صفحة جزء
1808 - مسألة : وشهادة الأعمى مقبولة كالصحيح .

وقد اختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة كما قلنا .

وروي ذلك عن ابن عباس ، وصح ذلك عن الزهري ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، والشعبي ، وشريح ، وابن سيرين ، والحكم بن عتيبة ، وربيعة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن جريج ، وأحد قولي الحسن ، وأحد قولي إياس بن معاوية ، وأحد قولي ابن أبي ليلى - وهو قول مالك ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي سليمان ، وأصحابنا .

وقالت طائفة : تجوز شهادته فيما عرف قبل العمى ، ولا تجوز فيما عرف بعد العمى - وهو قول الحسن البصري ، وأحد قولي ابن أبي ليلى . [ ص: 533 ]

وهو قول أبي يوسف ، والشافعي ، وأصحابه .

وقالت طائفة : تجوز شهادته في الشيء اليسير - : روينا ذلك من طريق إبراهيم النخعي ، قال : كانوا يجيزون شهادة الأعمى في الشيء الخفيف .

وقالت طائفة : لا تقبل في شيء أصلا ، إلا في الأنساب - وهو قول زفر ، رويناه من طريق عبد الرزاق عن وكيع عن أبي حنيفة ، ولا يعرف أصحابه هذه الرواية .

وقالت طائفة : لا تقبل جملة - روينا ذلك عن علي بن أبي طالب ، وعن إياس بن معاوية ، وعن الحسن ، والنخعي : أنهما كرها شهادة الأعمى .

وقال أبو حنيفة : لا تقبل في شيء أصلا ، لا فيما عرف قبل العمى ، ولا فيما عرف بعده .

قال أبو محمد : أما من أجازه في الشيء اليسير دون الكثير ، فقول في غاية الفساد ، لأنه لا برهان على صحته ، وما حرم الله تعالى من الكثير إلا ما حرم من القليل .

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من اقتطع بيمينه مال مسلم ولو قضيبا من أراك أوجب الله له النار } .

وأيضا فإنه ليس في العالم كثير إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه ، وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر منه - فهو قول لا يعقل فسقط .

وأما من قبله في الأنساب فقط فقسمة فاسدة ، فإنه لا يعرف الأنساب إلا من حيث يعرف المخبرين بغير ذلك والمشهدين له منهم فقط - فبطل هذا القول أيضا .

وأما من لم يقبله لا فيما عرف قبل العمى ولا بعده ، فقول فاسد لا برهان على صحته أصلا ، ولا فرق بين ما عرفه في حال صحته ، وبين ما عرفه الصحيح وتمادت صحته وبصره .

فإن قيل : هو قول روي عن علي بن أبي طالب .

قلنا : هذا كذب ، ما جاء قط عن علي أنه قال : لا يقبل فيما عرف قبل العمى - وما عرف هذا عن أحد قبل أبي حنيفة . [ ص: 534 ]

وأيضا - فإنه لا يصح عن علي ; لأنه من طريق الأسود بن قيس عن أشياخ من قومه أو عن الحجاج بن أرطاة - وقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك - فسقط هذا القول .

وأما من أجازه فيما علم قبل العمى ، ولم يجزه فيما علم بعد العمى ، فإنهم احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه سئل عن الشهادة ؟ فقال : ألا ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع } .

قال أبو محمد : وهذا خبر لا يصح سنده ; لأنه من طريق محمد بن سليمان بن مسمول - وهو هالك - عن عبيد الله بن سلمة بن وهرام - وهو ضعيف - لكن معناه صحيح ، وقالوا : الأصوات قد تشتبه ، والأعمى كمن أشهد في ظلمة أو خلف حائط - ما نعلم لهم غير هذا .

قال أبو محمد : إن كانت الأصوات تشتبه فالصور أيضا قد تشتبه ، وما يجوز لمبصر ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن ولا يشك فيه .

ومن أشهد خلف حائط أو في ظلمة فأيقن بلا شك بمن أشهده فشهادته مقبولة في ذلك .

ولو لم يقطع الأعمى بصحة اليقين على من يكلمه لما حل له أن يطأ امرأته ، إذ لعلها أجنبية ، ولا يعطي أحدا دينا عليه ، إذ لعله غيره ، ولا أن يبيع من أحد ولا أن يشتري .

وقد قبل الناس كلام أمهات المؤمنين من خلف الحجاب .

فإن قالوا : إنما حل له وطء امرأته بغلبة الظن ، كما يحل له ذلك في دخولها عليه أول مرة ولعلها غيرها .

قلنا : هذا باطل ولا يجوز له وطؤها حتى يوقن أنها التي تزوج .

وقد أمر الله تعالى بقبول البينة ، ولم يشترط أعمى من مبصر { وما كان ربك نسيا } .

وما نعلم في الضلالة بعد الشرك والكبائر أكبر ممن دان الله برد شهادة جابر بن عبد الله ، وابن أم كلثوم ، وابن عباس ، وابن عمر - .

ونعوذ بالله من الخذلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية