صفحة جزء
2017 - مسألة : وأما صفة الرضاع المحرم ، فإنما هو : ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط .

فأما من سقي لبن امرأة فشربه من إناء ، أو حلب في فيه فبلعه ; أو أطعمه بخبز ، أو في طعام ، أو صب في فمه ، أو في أنفه ، أو في أذنه ، أو حقن به : فكل ذلك لا يحرم شيئا ، ولو كان ذلك غذاءه دهره كله .

برهان ذلك : قول الله عز وجل : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } .

فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى نكاحا ، إلا بالإرضاع والرضاعة والرضاع فقط - ولا يسمى إرضاعا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع - يقال أرضعته ترضعه إرضاعا .

ولا يسمى رضاعة ، ولا إرضاعا إلا أخذ المرضع ، أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه - تقول : رضع يرضع رضاعا ورضاعة .

وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيء منه إرضاعا ، ولا رضاعة ولا [ ص: 186 ] رضاعا ، إنما هو حلب وطعام وسقاء ، وشرب وأكل وبلع ، وحقنة وسعوط وتقطير ، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئا .

فإن قالوا : قسنا ذلك على الرضاع والإرضاع ؟

قلنا : القياس كله باطل ، ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ، وبالضرورة يدري كل ذي فهم أن الرضاع من شاة أشبه بالرضاع من امرأة ; لأنهما جميعا رضاع من الحقنة بالرضاع ، ومن السعوط بالرضاع ، وهم لا يحرمون بغير النساء - فلاح تناقضهم في قياسهم الفاسد ، وشرعهم بذلك ما لم يأذن به الله عز وجل . قال أبو محمد : وقد اختلف الناس في هذا - :

فقال الليث بن سعد : لا يحرم السعوط بلبن المرأة ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأة في الدواء ; لأنه ليس برضاع ، إنما الرضاع ما مص من الثدي .

هذا نص قول الليث ، وهذا قولنا ، وهو قول أبي سليمان ، وأصحابنا .

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أرسلت إلى عطاء أسأله عن سعوط اللبن للصغير وكحله به أيحرم ؟ قال : ما سمعت أنه يحرم .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يحرم الكحل للصبي باللبن ، ولا صبه في العين أو الأذن ، ولا الحقنة به ، ولا مداواة الجائفة به ، ولا المأمومة به ، ولا تقطيره في الإحليل ؟

قالوا : فلو طبخ طعام بلبن امرأة حتى صار مرقة نضجة ، وكان اللبن ظاهرا فيها غالبا عليها بلونه وطعمه ، فأطعمه صغيرا لم يحرم ذلك عليه نكاح التي اللبن منها ، ولا نكاح بناتها .

وكذلك لو ثرد له خبز في لبن امرأة فأكله كله لم يقع بذلك تحريم أصلا فلو شربه كان محرما كالرضاع .

وأما الخلاف في ذلك فإنه قال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : السعوط والوجور يحرمان كتحريم الرضاع .

وقد تناقضوا في هذا على ما نذكر بعد هذا - إن شاء الله تعالى .

وروينا عن الشعبي : أن السعوط والوجور يحرمان . [ ص: 187 ]

قال أبو محمد : احتج أهل هذه المقالة بأن قالوا : صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنما الرضاعة من المجاعة } .

قالوا : فلما جعل عليه الصلاة والسلام الرضاعة المحرمة ما استعمل لطرد الجوع كان ذلك موجودا في السقي والأكل ؟

فقلنا : هذا لا حجة لكم فيه لوجهين :

أحدهما - أن المعنى الذي ذكرتم لا يوجد في السعوط ; لأنه لا يرفع به شيء من الجوع ، فإن لجوا وقالوا : بل يدفع .

قلنا : لأصحاب أبي حنيفة : إن حظ السعوط من ذلك كحظ الكحل والتقطير في العين باللبن سواء بسواء ; لأن كل ذلك واصل إلى الحلق إلى الجوف ، فلم فرقتم بين الكحل به وبين السعوط به ؟

هذا وأنتم تقولون : إن من قطر شيئا من الأدهان في أذنه وهو صائم فإنه يفطر ، وكذلك إن احتقن فإن كان ذلك يصل إلى الجوف فلم يحرموا به في اللبن يحقن بها أو يكتحل به - وإن كان لا يصل إلى الجوف - فلم فطرتم به الصائم ؟ وهذا تلاعب لا خفاء به .

وقال مالك : إن جعل لبن المرأة في طعام وطبخ وغاب اللبن أو صب في ماء فكان الماء هو الغالب فسقي الصغير ذلك الماء أو أطعم ذلك الطعام لم يقع به التحريم .

وأيضا - فإنهم يحرمون بالنقطة تصل إلى جوفه وهي لا تدفع عندهم شيئا من المجاعة فظهر خلافهم للخبر الذي موهوا بأنهم يحتجون به .

والوجه الثاني - : أن هذا الخبر حجة لنا ; لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة ولم يحرم بغيرها شيئا فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل أو شرب أو وجور أو غير ذلك ، إلا أن يكون رضاعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } .

فإن موهوا بما روينا من طريق عبد الرزاق أنا ابن جريج أنا عبد الكريم أن سالم بن أبي الجعد مولى الأشجعي حدثه أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب فقال : إني [ ص: 188 ] أردت أن أتزوج امرأة وقد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به ؟ فقال له علي : لا تنكحها ونهاه عنها . وكان علي بن أبي طالب يقول : إن سقته امرأته من لبن سريته ، أو سقته سريته من لبن امرأته لتحرمها عليه فلا يحرمها ذلك .

قال أبو محمد : هذا عليهم لا لهم ; لأن فيه رضاع الكبير والتحريم به - وهم لا يقولون بذلك ، وفيه أن رضاع الضرائر لا يحرم عند علي وهم لا يقولون بهذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية