صفحة جزء
قال ابن وهب : أخبرني خالد بن حميد المهري عمن أخبره عن ابن شهاب أن عثمان أرسل إلى زيد بن ثابت يشاوره في أمر حبان بن منقذ ؟ فقال زيد : اختلج ابنه منها ، ترجع الحيضة ؟ ففعل عثمان ، وذكر الخبر - وبه يقول مالك .

قال أبو محمد : هذا حقا هو الفرار من كتاب الله عز وجل أن تمنع رضاع ولدها ليتعجل حيضها فتتم عدتها ، وتبطل ميراثها - وإنما كان الوجه - إذا هو عندهم فار من كتاب الله - أن يبطلوا الطلاق الذي به أراد منعها الميراث ، كما فعل المالكيون في نكاح المريض .

وأما تجويزهم الطلاق وإبقاؤهم الميراث فمناقضة ظاهرة الخطأ .

وقد أوردنا قبل عن عثمان أنه لم يجز ذلك الطلاق ، إذ أمر عبد الرحمن بمراجعتها بعد أن طلقها ثلاثا .

ويقال لهم : أترون عبد الرحمن بن عوف فر من كتاب الله تعالى ؟ حاشا له من ذلك ، فمن قولهم : إنما فعل ذلك بمن لا يظن به الفرار لقطع الذريعة ؟ فقلنا : فهلا قلتم بقول أبي حنيفة في أن من أكرهها أبو زوجها على الوطء أنها ترث ; لأنه قد يمكن أن يدس الزوج أباه لذلك ليمنعها الميراث فرب فاسق يستسهل هذا في حريمته فيكون قطعا للذريعة .

وهلا إن كنتم مالكيين قلتم بذلك في المرتد في مرضه ، إذ قلتم : لا نتهمه أنه ارتد فرارا من ميراثها ، فكم من الناس فر إلى أرض الحرب وارتد لغضب غضبه ، وليغيظ جاره بأذاه له ؟ وهذا كله تناقض لا خفاء به فكيف من ارتد لئلا ترثه ثم راجع الإسلام ؟ وهلا ورثوها منه - وإن ماتت قبله ؟ فلا فرق بين توريثها وهي ميتة وبين توريثها بالزوجية وهي أجنبية زوجة لغيره لو وطئها هو لرجم ورجمت ؟ [ ص: 497 ] فإن قالوا : لم يأت بهذا أثر ؟ قلنا : ولا جاء في المبارز أثر فهلا قستم هذا على المطلقة كما قستم ذلك على المطلق ؟ ولا ورثتموها من المرتد ، فقد قال بتوريث مال المرتد لورثته من المسلمين طائفة من السلف .

ولا ندري ما قولهم في مريض تحته مملوكة فأعتقت في مرضه فاختارت فراقه ؟ وفي مملوك تحته حرة فطلقها بتاتا ، وهو مريض ثم أعتق هو ؟ وفي مسلم تحته كتابية فطلقها في مرضه ثلاثا ثم اعتدت وأسلمت في عدتها أو بعد عدتها ، أو بعد أن تزوجت ؟ وأيضا - فإن الفرار بالميراث عنها يدخل في طلاق الصحيح كما يدخل في طلاق المريض ، وقد يموت الصحيح قبل المريض ، فليورثوها ممن طلقها ثلاثا - وهو صحيح - ثم مات بغتة أو من مرض أصابه ؟ وأيضا - فلا يختلفون فيمن به حين قاتل ، أو جرح فانتثرت حشوته فتحامل فوطئ جارية له فحملت - وهو يهتف بأنه إنما وطئها لتحمل - فيحرم عصبته الميراث أنها إن حملت وولدت حرمت العصبة الميراث .

فإن قالوا : وقد لا تحمل ؟ قلنا : وهو قد يفيق ، وهي قد تموت قبله - وهلا وضعوا الظن في الفرار من كتاب الله تعالى حيث هو أليق به فيقولوا : إذا طلقها ثلاثا - وهو مريض - فإنما فر عن كتاب الله تعالى فيما أوجب لها من النفقة والكسوة الواجب لها كل ذلك ، فيلزمونه الكسوة والنفقة أبدا ، فلم يفعلوا ، وأعملوا ظنهم في أنه فر عنها بميراث لم يجب لها قط .

ولا يختلفون في أن من أقر في مرضه - الذي مات فيه - بولد أنه يلحقه ويرث ويمنع عصبته الميراث ، ويحط الزوجة من ربع إلى ثمن - فهلا قالوا : إنما فعل ذلك ليحطها من الميراث ؟ وأما الحنفيون - فإنهم أمضوا فراره عن كتاب الله عز وجل ، إذ قطعوا ميراثها بعد العدة فجعلوه ينتفع بفراره عن كتاب الله تعالى في موضع ، ولا ينتفع به في موضع آخر - فهذا التخليط والخبط ، وانقطاع العدة : متولد من الطلاق الذي هو فعله . [ ص: 498 ]

ويقال لهم : قد أجزتم نكاح المريض وهو إضرار بأهل الميراث في إدخال من يشركهم فيه ؟ فهلا إذ أجزتم طلاق المريض أمضيتم حكمه في قطع الميراث ؟ ويقال للمالكيين : من أين ورثتم المخنثة لزوجها في مرضه - وهو لم يفر قط بميراثها ، ولا طلقها في مرضه ، وكيف يجوز أن يقاس غير فار على فار ؟ .

وأعجب شيء - قول المالكيين في التي يطلقها زوجها - وهو مريض - ولم يدخل بها : أنها ترثه ، وليس لها إلا نصف الصداق ؟ فهلا قالوا : إنه فر بنصف صداقها فيقضوا لها بجميعه - كما قال الحسن ؟ وهلا قالوا فيمن قال لامرأته : إن دخلت دار زيد فأنت طالق ثلاثا ، وهو صحيح فاعتلت هي فأمرت من حملها فدخلت دار زيد وقالت : إنما أفعل هذا لئلا يرثني ؟ فهذه فارة بميراثها ، فهلا ورثوه منها بعلة الفرار ؟ ولكنهم لا يتمسكون بنص ، ولا بقياس ، ولا بعلة .

وعجب آخر - وهو أنهم قالوا : إن صح لم ترثه فجعلوه ينتفع بفراره من كتاب الله عز وجل إن صح - وهذا تلاعب ، ولم يأت قط عن أحد من الصحابة أنه إن صح لم ترثه إلا عن أبي وحده .

وقد خالفه المالكيون في قوله : إلا أن تتزوج .

وخالفه الحنفيون في توريثها منه بعد العدة - والقوم متلاعبون بلا شك .

وقال بعضهم : لما كان المرض يحدث لصاحبه أحكاما لم تكن له في الصحة فيمنع من أكثر من ثلث ماله في الصدقة ، والعتق ، والهبة ، وكان الطلاق كذلك ؟ فقلنا : هذا احتجاج للخطأ بالخطأ ، وما وجب قط منع المريض من جميع ماله ، بل هو كالصحيح سواء سواء ، وحتى لو كان ما قلتم فمن أين وجب أن يكون الطلاق مقيسا على ذلك ، وما نعلم دليلا على ذلك لا من نص ، ولا من إجماع ، ولا من قول متقدم ، ولا من معقول ، ولا دعوى كاذبة - فبطل هذا أيضا بيقين ، ولا يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء .

وقد تكلمنا على هذا في " كتاب الهبات " من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته .

[ ص: 499 ] وقالوا : هذا قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم ؟ فقلنا : كذب من قال هذا ، أشنع كذب ، إنما جاءت في ذلك روايات مختلفة متناقضة عن خمسة من الصحابة فقط : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة أم المؤمنين ، وأبي بن كعب .

أما الرواية عن علي فساقطة مفضوحة ، ولم تصح قط ، لأنها عن ابن وهب وعن رجال من أهل العلم عن علي ، ثم ليس عنه إلا المطلقة في المرض ترث - ونحن نقول : إنها ترث ما لم تكن مبتوتة ، وليس فيه : أنها ترث في العدة دون ما بعد العدة ، ولا أنها ترث إلا أن يصح - فهي رواية على سقوطها غير موافقة لتحكم الحنفيين ، والمالكيين ، فكيف وقد أوردنا عن علي مثلها : لا ترث مبتوتة .

وأوردنا عنه : أنه ورث المرأة التي طلقها عثمان وهو محصور وهم كلهم لا يقولون بهذا .

والرواية عن عائشة أم المؤمنين لا تصح ، لأن سعيد بن أبي عروبة لم يسمع من هشام بن عروة شيئا قط ، فلا ندري عمن أخذه ، وهو مخالف لقول المالكيين ، فهو عليهم لا لهم - فسقطت هذه الرواية .

والرواية عن أبي ساقطة لا تصح ، لأنها من طريق شيخ من قريش لا يدرى من هو ؟ ثم هي مخالفة للحنفيين ، والمالكيين جميعا ، لأن فيها : إلا أن تتزوج - فبطل تعلقهم بما هم أول مخالفين له .

الرواية عن عمر منقطعة ، لأنها عن إبراهيم عن عمر ، وفي بعض رواياتي عن ابن عمر - وهو وهم - وكلاهما غير متصلة ، لأن إبراهيم لم يسمع قط من عمر ، ولا من ابن عمر كلمة ، وإنما تصح من الطريق التي أوردنا عن إبراهيم عن شريح مع أن كل ما روي في ذلك عن عمر مخالف للمالكيين ، لأنها كلها ، لا ترث إلا في العدة - فليس للحنفيين غير هذه الرواية وحدها .

وكم قصة خالفوا فيها الطائفة من الصحابة لا يعرف لهم فيها مخالف ، كقول عمر في امرأة المفقود وغير ذلك .

نعم ، وفي هذه الرواية نفسها ، لأن فيها : كان فيما جاء به عروة البارقي إلى شريح [ ص: 500 ] من عند عمر بن الخطاب : أن جروح الرجال والنساء سواء إلا الموضحة [ والسنن فيما جاء ] فعلى النصف .

وإذا طلق امرأته ثلاثا ورثته ما دامت في العدة .

ومن الباطل أن يكون بعض كتاب عمر حجة وبعضه ليس بحجة ، لأنهم كلهم لا يقولون بهذا .

وقد أوردنا عن عمر بأصح طريق أنه قال لغيلان بن سلمة وقد طلق نساءه وهو صحيح : لئن مت لأورثنهن منك وهم لا يقولون بهذا ، فكيف وقد صح خلاف عمر في هذا عن ابن الزبير وعبد الله بن عوف - أخي عبد الرحمن بن عوف وله صحبة - وروي عن علي مثل قولنا ، وعن عبد الرحمن بن عوف .

وأما الرواية عن عثمان فقد ذكرنا أنه لم يره طلاقا ، وأنه أمره بمراجعتها - وهذا خلاف للطائفتين معا .

ثم اضطربت رواية الثقات عنه - : فروى عنه عبد الله بن الزبير ، وحماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير : أنه لم يورثها إلا في العدة - وكذلك روى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سلمة

وروى عروة بن الزبير ، ومحمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة ، وطلحة بن عبد الله بن عوف ، وهشيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبي سلمة ، وابن المسيب : أنه ورثها منه بعد العدة - فإحدى الروايتين مخالفة للحنفيين ولا شك في أن إحداهما وهم ، لا ندري أيتهما هي ؟ ولا يجوز الحكم بقضية قد صح الوهم فيها ، فلا يدرى كيف وقعت ؟

وقد روينا عن عثمان : أن زيدا طلق امرأته - وبه فالج - فعاش سنتين ثم مات فورثها منه - وهم لا يختلفون في أن المفلوج لا يرثه بذلك المرض من طلقها فيه - فسقط تعلقهم بعثمان .

والعجب - أن الحنفيين يقولون : إنها إن سألته الطلاق في مرضه فطلقها : أنها لا ترثه ، والثابت عن عبد الرحمن أنه لم يطلقها إلا بعد أن سألته الطلاق حتى غضب ، فخالفوا عثمان في ذلك .

[ ص: 501 ] فلم يبق لهم من الصحابة رضي الله عنهم - متعلق .

فإن قيل : قد رويتم عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن الحسين بن علي طلق امرأته وهو مريض فورثته ؟ قلنا : هذه رواية لا حجة فيها ؟ أول ذلك : أنها منكرة ، لأن فيها : أن الحسين طلق امرأته وهو مريض فورثته ، والحسين - رضي الله عنه - لم يمت حتف أنفه ، إنما مات مقتولا ، فصح أنه قد كان صح من ذلك المرض فهذا مخالف للطائفتين .

ثم هي منقطعة ، لأن محمد بن علي بن الحسين لم يدرك الحسين ولا الحسن .

ثم ليس فيه : من هو المورث لها ، ولا أن الحسين أخبر أنها ترثه .

وقال بعضهم : قد رويتم أن عثمان قال لعبد الرحمن : لئن مت لأورثنها منك ؟ فقال عبد الرحمن : لقد علمت .

قالوا : فدل ذلك على موافقته لعثمان في ذلك ؟ فقلنا : كلا ، ما دل ذلك قط على موافقته لعثمان في ذلك ، بل إنما فيه مما لا يحتمل سواه : قد علمت ما أعلمني به أنه من رأيك - فبطل كل ما شغبوا به عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك - والحمد لله رب العالمين .

واعترض بعضهم على الرواية الثابتة عن ابن الزبير : أنه لا ترث مبتوتة بما حدثناه سعيد بن عبد البر البلنسي قال : نا عبد الله بن أبي زيد المالكي نا ابن عثمان نا محمد بن أحمد بن الجهم نا محمد بن شاذان نا معلى بن منصور نا هشيم عن الحجاج بن أرطاة عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال : طلق ابن عوف امرأته الكلبية - وهو مريض ثلاثا - فمات ابن عوف فورثها منه عثمان ، قال ابن الزبير : لولا أن عثمان ورثها لم أر لمطلقة ميراثا ؟ قال أبو محمد : الحجاج بن أرطاة هالك ساقط ، ولا يعترض بروايته على رواية الإمام المشهور ابن جريج عن ابن أبي مليكة إلا جاهل ، أو مجاهر بالباطل مجادل به ليدحض به الحق ، وهيهات له من ذلك ، وما يزيد من فعل هذا على أن يبدي عن عواره وجهله أو قلة ورعه - ونعوذ بالله من الضلال . فبطل كل ما موهوا به في هذه المسألة - وصح أنها خطأ محض - [ ص: 502 ] وصح أن المبتوتة في المرض ، أو المطلقة فيه ، لم يطأها لا ميراث لهما أصلا .

وكذلك المطلقة طلاقا رجعيا في المرض إذا لم يراجعها حتى مات فلا ميراث لها - وحتى لو أقر علانية أنه إنما فعل ذلك لئلا ترثه ، ولا حرج عليه في ذلك ، لأنه فعل ما أبيح له من الطلاق الذي قطع الله تعالى به الموارثة بينهما ، وقطع به حكم الزوجية بينهما .

وكذلك إن طلق وهو موقوف للقتل في حق أو باطل أو للرجم في زنى ، ولا فرق ، لأنه لم يأت نص قط بين طلاق هؤلاء وبين غيرهم بفرق .

ولا يجوز أن يرث بالزوجية إلا زوجة ، أو زوج ترثه حيث يرثها ولا فرق ، ولا يرث بالبنوة ، إلا ابن أو ابنة ، ولا يرث بالأبوة إلا أب ، ولا يرث بالأمومة إلا أم - ولا فرق بين شيء من ذلك .

والمفرق بين ذلك مؤكل مالا بالباطل ، ومن صح عنه أنه قضى بذلك من الصحابة - رضي الله عنهم - فمأجور بكل حال من خطأ أو صواب ، وإنما الشأن فيمن قلد بعض ما اجتهدوا فيه ، وخالفهم في بعضه تحكما في الدين بالهوى والباطل - وبالله تعالى التوفيق

التالي السابق


الخدمات العلمية