صفحة جزء
1766 - مسألة : ومن أوصى بما لا يحمله ثلثه بدئ بما بدأ به الموصي في الذكر أي شيء كان حتى يتم الثلث ، فإذا تم بطل سائر الوصية .

فإن كان أجمل الأمر تحاصوا في الوصية ، وهذا مكان اختلف الناس فيه - : فروي عن ابن عمر ، وعطاء الخراساني .

وصح عن مسروق ، وشريح ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه : أنه يبدأ بالعتق على جميع الوصايا .

وقول آخر : رويناه من طريق سعيد بن منصور نا جرير عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال : إنما يبدأ بالعتق إذا كان مملوكا له سماه باسمه ، فأما إذا قال : أعتقوا عني نسمة ، فالنسمة وسائر الوصية سواء - وهو قول الشعبي . [ ص: 380 ] ورويناه من طريق سعيد بن منصور قال : نا أشعث بن سوار عن الشعبي قال هشيم : وسمعت ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة يقولانه .

وقول ثالث : وهو أنه تتحاص الوصايا ، العتق وغيره سواء - : رويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا حماد بن زيد ، قال ابن سلمة : أنا قيس عن عطاء بن أبي رباح ، وقال ابن زيد : أنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين ، ثم اتفق عطاء ، وابن سيرين فيمن أوصى بعتق وأشياء ، فزادت على الثلث : أن الثلث بينهم بالحصص .

ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا مطرف - هو ابن طريف - عن إبراهيم النخعي ، قال : يبدأ بالعتاقة ، وقال الشافعي : بالحصص .

ومن طريق سعيد بن منصور قال هشيم : أنا يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال : يبدأ بالعتق ، ثم قال بعد ذلك : بالحصص - وهو قول أحمد بن حنبل ، وأبي ثور ، وأحد قولي ابن شبرمة ، وزاد : أنه يستسعي في العتق فيما فضل عن الوصية .

وأما المتأخرون : فإن الليث بن سعد قال : يبدأ بالمدبر والمعتق بتلا في المرض ويتحاصان إن لم يحملهما الثلث ، ثم من بعدهما بمن أوصى بعتقه بعينه ، وهو في ملكه حين الوصية ، ثم يتحاص العتق الموصى به جملة مع سائر الوصايا

وقال الحسن بن حي : يبدأ بالمعتق بتلا في المرض ، ثم العتق وسائر الوصايا سواء ، يتحاص في كل ذلك .

وقال أبو حنيفة : يبدأ بالمحاباة في المرض ، ثم بعده بالعتق بتلا في المرض إذا كان العتق بعد المحاباة ، فإن أعتق في مرضه ثم حابى تحاصا جميعا ، فإن حابى في مرضه ثم أعتق ، ثم حابى ، فللبائع المحابي أولا نصف الثلث ، ويكون نصف الثلث الباقي بين المعتق في المرض بتلا وبين المحابي في المرض آخرا - فهذا يقدم على جميع الوصايا ، سواء قدم في ذلك في الذكر أو آخره .

فإن أوصى مع ذلك بحج وعتق وصدقة ووصايا لقوم بأعيانهم : قسم الثلث ، أو ما بقي منه بين الموصى لهم بأعيانهم وبين سائر القرب ، فما وقع للموصى لهم بأعيانهم [ ص: 381 ] دفع إليهم وتحاصوا فيه ، وما وقع لسائر القرب بدئ بما بدأ به الموصي في الذكر ، فإذا تم فلا شيء لما بقي .

وقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن القاضي يبدأ بالعتق في المرض أبدا على المحاباة في المرض ثم المحاباة .

فإن أوصى بعتق مطلق ، أو بعتق عبد في ملكه ، وبمال مسمى في سبيل الله عز وجل ، وبصدقة ، وفي الحج ، ولإنسان بعينه : تحاص كل ذلك ، فما وقع للموصى له بعينه أخذه ، وسائر ذلك يبدأ بما بدأ به الموصي بذكره أولا فأولا ، فإذا تم الثلث فلا شيء لما بقي .

وقال زفر بن الهذيل : إن أعتق بتلا في مرضه ، ثم حابى في مرضه بدئ بالعتق ، وإن حابى في مرضه ثم أعتق بدئ بالمحاباة ، ثم سائر الوصايا ، سواء ما أوصى به من القرب وما أوصى به لإنسان بعينه : كل ذلك بالحصص ، لا يقدم منه شيء على شيء .

وقال مالك : يبدأ بالمحاباة في المرض ، ثم بالعتق بتلا في المرض ، والمدبر في الصحة ، ويتحاصان ، ثم عتق من أوصى بعتقه وهو في ملكه ، وعتق من سماه وأوصى بأن يبتاع فيعتق بعينه ، ويتحاصان ، ثم سائر الوصايا ، ويتحاص مع ما أوصى به من عتق غير معين .

وقد روي عنه : أن المدبر يبدأ أبدا على العتق بتلا في المرض .

وقال الشافعي : إذا أعتق في المرض عبدا بتلا بدئ بمن أعتق أولا فأولا ، ولا يتحاصون في ذلك ، ويرق من لم يحمله الثلث ، أو يرق منه ما يحمله الثلث .

والهبة في المرض مبداة على جميع الوصايا بالعتق وغيره .

وقال مرة أخرى : يتحاص في المحاباة في المرض وسائر الوصايا على السواء ، قال : وقد قيل : إن المحاباة في البيع في المرض مفسوخ ، لأنه وقع على غرر .

قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وزفر ، ومالك ، والشافعي ، والليث ، والحسن بن حي : فظاهرة الخطأ ; لأنها دعاوى وآراء بلا برهان ، لا من قرآن ، ولا من رواية سقيمة ، ولا قول أحد من خلق الله تعالى نعلمه قبلهم ، ولا قياس ولا رأي سديد . [ ص: 382 ] وليس لأحد أن يموه هاهنا بكثرة القائلين ; لأنهم كلهم مختلفون كما ترى ، وأفسدها كلها قول أبي حنيفة ، ثم قول مالك لكثرة تناقضهما ، وتفاسد أقسامهما ، وهي أقوال تؤدي إلى تبديل الوصية بعد ما سمعت ، وفي هذا ما فيه .

ثم نقول - وبالله تعالى التوفيق - قولا جامعا في إبطال ما اتفق عليه المذكورون من تبدية العتق بتلا في المرض ، والمحاباة في المرض ، فنقول لهم : يا هؤلاء أخبرونا عن قضاء المريض في عتقه ، وهبته ، ومحاباته في بيعه ، أهو كله وصية ، أم ليس وصية ؟ ولا بد من أحدهما ؟ فإن قالوا : ليس شيء منه وصية ؟ قلنا : صدقتم ، وهذا قولنا ، وإذا لم يكن وصية فلا مدخل له في الثلث أصلا ; لأن الثلث بالسنة المسندة مقصور على الوصايا ، فقد أبطلتم إذ جعلتم ذلك في الثلث ؟ فإن قالوا : بل كل ذلك وصية ؟ قلنا لهم : من أين وقع لكم تبدية ذلك على سائر الوصايا ، وإبطال ما أوصى به المسلم ، وتبديله بعد ما سمعتموه ، وقد قال الله تعالى : { فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه }

واعلموا : أنه لا متعلق لهم بمن روي عنه تبدية العتق من ابن عمر ، ومسروق ، وشريح ، والزهري ، وقتادة - ثم عن النخعي ، والشعبي ، والحسن ، في أحد أقوالهم ; لأنه لم يأت قط عن أحد من هؤلاء ، ولا من غيرهم تبدية العتق في المرض في الثلث ، والمحاباة في المرض في الثلث ، على سائر الوصايا ، إنما جاء عمن ذكرنا تبدية العتق على سائر الوصايا .

وعن النخعي ، والشعبي في أحد قوليهما : تبدية عتق من أوصى بعتقه باسمه وعينه - وهو في ملك الموصي - على سائر الوصايا - فقد خالف المذكورون كل من ذكرنا بآراء مخترعة في غاية الفساد .

فإن قالوا : وقع ذلك لنا ; لأن العتق في المرض ، والمحاباة في المرض : أوكد من سائر الوصايا ؟ قلنا : هذا باطل من وجهين - : أحدهما - أنه دعوى كاذبة لا دليل على صحتها ، [ ص: 383 ] ومن أين وجب أن تكون محاباة النصراني في بيع ثوب حرير ، أو لخليع ماجن في بيع تفاح لنقله : أوكد من الوصية في سبيل الله عز وجل في ثغور مهمة ، ومن فك مسلم فاضل ، أو مسلمة كذلك ، أو صغار مسلمين من أسر العدو ، ونخاف عليهم الفتنة في الدين ، والفضيحة في النفس ، إن هذا لعجب ما مثله عجب ؟ ودعاوى فاحشة مفضوحة بالكذب ؟ فإن قالوا : العتق في المرض قد استحقه المعتق ، وكذلك المحاباة ؟ قلنا : فإن كانا قد استحقاه فلم تردانهما إلى الثلث إذا ، وما هذا التخليط ؟ تارة يستحق ذلك ، وتارة لا يستحق - وفي هذا كفاية في فساد تلك الأقوال التي هي النهاية في الفساد - ونحمد الله تعالى على تخليصه إيانا من الحكم بها في دينه ، وعلى عباده .

ولم يبق إلا قول من قال بتقديم العتق جملة على سائر الوصايا ؟ وهو قول من ذكرنا من المتقدمين ، وقول سفيان ، وإسحاق .

قال أبو محمد : احتج هؤلاء بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : { ومن أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار ، حتى فرجه بفرجه } .

وقالوا : من الدليل على تأكيد العتق : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ عتق الشريك في حصة شريكه } - وذكروا خبرا رواه بشر بن موسى عن عبد الله بن يزيد المقري عن حيوة بن شريح عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب ، قال : مضت السنة أن يبدأ بالعتاق في الوصية ؟ وقالوا : هو قول ابن عمر ، وهو صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ؟ وقالوا : هو قول جمهور العلماء ؟ وقال بعضهم : العتق لا يلحقه الفسخ ، وسائر الأشياء يلحقها الفسخ ؟ وقال بعضهم : لو أن امرأ أعتق عبد غيره وباعه آخر ، فبلغ ذلك السيد ، فأجاز الأمرين جميعا ، أنه يجوز العتق ، ويبطل البيع - ولو أن امرأ وكل رجلا بعتق عبده ، ووكل آخر ببيعه فوقع البيع والعتق من الوكيلين معا : أن العتق نافذ ، والبيع باطل ؟ قال علي : أما هاتان القضيتان - فهو نصر منهم للخطأ بالضلال ، وللوهم [ ص: 384 ] بالباطل ، بل ليس للسيد إجازة عتق وقع بغير إذنه ، ولا إجازة بيع وقع بغير أمره ; لأن كل ذلك حرام بنص القرآن ، والسنة ، والإجماع .

قال الله تعالى : ( { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

فمن أحل الحرام فتحليله باطل ، وقوله مردود ، لكن إن أحب إنفاذ عتق عبده فليعتقه هو بلفظه مبتدئا وإن أحب بيعه فليبعه كذلك مبتدئا ولا بد .

والتوكيل في العتق : لا يجوز ; لأنه لم يأت بإجازته قرآن ، ولا سنة .

وأما التوكيل في البيع : فجائز بالسنة ، فمن وكل بعتق عبده لم ينفذ عتقه أصلا ، ومن وكل في بيعه : جاز ذلك .

وأما قولهم : العتق لا يلحقه فسخ وسائر الأشياء يلحقها فسخ : فقد كذبوا ، وكل عقد من عتق أو غيره وقع صحيحا فلا يجوز فسخه ، إلا أن يأتي بإيجاب فسخه قرآن ، أو سنة ، والعتق الصحيح قد يفسخ ، وذلك من أعتق عبدا نصرانيا ثم إن ذلك العبد النصراني لحق بدار الحرب فسبى وقسم ، فإن عتقه الأول يفسخ عندنا وعندهم - فظهر فساد قولهم كله .

وأما قولهم : إنه قول جمهور العلماء ، فقد خالفهم من ليس دونهم ، كعطاء ، وابن سيرين ، والشعبي ، والحسن ، وليس قول الجمهور حجة ; لأنه لم يأت بذلك قرآن ، ولا سنة ، وما كان هكذا فلا يعتمد عليه في الدين .

وأما قولهم : إنه قول ابن عمر ، ولا يعرف له مخالف من الصحابة ، فإنه عن ابن عمر لا يصح ; لأنه من رواية أشعث بن سوار - وهو ضعيف - ولم يأمر الله تعالى بالرد عند التنازع إلا إلى كلامه ، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام لا إلى كلام صاحب ولا غيره ، فمن رد عند التنازع إلى غير كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فقد تعدى حدود الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .

قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }

وأما الرواية عن سعيد بن المسيب مضت السنة أن يبدأ بالعتاق في الوصية ، فهذا [ ص: 385 ] غير مسند ، ولا مرسل أيضا ، ومن أضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا فقد كذب عليه ، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ولم يقل سعيد رحمه الله إن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حكمه وقد يقول ابن المسيب وغيره : مثل هذا في قول صاحب .

ومن أعجب ممن لا يرى قول ابن عباس بأصح طريق إليه في قراءة أم القرآن في الصلاة على الجنازة أنها السنة حجة ، ثم يرى قول سعيد بن المسيب لذلك : حجة ، وحتى لو أن سعيد بن المسيب يقول : إن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله لكان مرسلا ، لا حجة فيه .

وأما احتجاجهم في تأكيد العتق بالخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق رقبة ، وإنفاذه عليه الصلاة والسلام عتق الشريك في حصة شريكه : فهما سنتا حق بلا شك ، وليس فيهما إلا فضل العتق والحكم فيه فقط ، ولم يخالفونا في شيء من هذا .

وليس في هذين الخبرين : أن العتق أوكد مما سواه من القرب أصلا ، ومن ادعى ذلك فيهما فقد كذب وقال الباطل ، بل قد جاء نص القرآن بالتسوية بين العتق والإطعام لمسكين قال تعالى : ( { وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة } )

وكذلك في كفارة الأيمان ، وهذه كفارة حلق الرأس في الحج لمن به أذى منه لو أعتق فيه ألف رقبة ما أجزأه ، وإنما يجزيه صيام أو صدقة أو نسك ، أفترى هذا دليلا على فضل النسك على العتق حاش لله من هذا ؟ إنما هي أحكام يطاع لها ولا يزاد فيها ما ليس فيها - ثم قد جاء النص الصحيح بأن بعض القرب أفضل من العتق ببيان لا إشكال فيه يكذب دعواهم في تأكيد العتق على سائر القرب .

حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن جعفر بن زياد نا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال { سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور } . [ ص: 386 ] حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان قال : سمعت ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير - هو ابن الأشج - أنه سمع كريبا مولى بن عباس يقول : سمعت ميمونة بنت الحارث - هي أم المؤمنين - تقول : { أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لو أعطيت أخوالك كان أعظم لأجرك } " .

فهذا نص جلي يغني الله تعالى به عن تقحم الكذب وتكلف القول بالباطل بالظن الكاذب والحمد لله رب العالمين .

ثم لو صح لهم أن العتق أفضل من كل قربة ، فمن أين لهم إبطال سائر ما تقرب به الموصي إلى الله تعالى إيثارا للعتق الذي هو أقرب ؟ وهذا تحكم لا يجوز ، ويلزم من قال بهذا أن يقول بما صح عن عطاء ، وابن جريج ، الذي رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أوصى إنسان في أمر فرأيت غيره خيرا منه ؟ قال : فافعل الذي هو خير للمساكين ، أو في سبيل الله فرأيت خيرا من ذلك فافعل الذي هو خير ما لم يسم إنسانا باسمه ، قال ابن جريج : ثم رجع عطاء عن ذلك فقال : لينفذ قوله - قال ابن جريج : وقوله الأول أعجب إلي .

قال أبو محمد : من أبطل شيئا مما أوصى به المسلم إيثارا للعتق فقد سلك سبيل قول عطاء الأول ، وقول ابن جريج ، إلا أنهم جمعوا إلى ذلك تناقضا قبيحا زائدا .

قال علي : فإذ قد بطل قول من يرى تبدية بعض الوصايا على بعض ، فلم يبق إلا قولنا ، أو قول من رأى التحاص في كل ذلك - : فنظرنا في ذلك ، فوجدنا من فعل ذلك قد خالف ما أوصى به الموصي أيضا بغير نص ، من قرآن ، أو سنة ، وهذا لا يجوز .

فإن قالوا : وأنتم قد خالفتم أيضا ما أوصى به الموصي ؟ قلنا : خلافنا لما أوصى غير خلافكم ; لأنكم قد خالفتموه بغير نص ، من قرآن ولا سنة ، ونحن خالفناه بنص القرآن والسنة ، وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره . [ ص: 387 ] قال أبو محمد : فلما عري هذا القول أيضا من البرهان لزمنا أن نأتي بالبرهان على صحة قولنا فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : وجدنا الله تعالى يقول : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز الوصية إلا بالثلث فأقل ، فصح يقينا أن من أوصى بثلثه فأقل : أنه مطيع لله تعالى ، فوجب إنفاذ طاعة الله عز وجل .

ووجدنا من أوصى بأكثر من الثلث عاصيا لله عز وجل إن تعمد ذلك على علم وقصد ، وإما مخطئا معفوا عنه الإثم إن كان جهل ذلك ، وفعله باطل بكل حال ، ولا يحل إنفاذ معصية الله عز وجل ، ولا إمضاء الخطأ .

قال الله تعالى : { ليحق الحق ويبطل الباطل } .

ووجدنا الموصي إذا أوصى في وجه ما بمقدار ما دون الثلث فقد وجب إنفاذ كل ما أوصى به ، كما ذكرنا ، فإذا زاد على الثلث كانت الزيادة باطلا لا يحل إنفاذه - فصح نص قولنا حرفا حرفا كما أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام

فإن قال قائل : ومن قال هذا قبلكم ؟ قلنا له : إن كان حنيفيا أو مالكيا ومن قال قبل مالك وأبي حنيفة بأقوالهما في هذه المسألة إلا أن بين الأمرين فرقا ، وهو أن أقوالهما لا يوافقهما نص ولا قياس ، وقولنا هو نفس ما أمر به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام .

وإنما في هذه المسألة قول عن عشرة من التابعين ، وواحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم عشرات ألوف ، فأين أقوال سائرهم ؟ فكيف وقد قال بتبدية ما ابتدأ به الموصي أبو حنيفة ، والشافعي ، كما ذكرنا في بعض أقوالهما ، وما نقول هذا متكثرين بأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مستوحشين إلى سواه ، ولكن لنري المخالف فساد اعتراضه ، وفاحش انتقاضه - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد : فإن لم يبدأ الموصي بشيء ، لكن قال فلان وفلان وفلان : يعطى كل واحد منهم كذا وكذا ، فلم يحمل الثلث ذلك ، فهاهنا يتحاصون ولا بد ; لأنه ليس لهم إلا الثلث فيجوز لهم ما أجازه الله تعالى ، ويبطل لهم ما أبطله الله تعالى ، وكذلك سائر القرب - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية