صفحة جزء
198 - مسألة : وصفة الوضوء أنه إن كان انتبه من نوم فعليه أن يغسل يديه ثلاثا كما قد ذكرنا قبل ، وأن يستنشق وأن يستنثر ثلاثا ليطرد الشيطان عن خيشومه كما قد وصفنا ، وسواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد ، فإن كان قد فعل كل ذلك فليس عليه أن يعيد ذلك الوضوء من حدث غير النوم ، فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه لزمه غسل يده أيضا ثلاثا إن قام من نومه ، ثم نختار له أن يتمضمض ثلاثا ، وليست المضمضة فرضا ، وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة ، عمدا تركها أو [ ص: 295 ] نسيانا ، ثم ينوي وضوءه للصلاة كما قدمنا ، ثم يضع الماء في أنفه ويجبذه بنفسه ولا بد ، ثم ينثره بأصابعه ولا بد مرة فإن فعل الثانية والثالثة فحسن ، وهما فرضان لا يجزئ الوضوء ولا الصلاة دونهما ، لا عمدا ولا نسيانا ، ثم يغسل وجهه من حد منابت الشعر في أعلى الجبهة إلى أصول الأذنين معا إلى منقطع الذقن ويستحب أن يغسل ذلك ثلاثا أو ثنتين وتجزئ مرة ، ليس عليه أن يمس الماء ما انحدر من لحيته تحت ذقنه ، ولا أن يخلل لحيته ، ثم يغسل ذراعيه من منقطع الأظفار إلى أول المرافق مما يلي الذراعين ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ، وتجزئ مرة ، ولا بد ضرورة من إيصال الماء بيقين إلى ما تحت الخاتم بتحريكه عن مكانه ، ثم يمسح رأسه كيفما مسحه أجزأه ، وأحب إلينا أن يعم رأسه بالمسح ، فكيفما مسحه بيديه أو بيد واحدة أو بأصبع واحدة أجزأه .

فلو مسح بعض رأسه أجزأه وإن قل ، ونستحب أن يمسح رأسه ثلاثا أو مرتين وواحدة تجزئ ، وليس على المرأة والرجل مس ما انحدر من الشعر عن منابت الشعر على القفا والجبهة ثم يستحب له مسح أذنيه ، إن شاء بما مسح به رأسه وإن شاء بماء جديد ، ويستحب تجديد الماء لكل عضو ، ثم يغسل رجليه من مبتدإ منقطع الأظفار إلى آخر الكعبين مما يلي الساق ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ومرة تجزئ ، وتستحب تسمية الله تعالى على الوضوء ، وإن لم يفعل فوضوءه تام .

أما قولنا في المضمضة فلم يصح بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ، وإنما هي فعل فعله عليه السلام ، وقد قدمنا أن أفعاله صلى الله عليه وسلم ليست فرضا ، وإنما فيها الإيتار به عليه السلام ، لأن الله تعالى إنما أمرنا بطاعة أمر نبيه عليه السلام ولم يأمرنا بأن نفعل أفعاله .

قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وأما الاستنشاق والاستنثار فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان هو ابن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر } ورويناه أيضا من طريق همام بن منبه عن [ ص: 296 ] أبي هريرة مسندا ، ومن طريق سلمة بن قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي : قال مالك والشافعي : ليس الاستنشاق والاستنثار فرضا في الوضوء ولا في الغسل من الجنابة ، وقال أبو حنيفة : هما فرض في الغسل من الجنابة وليسا فرضا في الوضوء ، وقال أحمد بن حنبل وداود : الاستنشاق والاستنثار فرضان في الوضوء وليسا فرضين في الغسل من الجنابة ، وليست المضمضة فرضا لا في الوضوء ولا في غسل الجنابة ، وهذا هو الحق .

وممن صح عنه الأمر بذلك جماعة من السلف . روينا عن علي بن أبي طالب إذا توضأت فانثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث ، وعن شعبة : قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض ويستنشق قال : يستقبل .

وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض ويستنشق قال : أحب إلي أن يعيد يعني الصلاة .

وعن وكيع عن سفيان الثوري عن مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى قالا جميعا " إذا نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد " يعنون الصلاة - وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري من نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد - يعني الصلاة - وعن ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن هشام عن الحسن في المضمضة والاستنشاق والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين : ثنتان تجزيان وثلاث أفضل .

قال علي وشغب قوم بأن الاستنشاق والاستنثار ليسا مذكورين في القرآن وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى } .

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى يقول : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فكل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله تعالى أمر به .

وأما قولنا في الوجه ، فإنه لا خلاف في أن الذي قلنا فرض غسله قبل خروج اللحية ، فإذا خرجت اللحية فهي مكان ما سترت ، ولا يسقط غسل شيء يقع عليه [ ص: 297 ] اسم الوجه بالدعوى ، ولا يجوز أن يؤخذ بالرأي فرق بين ما يغسل الأمرد من وجهه والكوسج والألحى .

وأما ما انحدر عن الذقن من اللحية وما انحدر عن منابت الشعر من القفا والجبهة ، فإنما أمرنا عز وجل بغسل الوجه ومسح الرأس وبالضرورة يدري كل أحد أن رأس الإنسان ليس في قفاه ، وأن الجبهة من الوجه المغسول ، لا حظ فيها للرأس الممسوح ، وأن الوجه ليس في العنق ولا في الصدر فلا يلزم في كل ذلك شيء ، إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة .

وأما قولنا في غسل الذراعين وما تحت الخاتم والمرفقين ، فإن الله تعالى قال : { وأيديكم إلى المرافق } فمن ترك شيئا ولو قدر شعرة مما أمر الله تعالى بغسله فلم يتوضأ كما أمره الله تعالى ، ومن لم يتوضأ كما أمره الله تعالى فلم يتوضأ أصلا ، ولا صلاة له فوجب إيصال الماء بيقين إلى ما ستر الخاتم من الأصبع ، وأما المرافق فإن " إلى " في لغة العرب التي بها نزل القرآن تقع على معنيين ، تكون بمعنى الغاية ، وتكون بمعنى مع ، قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } بمعنى مع أموالكم ، فلما كانت تقع " إلى " على هذين المعنيين وقوعا صحيحا مستويا ، لم يجز أن يقتصر بها على أحدهما دون الآخر ، فيكون ذلك تخصيصا لما تقع عليه بلا برهان ، فوجب أن يجزئ غسل الذراعين إلى أول المرفقين بأحد المعنيين ، فيجزئ ، فإن غسل المرافق فلا بأس أيضا .

وأما قولنا في مسح الرأس فإن الناس اختلفوا ، فقال مالك بعموم مسح الرأس في الوضوء . وقال أبو حنيفة يمسح من الرأس فرضا مقدار ثلاث أصابع ، وذكر عنه تحديد الفرض مما يمسح من الرأس بأنه ربع الرأس ، وإنه إن مسح رأسه بأصبعين أو بأصبع لم يجزه ذلك ، فإن مسح بثلاث أصابع أجزأه .

وقال سفيان الثوري : يجزئ من الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة ، ويجزئ مسحه بأصبع وببعض أصبع ، وحد أصحاب الشافعي ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين ، ويجزئ بأصبع وببعض أصبع ، وأحب ذلك إلى الشافعي العموم بثلاث مرات .

وقال أحمد بن حنبل : يجزئ المرأة أن تمسح بمقدم رأسها ، وقال الأوزاعي والليث : يجزئ مسح مقدم الرأس فقط ومسح بعضه كذلك ، وقال داود : [ ص: 298 ] يجزئ من ذلك ما وقع عليه اسم مسح .

وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر وأحب إليه العموم ثلاثا ، وهذا هو الصحيح ، وأما الاقتصار على بعض الرأس فإن الله تعالى يقول : { وامسحوا برءوسكم } والمسح في اللغة التي نزل بها القرآن هو غير الغسل بلا خلاف ، والغسل يقتضي الاستيعاب والمسح لا يقتضيه حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا التيمي هو سليمان - عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن هو البصري - عن ابن المغيرة بن شعبة هو حمزة - عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة } حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود ثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التيمي قال : سمعت أبي يحدث عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين وعلى ناصيته وعلى عمامته } قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة .

وممن قال بهذا جماعة من السلف .

روينا عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يدخل يده في الوضوء فيمسح به مسحة واحدة اليافوخ فقط .

ورويناه أيضا من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر . وعن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير : إنها كانت تمسح عارضها الأيمن بيدها اليمنى ، وعارضها الأيسر بيدها اليسرى من تحت الخمار وفاطمة هذه أدركت جدتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وروت عنها .

[ ص: 299 ] وعن وكيع عن قيس عن أبي هاشم عن النخعي قال : إن أصاب هذا - يعني مقدم رأسه وصدغيه - أجزأه - يعني في الوضوء - وعن وكيع عن إسماعيل الأزرق عن الشعبي قال : إن مسح جانب رأسه أجزأه وروي أيضا عن عطاء وصفية بنت أبي عبيد وعكرمة والحسن وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم .

قال أبو محمد : ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف لما رويناه عن ابن عمر في ذلك ، ولا حجة لمن خالفنا فيمن روى عنه من الصحابة وغيرهم مسح جميع رأسه ; لأننا لا ننكر ذلك بل نستحبه ، وإنما نطالبهم بمن أنكر الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء فلا يجدونه .

قال علي : ومن خالفنا في هذا فإنهم يتناقضون ، فيقولون في المسح على الخفين : إنه خطوط لا يعم الخفين ، فما الفرق بين مسح الخفين ومسح الرأس ؟ وأخرى وهي أن يقال لهم : إن كان المسح عندكم يقتضي العموم فهو والغسل سواء ، وما الفرق بينه وبين الغسل ؟ وإن كان كذلك فلم تنكرون مسح الرجلين في الوضوء وتأبون إلا غسلهما إن كان كلاهما يقتضي العموم ؟ وأيضا فإنكم لا تختلفون في أن غسل الجنابة يلزم تقصي الرأس بالماء ، وأن ذلك لا يلزم في الوضوء ، فقد أقررتم بأن المسح بالرأس خلاف الغسل ، وليس هنا فرق إلا أن المسح لا يقتضي العموم فقط ، وهذا ترك لقولكم .

وأيضا فما تقولون فيمن ترك بعض شعرة واحدة في الوضوء فلم يمسح عليها ؟ فمن قولهم : إنه يجزيه ، وهذا ترك منهم لقولهم .

فإن قالوا : إنما نقول بالأغلب ، قيل لهم : فترك شعرتين أو ثلاثا ؟ وهكذا أبدا ، فإن حدوا حدا قالوا بباطل لا دليل عليه ، وإن تمادوا صاروا إلى قولنا ، وهو الحق .

فإن قالوا : من عم رأسه فقد صح أنه توضأ ، ومن لم يعمه فلم يتفق على أنه توضأ قلنا لهم فأوجبوا بهذا الدليل نفسه الاستنشاق فرضا والترتيب فرضا ، وغير ذلك مما فيه ترك لجمهور مذهبهم .

إن قالوا : مسحه عليه السلام مع ناصيته على عمامته يدل على العموم ، قلنا : هذا أعجب شيء لأنكم لا تجيزون ذلك من فعل من فعله ، فكيف تحتجون بما لا يجوز عندكم وأيضا فمن لكم بأنه فعل واحد ؟ بل هما فعلان متغايران على ظاهر الأخبار في ذلك .

[ ص: 300 ] وأما تخصيص أبي حنيفة لربع الرأس أو لمقدار ثلاثة أصابع ففاسد ; لأنه قول لا دليل عليه ، فإن قالوا : هو مقدار الناصية ، قلنا لهم : ومن لكم بأن هذا هو مقدار الناصية ؟ والأصابع تختلف ، وتحديد ربع الرأس يحتاج إلى تكسير ومساحة وهذا باطل ، وكذلك قولهم في منع المسح بأصبع أو بأصبعين .

فإن قالوا : إنما أردنا أكثر اليد ، قلنا لهم : أنتم لا توجبون المسح باليد فرضا ، بل تقولون إنه لو وقف تحت ميزاب فمس الماء منه مقدار ربع رأسه أجزأه ، فظهر فساد قولهم .

ويسألون أيضا عن قولهم بأكثر اليد ؟ فإنهم لا يجدون دليلا على تصحيحه ، وكذلك يسألون عن اقتصارهم على مقدار الناصية ؟ فإن قالوا : اتباعا للخبر في ذلك ، قيل لهم : فلم تعديتم الناصية إلى مؤخر الرأس ؟ وما الفرق بين تعديكم الناصية إلى غيرها وبين تعدي مقدارها إلى غير مقدارها ؟ وأما قول الشافعي فإن النص لم يأت بمسح الشعر فيكون ما قال من مراعاة عدد الشعر ، وإنما جاء القرآن بمسح الرأس ، فوجب أن لا يراعى إلا ما يسمى مسح الرأس فقط ، والخبر الذي ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو بعض ما جاء به القرآن فالآية أعم من ذلك الخبر ، وليس في الخبر منع من استعمال الآية ، ولا دليل على الاقتصار على الناصية فقط . وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية