صفحة جزء
وأما المشهور من قول المالكيين أنهم يقولون بتخيير الإمام في قتل المحارب ، أو صلبه ، أو قطعه ، أو نفيه - فمن أين أوجبوا قتل المسلم بالذمي - ولا بد - في الحرابة وتركوا قولهم في تخيير الإمام فيه - فوضح فساد قولهم بيقين لا إشكال فيه ، وأنه لا حجة لهم أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

ثم نظرنا - في قول من قال : يقتل المسلم بالذمي ، وبالمعاهد ، فوجدناهم يحتجون بقول الله عز وجل : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } قالوا : هذا عموم .

[ ص: 225 ] وبقوله تعالى : { والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

وقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .

وقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وبقوله عز وجل : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } .

وبقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .

وقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } .

قالوا : وذو العهد - وإن كان كافرا - فإنه إن قتل بغير حق فهو مظلوم بلا شك .

وبالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما يودى وإما يقاد } .

وبالخبر الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضا { لا يحل دم رجل مسلم إلا ثلاثة نفر ، فذكر فيهم النفس بالنفس } .

قال علي : وسنذكرهما بأسانيدهما - إن شاء الله تعالى بعد هذا .

قال أبو محمد رضي الله عنه : واحتجوا - بما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن البيلماني يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم { أنه أقاد مسلما قتل يهوديا ، وقال : أنا أحق من وفى بذمته } .

ورواه بعض الناس عن يحيى بن سلام عن محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكروا أشياء ادعوا فيها الإجماع - وهو أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما مات أبوه - رضي الله عنه - قتل الهرمزان وكان مسلما ، وقتل جفينة وكان نصرانيا ، وقتل بنية [ ص: 226 ] صغيرة لأبي لؤلؤة وكانت تدعي الإسلام - فأشار المهاجرون على عثمان بقتله ؟ قالوا : فظاهر الأمر أنهم أشاروا بقتله بهم ثلاثتهم . وقالوا : كما لا خلاف في أن المسلم يقطع إن سرق من مال الذمي ، والمستأمن ، فقتله بهما أولى ; لأن الدم أعظم حرمة من المال ، وقالوا لنا خاصة : أنتم تحدون المسلم إن قذف الذمي ، والمستأمن ، وتمنعون من قتله بقتله لهما - وهذا عجب جدا ؟ واحتجوا على الشافعيين بقولهم : إن قتل ذمي ذميا ثم أسلم فإنه يقتل به عندكم ، ولا فرق بين قتلكم مسلما بكافر ، وبين قتلكم مسلما بكافر في المسألة الأخرى ؟ قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه : أما قول الله عز وجل : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فإن هذا مما كتب الله عز وجل في التوراة ، ولا تلزمنا شرائع من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام ثم لو صح أننا ملزمون ذلك لكان القول في هذه الآية كالقول في الآيات الأخر التي ذكرناها بعدها ، وفي الأخبار الثابتة التي أوردنا ، وفيها { أو نفس بنفس } .

وأيضا - ففي آخر هذه الآية بيان أنها في المؤمنين بالمؤمنين خاصة ; لأنه قال عز وجل في آخرها : { فمن تصدق به فهو كفارة له } ولا خلاف بيننا وبينهم في أن صدقة الكافر على ولي الكافر الذمي المقتول عمدا لا تكون كفارة له - فبطل تعلقهم بهذه الآية .

وأما قوله عز وجل : { والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فإن الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين لا للكافرين ، فالمؤمنون هم المخاطبون في أول الآية ، وآخرها بأن يعتدوا على من اعتدى عليهم ، بمثل ما اعتدى به عليهم - وليس فيها : أن يعتدي غير المؤمنين على المؤمنين باعتداء يكون من المؤمنين عليهم أصلا .

وإنما وجب القصاص من الذمي للذمي بقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } لا بالآية المذكورة .

وأما قوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } فهو أيضا في المؤمن [ ص: 227 ] يساء إليه خاصة ; لأن نصها { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } ولا خلاف في أن هذا ليس للكفار ولا أجر لهم ألبتة .

وأما قوله عز وجل : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } فكذلك أيضا إنما هو خطاب للمؤمنين خاصة ، يبين ذلك ضرورة قوله تعالى فيها : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } ولا خير لكافر أصلا صبر أو لم يصبر - : قال الله عز وجل : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } .

وأما قوله تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } وقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } .

وقوله تعالى : { ثم بغي عليه لينصرنه الله } .

وقوله عز وجل : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } الآية .

والأخبار الثابتة التي فيها { النفس بالنفس } و { من قتل له قتيل فإما يودى وإما يقاد } .

فإن كل ذلك يخص بقول الله عز وجل : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } .

وبقوله تعالى : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وبقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } .

فوجب يقينا أن المسلم ليس كالكافر في شيء أصلا ، ولا يساويه في شيء ، فإذ هو كذلك فباطل أن يكافئ دمه بدمه ، أو عضوه بعضوه أو بشرته ببشرته - فبطل أن يستقاد للكافر من المؤمن ، أو يقتص له منه - فيما دون النفس - إذ لا مساواة بينهما أصلا .

[ ص: 228 ] ولما منع الله عز وجل أن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا وجب ضرورة أن لا يكون له عليه سبيل في قوده ، ولا في قصاص ، أصلا - ووجب ضرورة استعمال النصوص كلها ، إذ لا يحل ترك شيء منها .

ومن فضائح الحنفيين - المخزية لقائلها في الدنيا والآخرة - قطعهم يد المسلم بيد الذمي الكافر ، ومنعهم من قطع يد الرجل المسلم بيد المرأة الحرة المسلمة ، نعم ، ولا يقطعون يد الذمي الكافر إن تعمد قطع يد امرأة حرة مسلمة ، فاعجبوا لهذه المصائب مع قول الله عز وجل : { إنما المؤمنون إخوة } .

فإن اعترضوا في الآية المذكورة - بما روينا من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن زر عن يسيع الكندي قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال له : كيف تقرأ هذه الآية { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وهم يقتلون - يعني المسلمين - فقال علي : فالله يحكم بينهم يوم القيامة ، ولن يجعل الله للكافرين - يوم القيامة - على المؤمنين سبيلا . قال أبو محمد رضي الله عنه : يسيع الكندي مجهول لا يدري أحد من هو ؟ وجواب هذا السائل : أن هذه الآية حق واجب في الدنيا والآخرة ، إنما منع الله تعالى من أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل بحق يجعله الله تعالى له ، ويأمر بإنفاذه للكافر على المسلم في الدنيا ويوم القيامة .

وأما بالظلم والتعدي - فلم يؤمنا الله تعالى - قط - من ذلك ، كما أطلق أيدي الكفار فيما خلا على بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقتلوهم ، وعلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه المقدس ، وكسروا ثنيته - بنفسي هو ، وبأبي وأمي .

وكما أطلق ألسنة الحنفيين ، وأيدي من وافقهم بإيجاب الباطل في القصاص للكافر من المسلم - وكل ذلك ظلم لم يأمر الله تعالى به ، ولا رضيه ولا جعله حقا ، بل أنكره عز وجل أشد الإنكار ؟ نعم ، وفي الآية التي فيها { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وهذا نص جلي بأنها في المؤمنين خاصة ، بعضهم في بعض [ ص: 229 ] فقط ; لأنهم إخوة كلهم ، فاسقهم وصالحهم ، عبدهم وحرهم ، وليس أهل الذمة إخوة لنا - ولا كرامة لهم .

وكذلك قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } فمعاذ الله أن يكون هذا لكافر ، والله ما جعل تعالى لهم قط - بحكم دينه - سلطانا ، بل جعل لهم الصغار ، قال عز وجل : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } .

فإن قالوا : فإذ لا يساووننا فلم قتلتم الكافر بالمؤمن ؟ قلنا : ولا كرامة أن نقتله به قودا ، بل قتلناه ; لأنه نقض الذمة ، وخالف العهد بخروجه عن الصغار ، وكذلك نقتله إن لطم مسلما أو سبه ، ونستفيء جميع ماله بذلك ، ونسبي أهله وصغار ولده .

فإن قالوا : فلم تحكمون على المسلم برد ما غصبه من الذمي أو منعه إياه من المال ؟ قلنا : ليس في هذا سبيل له على المسلم ، إنما هي مظلمة يبرأ منها المسلم تنزيها له عن حبسها فقط .

قال أبو محمد رضي الله عنه : ويوضح هذا غاية الوضوح - : ما رويناه من طريق أبي داود السجستاني قال : أنا أحمد بن حنبل أنا يحيى بن سعيد القطان أنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري { عن قيس بن عباد قال : انطلقت أنا وآخر - ذكره - إلى علي بن أبي طالب فقلنا : هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا لم يعهده إلى الناس عامة ؟ قال : لا ، إلا ما في كتابي هذا ، فإذا فيه المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } .

أنا حمام بن أحمد بن حمام القاضي أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن [ ص: 230 ] أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ومحمد بن إسماعيل الترمذي ، قال عبد الله : أنا أبي ، وقال الترمذي : أنا الحميدي ، ثم اتفق أحمد بن حنبل ، والحميدي - واللفظ له - قالا جميعا : أنا سفيان بن عيينة أنا مطرف بن طريف قال : سمعت الشعبي يقول : أنا أبو جحيفة - هو السوائي - قال : قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن ؟ قال علي " لا ، والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه ، أو ما في الصحيفة ؟ قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر " .

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا لا يحل لمسلم خلافه .

فاعترض فيه أهل الجهالة المضلة بأن قالوا : قد روي هذا الخبر من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار أنا الحجاج بن المنهال أنا همام عن قتادة عن أبي حسان ، قال : { قال علي بن أبي طالب ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا دون الناس إلا صحيفة في قراب سيفي ؟ فلم يزالوا به حتى أخرجها ؟ فإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده } .

قالوا : فمرة رواه قتادة عن الحسن ، ومرة رواه عن أبي حسان مرسلا - وهذه علة في الخبر ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ ما جعل مثل هذا علة ، إلا ذو علة في دينه ، وما ندري في رواية قتادة للخبر - مرة عن أبي حسان ، ومرة عن الحسن - : وجها يعترض به ، إلا من عدم الحياء ، وكابر عين الشمس .

وقالوا أيضا : قد رويتم من طريق وكيع أنا أبو بكر الهذلي عن سعيد بن جبير قال : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر - إن أهل الجاهلية كانوا يتطالبون بالدماء ، فلما جاء الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقتل رجل من المسلمين بدم أصابه في الجاهلية } .

[ ص: 231 ] قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا عجب جدا ، أبو بكر الهذلي : كذاب مشهور ؟ ثم لو رواه أيوب عن سعيد بن جبير لما كانت فيه شبهة يتعلق بها مخالف للحق ; لأنه إما رأى ما رآه سعيد بن جبير فهو كسائر الآراء ، لا يعترض بها على السنن ، ولا كرامة - وإما سمعه ممن لا يدرى [ من هو ] فهذا أبعد له من أن يتعلق به .

ثم لو صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لكان هذا خبرا قائما بنفسه ، كوضعه - عليه الصلاة والسلام - دماء الجاهلية في " حجة الوداع " وكان ما في صحيفة علي بن أبي طالب خبرا آخر قائما بنفسه لا يحل تخصيصه بذلك الخبر ; لأنه عمل فاسد بلا برهان ، ودعوى بلا بدليل ، وضرب للسنن بعضها ببعض ، كمن أباح أكل الخنزير ، وشرب الخمر بقول الله عز وجل : { وكلوا واشربوا } ولا فرق .

وقالوا أيضا : قد رويتم هذا الخبر من طريق أبي داود السجستاني ، قال : أنا مسلم بن إبراهيم أنا محمد بن راشد أنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يقتل مؤمن بكافر فمن قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية } .

قال أبو محمد رضي الله عنه :

التالي السابق


الخدمات العلمية