صفحة جزء
1866 - مسألة : ولا يحرم وطء حرام نكاحا حلالا إلا في موضع واحد : وهو أن يزني الرجل بامرأة ، فلا يحل نكاحها لأحد ممن تناسل منه أبدا .

وأما لو زنى الابن بها ثم تابت لم يحرم بذلك نكاحها على أبيه وجده .

ومن زنى بامرأة لم يحرم عليه إذا تاب أن يتزوج أمها ، أو ابنتها - والنكاح الفاسد والزنا في هذا كله سواء .

برهان ذلك - : قول الله عز وجل : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } .

قال أبو محمد : النكاح في اللغة التي نزل بها القرآن يقع على شيئين - : أحدهما - الوطء ، كيف كان بحرام أو بحلال . والآخر - العقد ، فلا يجوز تخصيص الآية بدعوى بغير نص من الله تعالى ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم فأي نكاح نكح الرجل المرأة - حرة أو أمة بحلال أو بحرام - فهي حرام على ولده بنص القرآن .

وقد بينا أن ولد الولد ولد بقوله تعالى : { يا بني آدم } .

وهذا قول أبي حنيفة ، وجماعة من السلف .

ولم يأت نص بتحريم نكاح حلال من أجل وطء حرام ، فالقول به لا يحل ; لأنه شرع لم يأذن به الله عز وجل .

وممن روينا عنه أن وطء الحرام يحرم الحلال - : روينا ذلك عن ابن عباس ، وأنه فرق بين رجل وامرأته بعد أن ولدت له سبعة رجال كلهم صار رجلا يحمل السلاح ، لأنه كان أصاب من أمها ما لا يحل .

وعن مجاهد : لا يصلح لرجل فجر بامرأة أن يتزوج أمها .

ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة قال : قال إبراهيم النخعي : إذا كان الحلال يحرم الحرام فالحرام أشد تحريما .

وعن [ ص: 148 ] ابن معقل : هي لا تحل في الحلال فكيف تحل له في الحرام ومن طريق وكيع عن جرير بن حازم عن قيس بن سعد عن مجاهد قال : إذا قبلها أو لامسها أو نظر إلى فرجها من شهوة حرمت عليه أمها وابنتها .

ومن طريق وكيع عن عبد الله بن مسيح قال : سألت إبراهيم النخعي عن رجل فجر بامرأة فأراد أن يشتري أمها أو يتزوجها ؟ فكره ذلك .

وعن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار : أنه سأل عكرمة مولى ابن عباس عن رجل فجر بامرأة أيصلح له أن يتزوج جارية أرضعتها هي بعد ذلك ؟ قال : لا .

وعن الشعبي ما كان في الحلال حراما فهو في الحرام حرام .

وعن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعروة بن الزبير فيمن زنى بامرأة أنه لا يصلح له أن يتزوج ابنتها أبدا - وهو قول سفيان الثوري ؟ نعم ، ولقد روينا من طريق البخاري قال : يروى عن يحيى الكندي عن الشعبي ، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ، قالا جميعا : من أولج في صبي فلا يتزوج أمه - وبه يقول الأوزاعي حتى أنه قال : من لاط بغلام لم يحل للفاعل أن يتزوج ابنة المفعول به .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، إذا لمس لشهوة حراما ، أو نظر إلى فرجها لشهوة لم يحل له نكاح أمها ولا ابنتها ، وحرم نكاحها على أبيه وابنه أبدا ، وهو أحد قولي مالك ، إلا أنه لا يحرم فيه إلا بالوطء فقط .

وخالفهم آخرون : فلم يحرموا بوطء حرام نكاحا حلالا - روينا ذلك أيضا عن ابن عباس .

ومن طريق حماد بن سلمة نا يحيى بن يعمر قال : لا يحرم الحرام الحلال .

ومن طريق أبي عبيد نا يحيى بن سعيد - هو القطان - نا ابن أبي ذئب عن خاله الحارث بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، قالا جميعا : الحرام لا يحرم الحلال .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري : أنه سئل عمن فجر بامرأة ؟ فقال : لا يحرم الحرام الحلال .

ومن طريق مجاهد ، وسعيد بن جبير ، قالا جميعا : لا يحرم الحرام الحلال - وهو [ ص: 149 ] أحد قولي مالك - وهو قول الليث بن سعد ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهما ، وأصحابنا .

قال أبو محمد : احتج المانعون من ذلك بالقياس على عموم قوله عز وجل : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } .

وبمرسلين - : في أحدهما ابن جريج : أخبرت عن ابن بكر بن عبد الرحمن بن أم الحكم { : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امرأة كان زنى بها في الجاهلية أينكح الآن ابنتها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا أرى ذلك ولا يصلح لك أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما اطلعت عليه منها } .

والآخر - فيه الحجاج بن أرطاة عن أبي هانئ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها } .

قال أبو محمد : أما القياس على الآية فالقياس كله باطل .

وأما الخبران - فمرسلان ، ولا حجة في مرسل ، لا سيما وفي أحدهما : انقطاع آخر ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن أم الحكم مجهول - وفي الآخر : الحجاج بن أرطاة - وهو هالك - عن أبي هانئ - وهو مجهول .

وقد عارضهما خبر آخر - لا نورده احتجاجا به ، لكن معارضة للفاسد بما إن لم يكن أحسن منه لم يكن دونه ، وهو ما روي من طريق عبد الله بن نافع عن المغيرة بن إسماعيل عن عثمان بن عبد الرحمن الزهري عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عمن اتبع امرأة حراما أينكح ابنتها أو أمها ؟ فقال : لا يحرم الحرام ، وإنما يحرم ما كان نكاحا حلالا } .

وموهوا أيضا - بأن قالوا : من وطئ أمته ، أو امرأته حائضا ، أو إحداهما : محرم ، أو معتكف ، أو في نهار رمضان ، أو أمته الوثنية ، أو ذمية ، عمدا ، ذاكرا ، فإنه وطئ حراما - ولا خلاف في أنه وطء محرم لأمها وابنتها ، ومحرم لها على آبائه ، وبنيه ، فكذلك كل وطء حرام ؟

قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، بل وطئ فراشا حلالا ، وإنما حرم لعلة لو [ ص: 150 ] ارتفعت حل ، ولا خلاف في أنه لا حل عليه ، لأنه لم يطأ إلا زوجته ، أو ملك يمين صحيح ، فلاح الفرق بين الأمرين - وبالله تعالى التوفيق .

وموهوا أيضا - بأن قالوا : من وطئ في عقد فاسد - بجهل أو بغيره - فهو وطء محرم ، وهو يحرم أمها وابنتها ، ويحرمها على أبيه وابنه .

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم في صحته ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا حجة في سواهما - ونحن نقول : إنها حلال لولده أن ينكحها ، وحلال له نكاح أمها وابنتها ، لأنها ليست زوجة له ، ولا ملك يمين ، ولا تحرم عليه أمها ، ولا ابنتها ، ولا تحرم على والده ، لأنها ليست من حلائل ابنه ، ولا من نسائه ، ولو كانت كذلك لما حل أن يفسخ نكاحه منها ، ولتوارثا ، فلما لم يكن بينهما ميراث صح أنها ليست من نسائه ، وإنما تحرم على الابن فقط ، لأنها مما نكح أبوه إن كان وطئها ، وإلا فلا تحرم عليه .

وموهوا أيضا - بأن قالوا : من وطئ أمة مشتركة بينه وبين غيره ، فهو وطء حرام ، وهي تحرم بذلك على أبيه وابنه ، وتحرم عليه أمها وابنتها .

قال أبو محمد : وهذا باطل ، بل هو زنى محض وما وجدنا في دين الله تعالى : امرأة تحل أن يتداولها رجلان ، هذه أخلاق الكلاب ، وملة الشيطان ، لا أخلاق الناس ، ولا دين الله عز وجل ، ولا تحرم بذلك عليه أمها ، ولا ابنتها ، ولا تحرم على ابنه إنما تحرم على الأب فقط ، لما قدمنا - .

وبالله تعالى التوفيق .

وموهوا بأن قالوا : إذا اجتمع الحرام والحلال غلب الحرام ، فقول لا يصح ، ولا جاء به قرآن ، ولا سنة قط - ويلزم من صحح هذا القول أن يقول : إن من زنى بامرأة لم يحل له نكاحها أبدا ، لأنه قد اجتمع فيها حرام وحلال .

وموه بعضهم بحديث ابن وليدة زمعة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحقه بزمعة ، وأمر سودة بأن تحتجب عنه } .

قال أبو محمد : قد رمنا أن نفهم وجه احتجاجهم بهذا الخبر فما قدرنا عليه ، وهي شغيبة باردة مموهة - والخبر صحيح ظاهر الوجه ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ألحقه بزمعة بظاهر ولادته على فراش زمعة ، وأفتى أخته أم المؤمنين - رضي الله عنها - بأن لا يراها ، خوف أن [ ص: 151 ] يكون من غير نطفة أبيها ، واحتجاب المرأة عن أخيها شقيقها مباح إذا لم تقطع رحمه ولا منعته رفدها لم يمنع من ذلك نص - وبالله تعالى التوفيق .

وإذ قد بطل كل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين - فلنأت بالبرهان على صحة قولنا ، وهو أن الله عز وجل فصل لنا ما حرم علينا من المناكح إلى أن أتم ، ثم قال تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فمن حرم شيئا من غير ما فصل تحريمه في القرآن فقد خالف القرآن ، وحرم ما أحل الله تعالى ، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ، وهذا عظيم جدا - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية