صفحة جزء
1755 - مسألة : ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث - كان له وارث أو لم يكن له وارث ، أجاز الورثة ، أو لم يجيزوا - : صح من طرق عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : { عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص: 357 ] فقلت : أوصي بمالي كله ؟ قال : لا ، قلت : فالنصف ؟ قال : لا ، قلت : فالثلث ؟ قال : نعم ، والثلث كثير } " .

والخبر بأن { رجلا من الأنصار أوصى عند موته بعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة } .

وقال مالك : إن زادت وصيته عن الثلث بيسير كالدرهمين ، ونحو ذلك جازت الوصية في كل ذلك - وهذا خلاف الخبر ، وخطأ في تحديده ما ذكر دون ما زاد وما نقص ، ولا تخلو تلك الزيادة - قلت أو كثرت - من أن تكون من حق الموصي أو حق الورثة ، فإن كانت من حق الموصي فما زاد على ذلك فمن حقه أيضا ، فينبغي أن ينفذ ، وإن كانت من حق الورثة فلا يحل للموصي أن يحكم في مالهم .

وقالت طائفة : من لا وارث له فله أن يوصي بماله كله .

صح ذلك عن ابن مسعود ، وغيره - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبد الله بن مسعود : إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحما فلا يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين .

ومن طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق أنه قال فيمن ليس له مولى عتاقة : أنه يضع ماله حيث يشاء فإن لم يفعل فهو في بيت المال .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني [ ص: 358 ] قال : إذا مات وليس عليه عقد لأحد ولا عصبة يرثون فإنه يوصي بماله كله حيث شاء .

ومن طريق حماد بن سلمة أن أبا العالية الرياحي أعتقته مولاته سائبة ، فلما احتضر أوصى بماله كله لغيرها ، فخاصمت في ذلك ؟ فقضي لها بالميراث - وهو قول الحسن البصري وأبي حنيفة ، وأصحابه ، وشريك القاضي ، وإسحاق بن راهويه .

وقال مالك ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو سليمان : ليس له أن يوصي بأكثر من الثلث - كان له وارث أو لم يكن .

قال أبو محمد : احتج المجيزون لذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : { الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } .

قالوا : فإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم العلة في أن لا يتجاوز الثلث في الوصية أن يغني الورثة فإذا لم تكن له ورثة فقد ارتفعت العلة فله أن يوصي بما شاء ؟ وقالوا : هو قول ابن مسعود ولا يعرف له من الصحابة مخالف ؟ وقالوا : فلما كان مال من لا وارث له إنما يستحقه المسلمون ; لأنه مال لا يعرف له رب ، فإذ هو هكذا ولم يكن فيه لأحد حق فلصاحبه أن يضعه حيث شاء ؟ وقالوا : كما للإمام أن يضعه بعد موته حيث شاء فكذلك لصاحبه ؟ ما نعلم لهم شيئا يشغبون به غير هذا وكله لا حجة لهم فيه

أما قولهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل العلة في أن لا يتجاوز الثلث غنى الورثة فباطل من قولهم ؟ ما قال عليه الصلاة والسلام قط إن أمري بأن لا يتجاوز الثلث في الوصية ؟ إنما هو لغنى الورثة ؟ إنما قال عليه الصلاة والسلام : { الثلث والثلث كثير } ؟ فهذه قضية قائمة بنفسها ، وحكم فصل غير متعلق بما بعده ثم ابتدأ عليه الصلاة والسلام قضية أخرى مبتدأة قائمة بنفسها ، غير متعلقة بما قبلها ، فقال { إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } .

برهان صحة هذا القول - : أنه لا يحل أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه علل علة فاسدة منكرة حاش له من ذلك . [ ص: 359 ] ونحن نجد من له عشرة من الورثة فقراء ولم يترك إلا درهما واحدا فإن له بإقرارهم أن يوصي بثلثه ، ولا يترك لهم ما يغنيهم من جوع غداء واحدا ، ولا عشاء واحدا .

ونحن نجد من لا يترك وارثا إلا واحدا غنيا موسرا مكثرا ولا يخلف إلا درهما واحدا ، فليس له عندهم ولا عندنا أن يوصي إلا بثلثه ، وليس له غنى فيما يدع له ؟ ولو كانت العلة ما ذكروا لكان من ترك ابنا واحدا ، وترك ثلاثمائة ألف دينار يكون له أن يوصي بالنصف ; لأن له فيما يبقى غنى الأبد ، فلو كانت العلة غنى الورثة لروعي ما يغنيهم على حسب كثرة المال وقلته - وهذا باطل عند الجميع .

فصح أن الذي قالوا باطل ، وأن الشريعة في ذلك إنما هو تحديد الثلث فما دونه فقط - قل المال أو كثر ، كان فيه للورثة غنى أو لم يكن - .

وأما قولهم : إنه قول ابن مسعود ولا يعرف له من الصحابة مخالف ; فلعلهم يقرعون بهذه العلة المالكيين ، والشافعيين ، الذين يحتجون عليهم بمثلها ، ويوردونها عليهم في غير ما وضع ويتقاذفون لها أبدا .

وأما نحن فلا نرى حجة إلا في نص قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق .

وأما قولهم : إنما يأخذ المسلمون مال من لا وارث له ; لأنه لا رب له ، فإذ لا يستحقه بموته أحد فصاحبه أحق به ; فما زادونا على تكرار قولهم ، وأن جعلوا دعواهم حجة لدعواهم ، وفي هذا نازعناهم ، وليس كما قالوا ، لكن نحن وأموالنا لله تعالى ولا يحل لأحد أن يتصرف في نفسه ، ولا في مال إلا بما أذن الله له فيه مالكه ، ومالك ماله عز وجل فقط .

ولولا أن الله تعالى أطلق أيدينا على أموالنا فيما شاء لما جاز لنا فيها حكم ، كما لا يجوز لنا فيها حكم ، حيث لم يبح الله تعالى لنا التصرف فيها .

ولولا أن الله تعالى أذن لنا في الوصية بعد الموت لما جاز لنا أن نوصي بشيء ، فأباح الله تعالى الثلث فما دونه فكان ذلك مباحا ولم يبح أكثر فهو غير مباح .

وأما قولهم كما للإمام أن يضعه حيث يشاء فصاحبه أولى ؟ فكلام بارد ، وقياس [ ص: 360 ] فاسد ، وهم يقولون فيمن ترك زوجة ولم يترك ذا رحم ولا مولى ولا عاصبا : أن الربع للزوجة ، وأن الثلاثة الأرباع يضعها الإمام حيث يشاء وأنه ليس له أن يوصي بأكثر من الثلث .

فهلا قاسوا هاهنا كما للإمام أن يضع الثلاثة الأرباع حيث يشاء ، فكذلك صاحب المال - ولكن هذا مقدار قياسهم فتأملوه .

وأما إذا أذن الورثة في أكثر من الثلث ; فإن عطاء ، والحسن ، والزهري ، وربيعة ، وحماد بن أبي سليمان ، وعبد الملك بن يعلى ، ومحمد بن أبي ليلى ، والأوزاعي قالوا : إذا أذن الورثة فلا رجوع لهم ، ولم يخصوا إذنا في صحة من أذن في مرض .

وقال شريح ، وطاوس ، والحكم بن عتيبة ، والنخعي والشعبي ، وسفيان الثوري ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد بن حنبل : إذا أذنوا له في مرضه أو عند موته أو في صحته : بأن يوصي بأكثر من الثلث لم يلزمهم ، ولهم الرجوع إذا مات .

وقالت طائفة : لا يجوز ذلك أصلا كما روينا من طريق وكيع عن المسعودي - هو أبو عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن أبي عون - هو محمد بن عبيد الله الثقفي - عن القاسم بن عبد الرحمن أن رجلا استأمر ورثته في أن يوصي بأكثر من الثلث ؟ فأذنوا له ، فلما مات رجعوا ، فسئل ابن مسعود ; فقال لهم ذلك النكرة لا يجوز .

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : الضرار في الوصية من الكبائر ، ثم قرأ ابن عباس ، { تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله } .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة مسندا { أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى جار في وصيته ، فيختم له بشر عمله فيدخل النار - وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة } - ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { تلك حدود الله } - إلى قوله - { عذاب مهين } [ ص: 361 ] قال أبو محمد : إنما أوردناه لقول أبي هريرة فقط .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال : يرد عن حيف الناحل الحي ما يرد من حيف الناحل في وصيته ، فهؤلاء ثلاثة من الصحابة لا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم مخالف أبطلوا ما خالف السنة في الوصية ، ولم يجيزوه ، ولم يشترطوا رضا الورثة - وهو قول المزني ، وأبي سليمان ، وأصحابنا .

وقال مالك : إن استأذنهم في صحته فأذنوا له فلهم الرجوع إذا مات ، وإن استأذنهم في مرض موته فأذنوا له فلا رجوع لهم ، إلا أن يكونوا في عياله ونفقته فلهم الرجوع .

قال أبو محمد : أما قول مالك : فلا نعلمه عن أحد قبله ، ولا نعلم له حجة أصلا - ولا يخلو المال كله أو بعضه من أن يكون لمالكه في صحته وفي مرضه ، أو يكون كله أو بعضه لورثته في صحته ومرضه فإن كان المال لصاحبه في صحته ومرضه فلا إذن للورثة فيه - ومن المحال الباطل جواز إذنهم فيما لا حق لهم فيه ، وفيما هو حرام عليهم ، حتى لو سرقوا منه دينارا لوجب القطع على من سرقه منهم - وقد يموت أحدهم قبل موت المريض فيرثه ، ولا سبيل إلى أن يقول أحد : إن شيئا من مال المريض لوارثه قبل موت الموروث لما ذكرنا ، فبطل هذا القول بيقين .

وأما من أجاز إذنهم فإنهم يحتجون بقول الله عز وجل : { أوفوا بالعقود } وهذا عقد قد التزموه فعليهم الوفاء به .

قال أبو محمد : ولقد كان يلزم من أجاز العتق قبل الملك ، والطلاق قبل النكاح : أن يقول بإلزامهم هذا الإذن ، ولكنهم تناقضوا في ذلك .

قال علي : وأما نحن فنقول : كل عقد لم يأت به قرآن ولا سنة بالأمر به أو بإباحته فهو باطل ، وإنما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود التي أمر بها نصا أو أباحها نصا .

وأما من عقد معصية فما أذن الله تعالى قط في الوفاء بها ، بل حرم عليه ذلك ، كمن عقد على نفسه أن يزني ، أو يشرب الخمر - والزيادة على الثلث معصية منهي عنها ، فالعقد في الإذن من ذلك فيما لم يأذن الله تعالى فيه باطل محرم - فسقط هذا القول . [ ص: 362 ] وأما من أجاز للورثة أن يجيزوا ذلك بعد الموت فخطأ ظاهر ; لأن المال حينئذ صار للورثة ، فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام } فليس لهم إجازة الباطل ، لكن إن أحبوا أن ينفذوا ذلك من مالهم باختيارهم فلهم ذلك ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاءوا - وبالله تعالى التوفيق .

وهذا مما خالفوا فيه ثلاثة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف .

التالي السابق


الخدمات العلمية