لو صح لكان حجة عليهم ، ومخالفا لقولهم ; لأنه ليس فيه تخصيص ذي رحم من غيره ، ولا زوج لزوجة ولا أداين عليها أو لم يداين ، ولا شيء مما خصه أبو حنيفة ومالك ، ولا هبة ثواب من غيرها ، بل أطلق ذلك على كل هبة ، فمن خصها فقد كذب بإقراره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله ما لم يقله ولا فرق بين من خالف حديثا بأسره ومن خالف بعضه وأقر ببعضه ، لا سيما مثلهم ومثلنا ، فإنهم يخالفون ما يقرون بأنه حق ، وأنه حجة لا يجوز خلافها ، فاعترفوا على أنفسهم بالدمار والبوار ، وأما نحن فلا نخالف إلا ما لا يصح ، كالذي يجب على كل مسلم ذي عقل ، ومعاذ الله من أن نخالف خبرا نصححه إلا بنسخ بنص آخر ، أو بتخصيص بنص آخر .

والعجب كل العجب من قولهم بلا حياء : إن المنصوص في خبر الشفعة من أن { إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ قد يمكن أن يكون من قول الراوي ، فهلا قالوا هاهنا في هذه المناقضة الفاسدة التي في هذا الحديث المكذوب بلا شك : من أنه يوقف ثم يرد عليه ما استرد ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذ ممكن أن يكون من كلام الراوي ، بلا شك في هذا لو صح إسناد هذا الحديث ، إذ من الباطل أن يخبر عليه السلام أن مسترد الهبة كالكلب في أقبح أحواله من أكل قيئه ، والذي ضرب الله تعالى به المثل للكافر فقال تعالى : { مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث [ ص: 79 ] أو تتركه يلهث } ثم ينفذ عليه السلام الحكم بما هذه صفته ، حاشا لله من ذلك .

بل لو احتج عليهم محتج بهذا الخبر لكان أقوى تشغيبا ; لأن ظاهره : أن الواهب إذا استرد ما وهب وقف وعرف ما استرد ، ثم ليدفع إليه ما وهب ، فهذا يوجب أن يوقف على ما استرد ثم يدفع إلى الموهوب له ، ولا يترك عند المسترد ، واحتمال باحتمال ، ودعوى بدعوى .

والعجب من قلة الحياء في احتجاجهم بهذا الخبر - وهو عليهم لا لهم - كما بينا ، وصارت رواية عمرو بن شعيب هاهنا عن أبيه عن جده حجة ، وهم يردون الرواية التي ليست عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أحسن منها - : كروايتنا عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند ، وحبيب المعلم ، كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها . }

ورواية أبي داود نا محمود بن خالد نا مروان هو ابن محمد - نا الهيثم بن حميد نا العلاء بن الحارث نا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال { : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين السادة لمكانها بثلث الدية . }

وغير هذا كثير جدا لم يردوه إلا بأنه صحيفة ، فأي دين يبقى مع هذا ، أو أي عمل يرتفع معه ، وهذا هو التلبيس في دين الله تعالى جهارا - نعوذ بالله من الخذلان ، فبطل أن يكون لهم متعلق في شيء من الأخبار .

وأما ما تعلقوا به عن الصحابة رضي الله عنهم : فكله لا حجة لهم فيه إذ لا حجة في أحد دون رسول الله . [ ص: 80 ]

ثم لو كان حجة فهو كله عليهم لا لهم - : أول ذلك : حديث عمر رضي الله عنه هو صحيح عنه من وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يثب منها أو لم يرضى منها فلم يخص رحما محرمة من غير محرمة - وهذا خلاف قول الحنفيين - ولا خص ما وهبه أحد الزوجين للآخر كما خصوا ، بل قد صح عنه : أن لها الرجوع فيما وهبت لزوجها ، كما نذكر بعد هذا إن شاء الله عز وجل - فقد خالفوا عمر ، وهم يحتجون به في أنه لا يحل خلافه ، { ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } .

يا للمسلمين إن كان قول عمر رضي الله عنه لا يحل خلافه ، فكيف استحلوا خلافه ، وإن كان ليس بحجة فلما يموهون به في دين الله تعالى ، ويصدون عن سبيل الحق - : روينا من طريق وكيع نا أبو جناب هو يحيى بن أبي حية - عن أبي عون هو محمد بن عبيد الله الثقفي - عن شريح القاضي أن عمر بن الخطاب قال في المرأة وزوجها : ترجع فيما أعطته ولا يرجع فيما أعطاها .

ومن طريق ابن أبي شيبة نا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي قال : كتب عمر بن الخطاب : أن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت زوجها شيئا فأرادت أن تعتصره فهي أحق به ، وصح القضاء بها عن شريح ، والشعبي ، ومنصور بن المعتمر ، حتى أن شريحا قضى لها بالرجوع فيما وهبت . له بعد موته .

روينا ذلك من طريق شيبة عن غيلان عن أبي إسحاق السبيعي عن شريح .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : ما أدركت القضاة إلا يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها ، ولا يقيلون الزوج فيما وهب لامرأته - فبطل تعلقهم بعمر وصار حجة عليهم ، ولاح أن قولهم خلاف قوله .

وأما خبر عثمان - فبين فيه أنه رأي محدث ; لأن في نصه " أن أول من رد الهبة عثمان " وما كان هذا سبيله فلا حجة فيه . [ ص: 81 ] ثم هو أيضا مخالف لقولهم ; لأن فيه رد الهبة جملة بلا تخصيص ذي رحم ولا أحد الزوجين للآخر - فصاروا مخالفين له - وبطل تعلقهم به .

وأما خبر علي - فباطل ; لأن أحد طريقيه فيها جابر الجعفي ، وفي الآخر ابن لهيعة - ثم لو صح لكانوا مخالفين له ; لأن في أحدهما { الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها } دون تخصيص ذي رحم من غيره ، ولا أحد الزوجين للآخر - وهم مخالفون لهذا ، وفي الأخرى أيضا كذلك في هبة الثواب جملة - فبطل تعلقهم بكل ذلك .

وأما حديث ابن عمر - فصحيح عنه ، والقول فيه كالقول في الرواية عن عثمان من أنهم قد خالفوه ; لأن فيه { أنه أحق بها ما لم يثب } وليس فيه تخصيص ذي رحم محرمة من غيرها ، ولا تخصيص ما وهبه أحد الزوجين للآخر - فعاد حجة عليهم .

وأما خبر فضالة - فكذلك أيضا وهو ضعيف ; لأنه عن معاوية بن صالح - وليس بالقوي - وهو حجة عليهم ; لأنه لم يشترط ذا رحم من غيره ، ولا تخصيص ما وهبه أحد الزوجين للآخر ، وظاهر إبطال هبة الثواب ، فعلى كل حال هو حجة عليه لا لهم ; لأنهم قد خالفوه .

وأما خبر أبي الدرداء - فكله مخالف لقولهم .

فعادت الأخبار كلها خلافا لهم ، فإن كانت إجماعا فقد خالفوا الإجماع وإن كانت [ ص: 82 ] حجة حق لا يجوز خلافها فقد خالفوا حجة الحق التي لا يجوز خلافها ، وإن لم تكن حجة ولا إجماعا فالإيهام بإيرادها لا يجوز .

وقد روينا خلاف ذلك عن الصحابة - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه قال في قضاء معاذ بن جبل باليمن بين أهلها قضى : أنه أيما رجل وهب أرضا على أنك تسمع وتطيع ؟ فسمع له وأطاع ، فهي للموهوبة له ، وأيما رجل وهب كذا وكذا إلى أجل ثم رجع إليه ، فهو للواهب إذا جاء الأجل ، وأيما رجل وهب أرضا ولم يشترط فهي للموهوبة له .

وبه إلى عبد الرزاق عن معمر قال : كان الحسن البصري يقول : لا يعاد في الهبة .

وبه إلى معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : لا يعود الرجل في الهبة .

فهذا معاذ ، والحسن ، وطاوس يقولون بقولنا سواء سواء .

وقالوا : إنما خصصنا ذوي الرحم المحرمة لأن الهبة لهم مجرى الصدقة وبين الزوجين لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة } قالوا : ولا خلاف في أنه لا يرجع في الصدقة .

قال علي : فقلنا لهم : والهبة لغير ذي الرحم ولغير الزوجة أيضا صدقة لأن الله تعالى يقول : { ولا تنسوا الفضل بينكم } .

وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا عباد بن العوام عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل معروف صدقة } فهذا في غاية الصحة .

فصح أن كل هبة لمسلم فهي صدقة ، فإذ قد صح إجماع عندهم على أن لا رجوع في الصدقة ، فهم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا الهبة على الصدقة فهي أشبه شيء بها ؟ ولكنهم لا يحسنون قياسا ولا يتبعون نصا .

قال أبو محمد : فإذ قد بطل كل ما موهوا به فالحجة لقولنا هو قول الله تعالى : [ ص: 83 ] { أوفوا بالعقود } وبقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } ، فهذا موضع الاحتجاج بهاتين الآيتين لا حيث احتجوا بهما حيث بينت السنة أنه لا مدخل له فيهما ونسوا احتجاجهم بالمسلمين عند شروطهم .

وأيضا - ما روينا من طريق البخاري نا مسلم بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي - وشعبة ، قالا جميعا نا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { العائد في هبته كالعائد في قيئه } .

ومن طريق البخاري أنا عبد الرحمن بن المبارك نا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري - نا أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه } .

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام نا إسحاق الأزرق نا الحسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عباس ، وابن عمر ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لأحد يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد يعطي ولده ، ومثل الذي يعطي العطية فيرجع فيها كالكلب ، أكل حتى إذا شبع قاء ثم عاد فرجع في قيئه } . [ ص: 84 ]

فهذه الآثار الثابتة التي لا يحل خلافها ، ولا الخروج عنها ومن طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال رسول الله : { مثل الذي يعود في صدقته مثله كمثل الكلب يعود في قيئه } .

قال أبو محمد : الحكم في العائد في هبته ، وفي العائد في صدقته سواء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفرق بينهما مخطئ ، والعجب كله قولهم " إنما شبهه بالكلب يعود في قيئه ، والكلب ليس ذلك عليه حراما فهذا مثله " فهنيئا لهم هذا المثل الذي أباحوا لأنفسهم الدخول فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه مثل السوء ، فكيف وقد جاء الخبر الصحيح أنه كالعائد في قيئه ، والقيء عندهم حرام لا ندري بماذا ؟ وأما عند غيرهم فبهذا النص .

وأطم شيء قول بعضهم " لا يمنع كونه حراما من جوازه " وهذا هتك الإسلام جهارا .

ومن العجائب أيضا قولهم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لأحد يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد يعطي ولده } أنه عليه السلام أراد بذلك إذا احتاج الوالد فيأخذ نفقته .

قال أبو محمد : الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم سهل خفيف ، وهل فهم أحد قط من هذا الكلام هذا المعنى ، وقد علم الجميع أن الأب إذا احتاج لم يكن حقه فيما أعطى ولده دون سائر ماله الذي لم يعطه إياه .

ونعوذ بالله من الخذلان .

وأما جعلنا للجد وللأم الرجوع فيما أعطيا لابن الابن وللابن عموما لقول الله تعالى : { يا بني آدم } .

وقال تعالى : { كما أخرج أبويكم من الجنة } فجعل تعالى الجد والجدة أبوين ، والأم والدة تقع على الجنس ، وهي فيه اسم الوالد . [ ص: 85 ]

وبالله تعالى التوفيق .

وأما المالكيون - فإنهم احتجوا بما روينا من طريق ابن الجهم نا إبراهيم الحربي نا محمد بن عبد الملك هو ابن أبي الشوارب - نا عبد الرزاق نا معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : كتب عمر بن الخطاب يعتصر الرجل من ولده ما أعطاه ، ما لم يمت ، أو يستهلك ، أو يقع فيه دين .

ومن طريق ابن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا أبو ثابت المديني ني ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن موسى بن سعد حدثه أن سعدا مولى الزبير نحل ابنته جارية فلما تزوجت أراد ارتجاعها فقضى عمر بن الخطاب أن الوالد يعتصر ما دام يرى ماله ، ما لم يمت صاحبها فتقع في ميراث أو تكون امرأة تنكح ، ثم تلاه عثمان على ذلك .

ورويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن رجلا وهب لابنه ناقة فرجع فيها ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فردها عليه بعينها ، وجعل نماها لابنه .

قالوا : فهذا عمل عمر ، وعثمان ، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم .

قال أبو محمد : وقد ذكرنا عن عمر ، وابنه ، بأصح من هذا السند رجوع المرء فيما وهب ما لم يثب إلا لذي رحم .

وعن عثمان مثله فما الذي جعل هذه الرواية أولى من تلك ؟ فكيف وقد خالفوا هذه أيضا ; لأنهم يقولون : إنما للأب الارتجاع في ذلك في صحته فقط ، وليس هذا فيما روي عن عمر ، وعثمان ، ويقولون : ليس للأب الارتجاع فيما وهب ابنه لله تعالى ، وليس هذا فيما روي عن عمر ، وعثمان ، وحاشا لهما : أن يجيزا هبة لغير الله تعالى ، وإذا لم تكن لله فهي للشيطان .

فحصل قول أبي حنيفة ، ومالك ، لا حجة لهما أصلا ، ومخالفا لكل ما أظهروا أنهم تعلقوا به عن الصحابة رضي الله عنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية