صفحة جزء
1764 - مسألة : ولا تجوز وصية من لم يبلغ من الرجال والنساء أصلا .

وقد اختلف الناس في هذا - : فروينا من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه : أن عمر بن الخطاب أجاز لها وصية غلام لم يحتلم ببئر جشم ، قال عمرو بن سليم : فبعتها أنا بثلاثين ألف درهم .

ومن طريق ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن ابن مسعود : أنه أجاز وصية الصبي ، وقال : من أصاب الحق أجزنا ، وروي - ولم يصح - عن أبان بن عثمان : أنه أجاز وصية جارية بنت تسع سنين بالثلث . [ ص: 376 ] وعن جابر الجعفي عن الشعبي : من أصاب الحق - من صغير أو كبير - أجزنا وصيته .

وعن ابن سمعان عن الزهري : إذا عرف الصلاة جازت وصيته وإن لم يحتلم - الغلام والجارية سواء .

وصح عن شريح ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، وإبراهيم النخعي : إجازة وصية الصغيرين إذا أصابا الحق .

وقال الليث بن سعد كقول الزهري .

وأجاز مالك وصية من بلغ تسع سنين فصاعدا .

وقول آخر - صح عن عمر بن عبد العزيز : أن من لم يبلغ الحلم فإن وصيته تجوز في قرب الثلث ، ولا نرى أن تبلغ الثلث .

وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه .

وقول ثالث : قال القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري : وهو أنه إذا بلغ الصغيران سنا من وسط ما يحتلم له الغلمان : جازت وصيتهما .

وقول رابع : وهو أن وصية من لم يحتلم لا تجوز ، وكذلك المرأة ما لم تحتلم أو تحض - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس : لا تجوز وصية الغلام حتى يحتلم - وصح هذا عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي أيضا - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم .

قال أبو محمد : أما تحديد عبيد الله بن الحسن ببلوغ من هي وسط ما يحتلم لها الغلمان - ومنع عمر بن عبد العزيز من بلوغ الثلث ، وإجازته ما قرب من ذلك - وتخصيص مالك ابن تسع فصاعدا - : فأقوال لا متعلق لها بشيء أصلا ، وما نعلم أحدا حد ذلك قبل مالك .

ولعل بعض مقلديه يقول : صح أن { النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة أم المؤمنين وهي بنت تسع سنين } ؟ [ ص: 377 ] فنقول له : نعم ، وصح أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهي بنت ست سنين ، فأجيزوا وصية ابن ست سنين بذلك - .

وهذا كله لا مدخل له في الوصية أصلا .

وأما من أجاز وصية الصغيرين إذا أصابا الحق ، فإنهم احتجوا بقول الله تعالى : { وافعلوا الخير } .

قالوا : وهذا عموم ، وقال تعالى في المواريث : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وهذا عموم ، وبالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ { سألته المرأة عن الصغير أله حج ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، ولك أجر }

ووجدناه يحض على الصلاة والصيام فالوصية كذلك .

وقالوا : السفيه ، والصغير ممنوعان من أموالهما في حياتهما ، ووصية السفيه : جائزة ، فالصغير كذلك ؟

وقالوا : هذا حكم عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم والرواية عن ابن عباس بخلاف ذلك لا تصح ، لأنها عن هالكين : إبراهيم بن أبي يحيى ، والحجاج بن أرطاة ، ومثل هذا لا يقال بالرأي - ما لهم شبهة غير ما ذكرنا - .

وكل ذلك لا متعلق لمالك ومن قلده بشيء منه ; لأنهم خصوا من دون التسع بلا ; برهان ، فخالفوا كل ذلك .

قال أبو محمد : وكله لا حجة لهم في شيء منه - : أما قوله تعالى : ( { وافعلوا الخير } ) .

وقوله تعالى : ( { من بعد وصية يوصي بها أو دين } ) .

فإن من لم يبلغ غير مخاطب بشيء من الشرائع ، لا بفرض ولا بتحريم ولا بندب ، ولا داخلا في هذا الخطاب ، لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول أعماله التي هي أعمال البر ببدنه دون أن يلزمه ذلك .

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ فصح أنه غير مخاطب ، فبطل التعليق بالآيتين المذكورتين . [ ص: 378 ] وأما قوله عليه الصلاة والسلام في الصغير له حج ؟ فنعم ، هو حق ، وليس في ذلك إطلاقه على التقرب بالمال والصدقة به ، لا في حياته ولا في وصيته بعد وفاته ، فبطل تعلقهم بهذا الخبر - وبالله تعالى التوفيق .

والقياس باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنهم لم يقيسوا الصدقة في الحياة من الصغير على الحج منه ، فقياس الوصية بالمال على الصدقة بالمال أولى أن يكون لو كان القياس حقا من قياس الوصية على الحج والصلاة .

وأما قولهم : إن من لم يبلغ يحض على الصلاة ، والصيام فكذلك الوصية - فباطل أيضا لأنه قياس فاسد كما ذكرنا .

وأما قولهم : إن الصغير ، والسفيه ممنوعان من مالهما ، ووصية السفيه جائزة فكذلك الصغير - فهذا من أفسد ما شغبوا به ، لأننا لا نساعدهم على أن مسلما يعقل يكون سفيها أصلا ، حاش لله من ذلك ، إنما السفيه الكافر ، أو المجنون الذي لا يميز - لكن نقول لهم : إن الصغير والأحمق الذي لا يميز : ممنوعان من مالهما ، ووصية الأحمق الذي لا يميز لا تجوز ، فالصغير كذلك - فهذا قياس أصح من قياسهم ; لأن القضية الأولى متفق عليها - .

وبالله تعالى التوفيق .

وأما قولهم : إنه فعل عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، ومثله لا يقال بالرأي ؟ فلا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم إنها لا تصح عن عمر ، ولا عن ابن مسعود ، لأن أم عمرو بن سليم مجهولة ، وعمرو بن سليم لم يدرك عمر ، ولا يدرى من رواه عن ابن مسعود ، وقد خالفهما ابن عباس ، والرواية عنهم كلهم في ذلك لا تصح .

وكم قضية خالفوا فيها عمر بن الخطاب لا يعرف له فيها مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، فبطل كل ما شغبوا به - وبالله تعالى التوفيق .

فلما بطل كل ما احتجوا به وجدنا الله تعالى يقول : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } [ ص: 379 ] فصح بنص القرآن أن المجنون ، والصغير : ممنوعان من أموالهما حتى يعقل الأحمق ، ويبلغ الصغير - فصح أنه لا يجوز لهما حكم في أموالهما أصلا ، وتخصيص الوصية في ذلك خطأ .

وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { رفع القلم عن ثلاثة } فذكر فيهم الصغير حتى يبلغ - فصح أنه غير مخاطب - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية