صفحة جزء
1962 - مسألة : وطلاق المكره غير لازم له .

وقد اختلف الناس في هذا - : فروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سليمان الشيباني عن علي بن حنظلة عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أخفته أو ضربته أو أوثقته .

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك بن قدامة الجمحي حدثني أبي أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا فأتت امرأته فقالت له : لأقطعن الحبل ، أو لتطلقني ؟ [ ص: 463 ] فناشدها الله تعالى فأبت ، فطلقها ، فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له ؟ فقال له عمر : ارجع إلى امرأتك ، فإن هذا ليس بطلاق .

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن : أن علي بن أبي طالب كان لا يجيز طلاق المكره .

ومن طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ثابت الأعرج ، قال : سألت ابن عمر ، وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعا : ليس بشيء .

ومن طريق الحجاج بن المنهال نا هشيم نا عبيد الله بن طلحة الخزاعي نا أبو يزيد المدني عن ابن عباس قال : ليس لمكره ولا لمضطر طلاق .

ومن طريق عبد الرزاق عن عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن ابن عباس أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا .

وصح عن الحسن البصري : طلاق المكره لا يجوز - وهو أحد قولي عمر بن عبد العزيز - وصح أيضا عن عطاء ، وطاوس ، وأبي الشعثاء جابر بن زيد وعن الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن المغيرة عن إبراهيم قال : الطلاق ما عني به الطلاق - وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم - وأحد قولي الشافعي .

وروي خلاف ذلك عن عمر - : كما روينا عن سعيد بن منصور نا فرج بن فضالة حدثني عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة سلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت : والله لأنفذنك أو لتطلقني ؟ فطلقها ثلاثا ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأمضى طلاقها .

وعن ابن عمر روينا عنه أنه سأله رجل فقال له : إنه وطئ فلان على رجلي حتى أطلق امرأتي ، فطلقتها ، فكره له الرجوع إليها - وهذا يخرج على أنه لم ير ذلك إكراها - وروي أيضا عن عمر بن عبد العزيز .

وروينا عن علي بن أبي طالب كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ، وقد روينا عنه قبل إبطال طلاق المكره وروي أيضا عن إبراهيم - وصح عن أبي قلابة ، والزهري ، وقتادة ، وسعيد بن جبير - . [ ص: 464 ]

وبه أخذ أبو حنيفة ، وأصحابه .

وقول ثالث - وهو أن طلاق المكره إن أكرهه اللصوص لم يلزمه ، وإن أكرهه السلطان لزمه - : رويناه عن الشعبي .

وقول رابع - رويناه عن إبراهيم أنه قال : من أكره ظلما على الطلاق فورك إلى شيء آخر لم يلزمه ، فإن لم يورك لزمه ، ولا ينتفع الظالم بالتوريك وهو أحد قولي سفيان .

قال أبو محمد : احتج من أجازه بخبر رويناه من طريق بقية عن الغازي بن جبلة عن صفوان بن عمرو الأصم الطائي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { أن رجلا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له : طلقني أو لأذبحنك ؟ فناشدها الله تعالى فأبت ، فطلقها ثلاثا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا قيلولة في الطلاق } .

ومن طريق سعيد بن منصور حدثني الوليد بن مسلم عن الغازي بن جبلة الجبلاني أنه سمع صفوان يقول { : إن رجلا جلست امرأته على صدره فوضعت السكين على فؤاده وهي تقول : لتطلقني أو لأقتلنك ؟ فطلقها ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام : لا قيلولة في الطلاق } وهذا خبر في غاية السقوط ، صفوان منكر الحديث - وبقية ضعيف - والغازي بن جبلة مغمور .

وذكروا خبرا آخر - من طريق عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال { كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله } .

وهذا شر من الأول ; لأن عطاء بن عجلان مذكور بالكذب

والعجب أن المحتجين به أول المخالفين له لأصل فاسد لهم - : أما أصلهم - فإنهم يقولون في الأخبار الثابتة : إذا خالف شيئا منها راويه فهو دليل على سقوطه ، وهذا خبر إنما ذكر من طريق ابن عباس ، والثابت عن ابن عباس إبطال طلاق المكره كما ذكرنا آنفا .

وأما خلافهم له - فإنهم لا يجيزون طلاق الصبي الذي لم يبلغ ، وعموم هذا الخبر الملعون يقتضي جوازه ، كما يقتضي عندهم جواز طلاق المكره . [ ص: 465 ]

فإن ادعوا في إبطال طلاق الصبي الإجماع على عادتهم في استسهال الكذب في دعوى الإجماع بين كذبهم ما روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عمن سمع علي بن أبي طالب أنه كان يقول " اكتموا الصبيان النكاح " .

من طريق الحجاج بن المنهال نا هشيم نا المغيرة عن إبراهيم أنه كان لا يهاب شيئا من أمر الغلام إلا الطلاق .

ومن طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب في طلاق الصبي قال : إذا صام رمضان وأحصى الصلاة جاز طلاقه .

من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يكتمون الصبيان النكاح إذا زوجوهم مخافة الطلاق .

فإن قيل : ففي هذا الخبر " وكان إذا وقع لم يره شيئا " .

قلنا : نعم ، هذه حكاية عن إبراهيم ، لا عن أصحابه الذين حكي عنهم كتمان الصبيان زواجهم مخافة الطلاق .

واحتجوا أيضا بآثار فيها { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة } وهي أخبار موضوعة ، لأنها إنما فيها حكم الهازل ، والجاد ، لا ذكر للمكره فيها

وبعد : فإنما رويناها من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك - وهو منكر الحديث مجهول - لأن قوما قالوا : عن عبد الرحمن بن حبيب ، وقوما قالوا : حبيب بن عبد الرحمن ، وهو مع ذلك متفق على ضعف روايته .

ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { ما بال رجال يلعبون بحدود الله ، يقول أحدهم : قد طلقت ثم راجعت } وهذا مرسل ، ولا حجة في مرسل ، وليس فيه أيضا جواز طلاق مكره .

أو عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال { من طلق لاعبا أو أنكح لاعبا أو نكح لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز } ولا حجة في مرسل ، وليس فيه أيضا لطلاق مكره أثر . [ ص: 466 ]

ومن طريق فيها إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى - وهو مذكور بالكذب - ثم ليس فيه إلا من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا .

وليس فيه للمكره ذكر .

أو من طريق ابن جريج أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا فاحش الانقطاع ، ثم ليس للمكره ذكر ، وإنما فيه { من نكح لاعبا أو طلق لاعبا } وإن قالوا : هو طلاق ؟ قلنا : كلا ، ليس طلاقا إنما الطلاق ما نطق به المطلق مختارا بلسانه قاصدا بقلبه ، كما أمر الله تعالى ، وأنتم تسمون نكاح المتعة ، ونكاح عشر : نكاحا فأجيزوه لذلك ؟ فإذ قد بطل كل ما موهوا به فعلينا إيراد البرهان - بحول الله وقوته على بطلان طلاق المكره - : فمن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } فصح أن كل عمل بلا نية فهو باطل لا يعتد به ، وطلاق المكره عمل بلا نية ، فهو باطل ، وإنما هو حاك لما أمر أن يقوله فقط ، ولا طلاق على حاك كلاما لم يعتقده .

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } رويناه من طريق الربيع بن سليمان المؤذن نا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

ومن أعظم تناقضهم : أنهم يجيزون طلاق المكره ، ونكاحه ، وإنكاحه ، ورجعته ، وعتقه - ولا يجيزون بيعه ، ولا ابتياعه ، ولا هبته ، ولا إقراره - وهذا تلاعب بالدين - ونعوذ بالله من الخذلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية