صفحة جزء
1786 - مسألة : وكل من ادعى على أحد وأنكر المدعى عليه فكلف المدعي البينة فقال : لي بينة غائبة ، أو قال : لا أعرف لنفسي بينة ، أو قال : لا بينة لي قيل له : إن شئت فدع تحليفه حتى تحضر بينتك أو لعلك تجد بينة ، وإن شئت حلفته وقد سقط حكم بينتك الغائبة جملة ، فلا يقضى لك بها أبدا ، وسقط حكم بينة تأتي بها بعد هذا عليه ، ليس لك إلا هذا فقط ، فأي الأمرين اختار قضي له به - ولم يلتفت له إلى بينة في تلك الدعوى بعدها ، إلا أن يكون تواتر يوجب صحة العلم ويقينه : أنه حلف كاذبا فيقضى عليه بالحق أو يقر بعد أن [ يكون ] حلف فيلزمه ما أقر به .

وقد اختلف الناس في هذا - : فروينا من طريق وكيع نا سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال : كان شريح يستحلف الرجل مع بينته ويقبل البينة بعد اليمين ، ويقول البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة .

وبالحكم على الحالف إذا أقام الطالب بينة بعد يمين المطلوب يقول سفيان الثوري ، والليث بن سعد . وبه يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .

وقال مالك : إن عرف الطالب أن له بينة فاختار تحليف المطلوب فقد سقط حكم بينته ولا يقضى بها له إن جاء بها بعد ذلك ، وأما إن لم يعرف أن له بينة فاختار تحليف المطلوب فحلف ، ثم وجد بينة ، فإنه يقضى له بها .

وقد روي عنه أنه قال : إن قال الطالب : إن له بينة بعيدة ولكن أحلفه لي الآن ، ثم إن حضرت بينتي أتيت بها .

فإنه يجاب إلى ذلك ويحلف له المطلوب ، ثم يقضى له ببينته إذا أحضرها - .

وقد روي نحو هذا عن شريح .

وقال بقولنا ابن أبي ليلى ، وأبو عبيد ، وأبو سليمان ، وجميع أصحابنا .

قال أبو محمد : لا متعلق لأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بشريح ; لأنهم [ ص: 442 ] قد خالفوه في تحليفه مقيم البينة مع بينته ، ومن الباطل أن يكون قول شريح حجة في موضع وغير حجة في آخر .

وأما قول مالك - فما نعلم أحدا قاله قبله في التفريق بين علم الطالب بأن له بينة وبين جهله بذلك - وهو قول لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا قول متقدم ، ولا قياس .

فإن قالوا : إذا علم أن له بينة ثم أحلفه فقد أسقط بينته .

فقلنا : ما فعل ولا أخبر أنه أسقطها .

وكذلك أيضا إذا لم يعلم بأن له بينة فأحلف خصمه فقد أسقط بينته أيضا ولا فرق .

وأما قول أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد ، في قضائهم بالبينة بعد يمين المنكر ، فإن قولهم : البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة ، فقول صحيح لو أيقنا أن البينة عادلة عند الله عز وجل ، وأن يمين الحالف فاجرة بلا شك ، وأما إذا لم يوقن أن البينة صادقة ، ولا أن اليمين فاجرة ، فليست الشهادة أولى من اليمين ، إذ الصدق في كليهما ممكن والكذب في كليهما ممكن ، إلا بنص قرآن أو سنة تأمرنا بإنفاذ البينة ; وإن حلف المنكر [ لا يعتد به ] ولا يوجد في ذلك نص أصلا - فسقط هذا القول بيقين ، بل وجدنا النص بمثل قولنا - والحمد لله رب العالمين .

كما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا زهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - جميعا عن أبي الوليد الطيالسي نا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن { علقمة بن وائل بن حجر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للطالب : بينتك ؟ قال : ليس لي بينة ، قال : يمينه قال : إذا يذهب بها - يعني بما لي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لك إلا ذلك }

" فنص عليه الصلاة والسلام على أنه ليس للطالب إلا بينته أو يمين المطلوب - فصح يقينا : أنه ليس إلا أحدهما لا كلاهما وبطل أن يكون له كلا الأمرين بيقين

فإن قيل : فإنكم تحكمون للطالب بعد يمين المطلوب بالتواتر ، وبعلم الحاكم وبإقراره .

قلنا : نعم ، وكل هذا ليس ببينة ، لكنه بيقين الحق ، ويقين الحق فرض إنفاذه ، وليست شهادة العدول كذلك ، بل يمكن أن يكونوا كاذبين ، أو مغفلين ، ولولا النص بقبولهم وباليمين ما حكمنا بشيء من ذلك بخلاف يقين العلم - وبالله تعالى التوفيق

التالي السابق


الخدمات العلمية